كتاب عتبات النص كتاب أهداه إلي الباحث الشاب يوسف الإدريسي مشكورا ، ورد جميل هدية كهذه يكون بقراءة الكتاب وإبداء الرأي فيه ، لا من باب الأستاذية ـ معاذ الله ـ وإنما من باب الزمالة و الصداقة والحب المتبادل بين الأصدقاء و الزملاء .
بعد قراءة هذا الكتاب قراءة متسرعة بدت لي هذه الانطباعات الأولية التي يمكن أن تكون أيضا متسرعة وغير دقيقة، لكنها تعكس حبي للموضوع وللكتاب وصاحبه .
1 ـ اسم المؤلف
ابتدأ الباحث يوسف الإدريسي قراءته لعتبات رواية "هنا .. الآن...أو شرق المتوسط مرة أخرى" لعبد الرحمان منيف مما أسماه الإسناد. والإسناد مصطلح حديثي قبل أن يكون مصطلحا بلاغيا، ولا يفيد دائما في الحديث أو في البلاغة أن المسند هو فاعل الفعل. فقد يكون ناقلا أو راوية، لذا أفضل مصطلح الكاتب أو المؤلف الذي يفيد في الاصطلاح الأدبي كاتب العمل ومؤلفه ومبدعه . فهل تفيد هذه العتبة دائما، وكيف تفيد ؟
إن هذه العتبة تفيد إذا كان المؤلف اسما حجة في تخصصه، وفي هذه الحالة، سيكون لها وظيفة الإثارة والجدية والمصداقية واختمار الرأي، مما يساعد على حسم التردد في شراء الكتاب. وقد يكون اسم المؤلف ماركة مسجلة لكنها ذات سمعة عكسية منحطة، وفي هذه الحالة قد تكون هذه العتبة وبالا على الكتاب. أما إذا كان اسم المؤلف غير متداول في الأوساط النقدية، إذ ذاك يكون محايدا ، وتنحصر وظيفة هذه العتبة في تحقيق التراكم ليصبح الاسم ذات قيمة علمية وثقافية في مجال اختصاصه .
قد لا أكون عارفا كقارئ عاد بحياة عبد الرحمان منيف الشخصية، ولا قرأت رواياته أو بعضها، لكن موقف النقد منه جعله يتصدر مكانة مرموقة في الإبداع الروائي، وأقنع القارئ العربي بهذا الحكم. من هنا، فالذي يحدد قيمة المؤلف ليس هو كتاباته وحدها عند جمهور القراء غير المتخصصين، ولكنه موقف النقد منه، وموقف الثقافة المدرسية والجامعية التي تعد بمثابة اللوحة الإشهارية التي تُعلق عليها قيمة هذا الكاتب أو ذاك، أو هذا العمل أو ذاك. من هنا فهذه الكتابات هي التي يمكن أن تكون المتن الذي يجب أن يحدد لنا قيمة المؤلف لا حياته الشخصية ، ولا عرض كافة أعماله الأدبية وغير الأدبية، ولا خصوصية هذه الأعمال التي يجهلها القارئ غير المختص عادة . فما هي مكانة هذا الاسم في الثقافة العربية؟ وما مدي حضوره كاسم في المجلات والصحف الثقافية ؟ وما مدى حضوره في الثقافة المدرسية والجامعية .
إن عبد الرحمان منيف اسم له حضور ثقافي متميز في مجال الكتابة الروائية، احتفى به النقد الصحافي والنقد الأكاديمي، ولا تذكر الرواية العربية والروائيون العرب إلا وتصدر لائحة الروائيين الكبار المتميزين. لذا فهو مبدع حجة لما حققته كتاباته الروائية السابقة من سمعة طيبة.
العنونة :
نجح يوسف الإدريسي في مقاربة أسلوبية للعنوان فحلل مكوناته " (هنا) و نقط الحذف و( الآن) و حرف العطف( أو) و (شرق المتوسط مرة أخرى) واللون . لكنه في تحليله هذا يقدم تفسيرا وتأويلا لنتائجه بالعودة إلى النص الروائي، دون الالتفات إلى الوظائف التي حددها في فصله الثاني المتعلق بالتنظير الغربي، وبشكل خاص وظيفة الإثارة ، وهي وظيفة لا تجد تأويلها وتفسيرها في المتن الذي لم يقرأ بعد، بل في غموض مكونات العنوان وشعريته التي تفتحه على تأويلات شتى تهم القارئ وتغري فضوله، وتخلق لديه شهية القراءة. وهذا ما حققته الإشاريات (هنا) ونقط الحذف و(الآن). لقد ذكر الكاتب الزمان والمكان وأخفى الفعل ليعلن ضرورة قراءة الرواية لإشباع الفضول .
وحتى يغري قارئه أكثر، ويحكم عليه الطوق، ولا يسمح له بالتبرم، يضيء هذا الغموض الذي يكاد يكون معتما لإبهاميته بالإشارة إلى شرق المتوسط مرة أخرى . وهو شرق معلوم في الرواية الأولى، لكن هذه الرواية بالتأكيد تقدم فعلا آخر من الأفعال التي تميز شرق المتوسط، قد يكون فعلا نقيضا للفعل الأول، وقد يشترك معه الحقل الدلالي نفسه،، لكن عبارة مرة أخرى توحي بالتماثل بين الفعل الأول الذي تتحدث عنه الرواية الأولى والفعل الثاني الثاوي في الرواية الثانية.
وقد أشار الإدريسي إلى غياب الفعل في عتبة العنوان وفسر هذا الغياب بتماثل كل البلاد العربية وتشابهها من المحيط إلى الخليج في هذا الوضع . وهو تأويل غير مقنع، لأن التماثل في الأمكنة لا يكون بالفعل، وغياب الفعل هنا، قد يكون دلالة على السكون وعدم التغيير بين شرق المتوسط في زمن الرواية الأولى وشرق المتوسط في زمن الرواية الثانية.
إن غيابه غياب للتحول في الزمن بين الأمس واليوم ، وليس غيابا له في المكان ، فالمقارنة إذن تكون بين زمنين وليس بين مكانين.
وقد أبدع الإدريسي في تحليل أيقونة الغلاف التي توحي بعالم السجن والتعذيب الذي يمارس فيه .
وتبقى ملاحظة بسيطة حول هذا التحليل تتعلق بالاستشهاد بالنص لتأكيد تأويلاته، والواقع أن قيمة العتبات تكمن في ما توحي به من احتمالات تثير في القارئ شهية القراءة ، وهذا يتحقق قبل قراءة نص الرواية ، وبذلك ينبغي قراءة صورة الغلاف ـ بوصفها عتبةـ لها وظائف معينة باستقلال عن الرواية .
المقتبسات : بقدر ما كان الباحث الإدريسي موفقا إلى حد بعيد في مقاربة العنوان والأيقونة بقدر ما تاه في تحليل المقتبسات، إذ فهمها فهما خاصا بعيدا عن النص وحاول جاهدا ربطها به مستشهدا بجمل وعبارات من الرواية .
تقول المقتبسة الأولى من حياة الحيوان الكبرى لكمال الدين الدميري : " وروي عن ابن عدي عن عمرو بن حنيف عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ص قال : أدخلت الجنة فرأيت فيها ذئبا ، فقلت : أذئب في الجنة ؟ فقال : أكلت ابن شرطي ، فقال ابن عباس : هذا وإنما أكل ابنه ، فلو أكله رفع في عليين."
يرى الباحث أن هذه المقتبسة تريد الإشارة إلى توهم الذئب بأنه قام بفعل حسن ضانا منه تخلصه من مصدر الإيذاء والظلم، وذلك بانتقامه للبشر من الشرطي وأكله لابنه، بينما هو في الحقيقة لم يقم إلا بالاعتداء على إنسان بريء لا وزر له في ما يرتكبه أبوه من آثام. فقد أكل ابن الشرطي تاركا أباه دون أن يمسه بسوء وكان عليه بالأحرى أن يتخلص منه هو ذاته ...وهذا يكشف أن الذئب ظل وفيا لبطشه وأفعاله القبيحة." ص77
يربط الباحث في ص 77 بين الذئب وبين زكي رمز القيادة البيروقراطية الذي يراه : ذئبا ماكرا بارعا و أقرب إلى النفاق. ويتوهم ( زكي)ـ مثلما يتوهم الذئب من قبل ـ أنه يسجل انتصارا ، ويحمي التنظيم بطرد مجموعة من الأعضاء منه، بدعوى الانحرافات و الأخطاء الجسيمة التي تسببوا فيها .
ويضيف في ص 78 : "وتجد هذه الإشارة ما يدعمها في كون الذئب حسب ما جاء في المقتبسة ووفق الصفات التي يتميز بها لا يمكنه أن ينهي حياة ابن شرطي بل ولا حتى حياة الشرطي نفسه لكونهما ( الشرطي و الذئب ) يلتقيان معا في إيذاء الناس و البطش بهم، ومن ثمة يستحيل أن يساهما في تخليص الناس من أي أذي يلحق بهم ، الأمر الذي يستوجب ألا يتكل الإنسان على الآخرين في التصدي للمخاطر التي تعترضه وإرجاع حقوقه ولكن عليه أن يعمل بنفسه على تحقيق ذلك" .
ويخلص من خلال هذا كله إلى الخلاصة الآتية : تروم المفارقة التي تتضمنها المقتبسة الأولى التأكيد أن الذئب باعتباره من رموز الإساءة والبطش لا يمكنه أن ينوب عن الناس في وضع حد للمكروه الذي يصيبهم كما أن الجلاد بأشكاله الظاهرة والخفية لا يمكن التخلص منه بعامل خارجي ، ولا بالمبادرات الفردية أو حتى الجماعية المحدودة بل بتضافر كل القوى والجهود ".
هذا التحليل الذي قام به الباحث الإدريسي يجانب الاحتمالات التي توحي بها المقتبسة الأولى كثيرا، ومرد ذلك كما سبقت الإشارة إلى محاولة تأويلها بعد قراءة نص الرواية التي وجهت التحليل والتأويل .
نص كمال الدين الدميري ـ كعتبة ـ يجب أن يفهم في ذاته بوصفه حديثا نبويا شريفا، ثم فهمه في علاقته بالعنوان ، وصورة الغلاف، وما يوحي به من احتمالات يتضمنها نص الرواية .
أولا النص بوصفه حديثا نبويا : أورد عبد الرحمان منيف النص من حياة الحيوان الكبرى بوصفه حديثا نبويا شريفا مرفوع السند إلى الرسول (ص) ، وهذا الشكل ـ سواء كان الحديث صحيحا أم موضوعا لأن المجال ليس مجال تصحيح الإسناد، وإنما المهم هو شكل تقديم المقتبسة ـ يمنح نص مصداقية وصحة، إذ يصبح موضوع الحديث صحيحا لا يمكن الطعن فيه أو رده أو تكذيبه مادام مرويا عن الرسول الكريم .
مضمون الحديث : الذئب حيوان مفترس خبيث وماكر ،عدو للإنسان ذو طبائع عدوانية. خطاياه لبشاعتها وتعددها يعتقد أنها لا تغتفر، بدليل أن الرسول (ص) استفهم متعجبا لما رآه في الجنة قائلا أذئب في الجنة؟ ومع ذلك غفرت هذه الخطايا، ودخل الجنة بفعل واحد ووحيد هو أكل ابن شرطي ، والمغفرة تدل هنا منطوقا على نبل الفعل الذي قام به الذئب، وبالمقابل تدل مفهوما على بشاعة الفعل الذي يقوم به الشرطي، لا اجتماعيا فحسب وإنما دينيا أيضا. و يتأكد هذا التفسير بقول ابن عباس: هذا ، وإنما أكل ابنه ، فلو أكله رفع في عليين ، أي أن يرفع إلى مقام الأنبياء والصديقين والشهداء، كما يؤكد الحديث أن الشرطي بطبعه ظالم ومعتدي ،و أن ضحاياه من السجناء أبرياء.
2 ـ المقتبسة في علاقتها بالعنوان وصورة الغلاف: تضيء المقتبسة الفعل المستتر في العنوان ، وتؤكد الاحتمالات التي توحي بها صورة الغلاف أي أن موضوع الرواية أو الفعل التي تتحدث عنه هو عالم السجن والتعذيب والتنكيل بالضحايا المظلومين.
3 المقتبسة وعلاقتها بالمتن ، توحي المقتبسة بقساوة التعذيب وجرمه، ومهما تخيلنا درجة القسوة والعنف والتعذيب الذي يمارسه الجلادون، فإنه لن نعبر عن قسوته مثلما عبرت عنه المقتبسة. فهي تفتح التخيل إلى أقصى مدي يمكن تصوره مادام الله عز وجل قد غفر للذئب كل خطاياه لما أكل ابن الشرطي و ليس الشرطي نفسه ، مما يجعل القارئ يلج باب الرواية حذرا من رؤية بشاعة الفعل الذي يقوم به رجل الشرطة.
إن هذه المقتبسة بقدسيتها ومضمونها بمثابة التحذير الذي يكتب على الشاشة قبل رؤية منظر لا يحتمل: " ممنوع على الأشخاص الذين لا يتحملون رؤية مشاهد التعذيب "
يتبين من هذا التحليل أن الشخصية التي يتمحور حولها موضوع المقتبسة هو الشرطي وليس الذئب كما يوهمنا تحليل الباحث الإدريسي. ويؤكد ذلك مضمون المقتبسة الثانية التي وردت في كتاب هادي العلوي المستطرف : روي عن سفيان الثوري " إذا رأيتم شرطيا نائما عن صلاة فلا توقظوه لها ، فإنه يقوم يؤذي الناس.
إنه المضمون نفسه الذي توحي به المقتبسة الأولى مع فرق في الدرجة، فالصلاة كانت على المومنين كتابا موقوتا، والواجب إيقاظ الشرطي حتى لا يفوته أجر الصلاة في وقتها وأجر الجماعة، لكن سفيان الثوري قارن بين أجر الصلاة الجماعية في وقتها، ـ وهو أجر كبير ـ وبين إيذاء الناس الذي ينتج عن إيقاظ الشرطي، فاستعظم الأذى على الأجر، وهذا يعكس أيضا مدى الأذى الذي يلحقه الشرطي بالناس والذي بسببه دخول الذئب الجنة.
في ختام هذه الانطباعات الأولية، أؤكد أن للكتاب قيمته العلمية والتربوية التي لا يستهان بها أو تجاهلها، وقراءته قراءة انتقادية هو السبيل الوحيد الذي يفيد الباحث الإدريسي كباحث شاب يتلمس خطواته الأولى في البحث العلمي. بهذه النية قرأت الكتاب وأبديت هذه الملاحظات. والله على ما أقول شهيد .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق