السبت، 14 مايو 2011

القصيدة العربية المعاصرة بين الرؤية و الرؤيا

استهلالات


إنني أستعين بالخيال والحلم والرؤيا لكي أعانق واقعي الآخر، ولا أعانقه إلا بهاجس تغيير الواقع وتغيير الحياة . أدونيــس


الحداثة تعبير عن الوعي الجمعي للأمة وفق أكثر الأشكال الأدبية تواصلا مع التراث ومعاصرة الإبداع . محيي الدين صبحي


الجوهر الأصيل للإنسان ليس في ذاته الفردية المنعزلة، بل في علاقته الموضوعية بواقعــه الاجتمـاعي والتاريخي. محمود أمين العالم



    تسعى الحداثة الشعرية العربية بمختلف اتجاهاتها إلى أن تكون حداثة شمولية، ومشروعا حضاريا يتوخى العالمية والإنسانية والمعاصرة. فاعتبرت التحديث الشكلي وهما، وطالبت الشاعر الحديث أن يكون له موقف إزاء الكون والإنسان والحياة والأشياء، وأن يتجاوز المناسبات والأغراض الشعرية الموروثة من مدح ورثاء وهجاء ووصف... .
ويرى نعيم اليافي أن هذا التحول ترتبت عنه ثلاثة أمور أساسية في مجال الشعرية العربية:
أولها أن الشعر أصبح معرفة بالعالم وليس وصفا ظاهريا له.
وثانيها أنه أصبح كشفا له وليس اجترارا وإعادة إنتاج.
وثالثها أنه أصبح تحديا له وصراعا معه وتمردا عليه .
إلا أن هذا الموقف بنتائجه الثلاث ( المعرفة ـ الكشف ـ التمرد ) يختلف من اتجاه إلى آخر، بل من شاعر إلى آخر .
فالاتجاه الحداثي ممثلا في أدونيس يرى أن الشعر الحديث شعر رؤيا . أي كشف عن عالم يظل في حاجة إلى الكشف بواسطة الحدس والتخييل والحلم. إنه إدراك ذاتي إلى أقصى درجة، وتجاوز للمعرفة المشتركة، معرفة العقل والمنطق والحواس، واستغراق كلي في عالم الذات.
هذه المفاهيم ( الكشف ـ الحلم ـ الحدس ) توحي بميتافيزيقية الرؤيا الحداثية بوصفها موقفا من العالم، وبتلقائية الإبداع وفوضويته، بعيدا عن أي تنظير قبلي أومعرفة سابقة، ذلك أن الرائي ـ الشاعر يرتبط بما فوق الواقع، ويدرك الأشياء في حقيقتها المطلقة كما يعيشها، وكما تراها عينه الباطنية.
هذا التصور الأدونيسي مستقى من التصور الفرنسي للرؤيا، وبشكل خاص تصور بودلير و رامبو و مالارمي، إذ مع هؤلاء الشعراء وغيرهم أصبح دور الشعر هو إعادة الاتصال "بالقوى الغامضة للإنسان واللغة بعيدا عن أي مسعى عقلاني" . فالرؤيا عند بودلير شعور بالاندماج والمطابقة بين الذات والموضوع على نحو ملموس وحاد . وعند مالارمي، مطاردة المطلق العنيد اليائس تقريبا . أما رامبو، فطلب من الشاعر أن يتوصل إلى الكشف عن المجهول عبر تشويش على الحواس، وأن يكون سارق نار. وبعد عودته يشعرنا باكتشافاته .
وقد جمع الاتجاه الحداثي، وأدونيس بشكل خاص، هذه الآراء ووفق بينها، فصاغها تنظيرا وإبداعا، وجعل من الغرابة موضوعا، ومن مطاردة المجهول والمطلق وظيفة، ومن الحلم والحدس والتخييل وسيلة. أما الاتجاه القومي ممثلا في محيي الدين صبحي أحد كتاب الاتجاه القومي اللبرالي، فيرى الرؤيا تعميقا للمحة من اللمحات بشكل يبرزها على أنها رؤيا شاملة، وموقف من الحياة يفسر الماضي، ويشمل المستقبل . ولا يربط هذا الاتجاه الرؤيا بالحلم والسحر والنبوة كما الاتجاه الحداثي، وإنما يراها نظرة شاملة تتحقق في كل مكونات النص الشعري (البنية ـ الأسلوب ـ الصور). إنها وجهة نظر المبدع يصوغ من خلالها تجربته الحياتية والفنية. وتتكون من سلسلة من الفرضيات تولدت في عقل شامل، وفكر حساس يستجيب لتجارب الحياة استجابة فنية، وتكون تفسيرا للحياة أو اقتراح بديل لها. ذلك أن الشاعر المبدع لابد أن يقف موقفا من الحياة. موقف المؤيد، وفي هذه الحالة يكون شعره تفسيرا لها، أو موقف الرافض، فيكون شعره حاملا لبديل مأمول، وإجابة لتساؤلات إنسانية كبرى.
ويرى صبحي مستشهدا بإليوت أن الرؤيا تجمع بين الفكر والشعور . فالشاعر يدرك موضوعه إدراكا ذاتيا يخرجه من المألوف والشائع ويضفي عليه صفة الغرابة والتعجب والاندهاش . وقد عرف تاريخ الشعر العربي الحديث انفصالا بين الفكر والشعور، فالكلاسيكية ألغت البعد الانفعالي، وغلبت البعد الموضوعي. والرومانسية غلبت الميوعة العاطفية، فانفصل الشعر عن الحياة ؛ فظهرت القصيدة العربية المعاصرة لتعيد توحيد الفكر بالشعور .
وإذا كان أدونيس يرى في الرؤيا حلما ونبوءة فردية وذاتية، فإن صبحي يرى أنها تتعدى الظروف الشخصية للشاعر للتعبير عن الذات الجماعية في تجاربها الماضية وتطلعاتها المقبلة. " فالأدب ليس تعبيرا عن ذات الشاعر الخاصة إلا بمقدار ما ترتبط هذه الذات باللاوعي الجمعي للعرق، ومن ورائه بالتجارب الإنسانية جمعاء. هذه الكلية في الشعور تملي على التعبير قدرا من الموضوعية يبتعد به عن المواقف الذاتية والظروف الشخصية، إلا إذا استخدمت هذه المواقف الذاتية والظروف كوسائل لأسطرة الحادثة، أو لإبراز النموذج البدئي. غير أن هذه الموضوعية ليست علمية، بل هي موضوعية ناشئة عن خروج الذات من إنيتها لتقع في الذات الجمعية للجنس البشري" . ويتوسل الشاعر لإبراز موضوعية الرؤيا بتقنيات متعددة أهمها الرمز والنموذج البدئي والأسطورة والحوار الذاتي والمسرحي والقناع ... ويرى صبحي أن هذه الموضوعية هي التي تجعل " العمل الفني لا يتساوى مع قصد الكاتب منه (...) وهذا ما يجعل من الإبداع عملية اكتشاف مفعمة بالمفاجآت والدهشات" . كما تجعل منه معادلا موضوعيا مستقلا بذاته حاملا لمفاتيحه من داخله لا من خارجه . واضح من هذا التصور أن الرؤيا القومية كما نظر لها محيي الدين صبحي تنحو نحو الرؤية العقلانية أكثر منها نحو الرؤيا في بعدها الشخصاني. فهي مرتبطة بالوعي الجمعي للأمة ماضيها وحاضرها، وتتطلع نحو مستقبل محدد واضح المعالم تتغيا الذات الجمعية تحقيقه. وبذلك، فلا مجال فيها للعفوية والتلقائية والهذيان على نحو ما نجد عند الحداثيين .
وإذا كانت المسافة بين الرؤية والرؤيا واسعة عند الحداثيين، وضيقة عند القوميين، فإنها تنمحي عند الواقعيين الجدد الذين يرون أن الثقافة "محصلة لعملية متعددة العوامل يقوم بها المجتمع بكافة فئاته ومختلف وسائله، فالثقافة ترتبط بهذه العملية المتفاعلة لا ارتباط معلوم بعلة محددة ، وإنما ارتباط تفاعل كذلك ." لقد وقف هذا الاتجاه موقفا رافضا ومعارضا للاطلاقية الفردية وللانعزالية ولكل الأخلاق الوجودية التي نادت بها الآداب وشعر،"فالجوهر الأصيل للإنسان ليس في ذاته الفردية المنعزلة، بل في علاقته الموضوعية بواقعه الاجتماعي والتاريخي، أما عزله كذات فردية فعمل فيه تعسف وافتعال، بل هو موقف مريض بجانب الوضع السليم لطبيعة الأمور" .ذلك أن القول بإطلاقية الفعل والحرية، هو إغفال لقوانين الفعل وحدود هذه الحرية، ووضع حد للتطور الإنساني في حدوده الاجتماعية.
وإذا كان لكل مجتمع فلسفته، فإن الواقعية الجديدة ترى أن فلسفة العالم العربي لا توجد في أوهام الوجودية إن في بعدها السارتري ـ القومي أو بعدها الهيدجيري ـ الحداثي، وإنما توجد في فلسفة " تعكس إيماننا بالعلم وقوانينه الموضوعية، تعكس احترامنا للتاريخ الإنساني الجليل الحافل بالجهود والانتصارات والقيم، تعكس كفاحنا المظفر ضد قوى الاستعمار والرجعية " . فالشعر المصري في ما يرى محمود أمين العالم نشأ من عمليات المقاومة والكفاح من أجل بناء قوميتنا العربية ، لذا لن يكون إلا شعرا مفعما بالأمل والحياة والكفاح المستمر.
هذا التصور له صلة مباشرة بالبيانات والتقارير الصادرة عن مؤتمر اتحاد الكتاب السوفيات الأول والثاني ، وبشكل خاص المؤتمر الثاني الذي قدم عنه حسين مروة تقريره المفصل بنوع من الإعجاب والاندهاش يصل إلى حد التقديس. فقد حضر المؤتمر التلاميذ والجيش والبحرية واللجنة المركزية للحزب ، وممثلو كل فئات الشعب السوفياتي ، وكل يريد أن يلبي الكتاب طلبه ويكتبوا له شيئا ما، وكأن الكاتب آلة قابلة لإنتاج منتجات تحت الطلب .
هذا التصور يجعل من الكاتب المبدع ذا رؤية موضوعية عقلانية لا مجال فيها للفردانية، كما لا مجال فيها للتشاؤم. إنها رؤية تفاؤلية ومستقبلية.
واضح من هذا العرض أن مفهوم الرؤيا بوصفها موقفا من العالم تتعدد دلالاته بتعدد الاتجاهات، بل بتعدد الشعراء. فداخل كل اتجاه نجد اختلافا في التصور، وفي فهم طبيعة النص الشعري ووظيفته .
إذا انتقلنا إلى مجال النص الشعري، فإن الاختلاف سيزداد اتساعا، وذلك لوجود هوة كبيرة بين التنظير والممارسة. فكيف عبر الشاعر المعاصر عن رؤياه شعرا؟
 1 ــ الاتجاه الحداثي : رؤياوية التنظير ولا رؤياوية الإبداع :
النموذج الأول : الدارة السوداء : يوسف الخال .
النموذج الثاني : البئر المهجورة : يوسف الخال .
النموذج الثالث : السفر: يوسف الخال .
النموذج الرابع : أغاني مهيار الدمشقي : أدونيس .
   يثير النموذج الأول غربة الشاعر في فضائه الزماني والمكاني، فالدارة سوداء، والسواد رمز الموت والحزن والكآبة، ويزيد من كآبتها كونها ملأى بعظام عافها نور النهار، ملأى بالظلام، بالصمت، بالشلل الكساح، بالموت، بالعدم، بالرمال. وهي صفات جعلت من الدارة أرضا يبابا لا حياة فيها. في مقابل هذه الأرض الخراب هناك أرض بديلة هي أرض الشمال التي بنت بها العصافير أعشاشها. والعصافير لا تستقر إلا حيث الماء والخضرة والحياة. وبين هذين الفضاءين: فضاء الدارة المرفوض، وفضاء الشمال المأمول، تعيش الذات الشاعرة المصاغة في ضمير المتكلم غربتها. وقد تصل هذه الغربة إلى عجز الذات التام عن التوافق مع الماضي:


ليته ما كان يوما،
ليته ما كان يوما هكذا،
ليته ما كان، بل ظل بأحضان الرمال.
وعجزها عن مواراة الحاضر التراب لبعث غد جديد:
أنا لا أجرؤ، لا أقوى على
طمر العظام .
قبضتي كلت وأظفاري براها
الزحف من دار لدار .
وعن الرحيل الذي حتى وإن تحقق لا يغير من واقع الذات شيئا:

أتراني أهجر الدار وأمضي،
يدفن الأموات موتاهم وأمضي ؟
أين أمضي؟
أإلى المأتم في الغابة والميت إله ؟
أإلى العرس، وما
في العرس خمر ومسيح ؟
أم ترانى ألزم الصمت وأبقى،
جاثما بين عظام
عافها نور النهار،
..................
آه لا أدري، ولكني أصلي.
    إن الاستفهام في السطر الأول يرجح إمكانية التغيير بعد الرحيل ، إلا أن الأسطر الموالية تؤكد النتيجة السلبية سلفا . فلا المأتم في الغابة ، ولا العرس أفضل من واقع الدارة السوداء . وبالتالي تبقى الذات في غربتها عاجزة عن تحقيق ما حققته العصافير .
إن الغربة التي يعيشها الشاعر يوسف الخال غربة وجودية، فهو يرفض الاستغراق الشامل في الماضي والحاضر، ولا يملك غدا يطمئن إليه. والجملة الأخيرة (لا أدري) تثبت عجزه الكلي والشامل عن إمكانية تحقيق وجوده الخاص المتميز. ويرى ريتشارد شاخت أن الاغتراب يكمن في التنافر بين الطبيعة الجوهرية للشخص ووضعه الفعلي . فالوضع الجوهري للشاعر في حالتنا هذه هو الاتجاه نحو المستقبل، أما وضعه الفعلي، فهو بقاؤه صامتا مثل آبائه جاثما بين عظام عافها نور النهار، أي إبقاء ما كان على ما كان، وقبوله لماض وحاضر مرفوضين.
إذا كان ضمير المتكلم في النموذج الأول عاجزا عن الإجابة عن استفهاماته والتخلص من غربته، فإن شخصية إبراهيم في النموذج الثاني تحقق فعلها دون تردد. إنه إنسان عادي يعيش حياته اليومية ( جار عزيز )، لكنه يحمل بعدا تاريخيا ودينيا ثقيلا استمده من إبراهيم الخليل الذي صدق الرؤيا وعزم على تنفيذها، ومن المسيح الذي افتدى الآخرين. وتتميز هذه الشخصية بعلاقتها بالآخر.فهي بئر يفيض ماؤها. إنها مصدر الحياة والعطاء في صحراء لا حياة فيها، لكن الآخرين لا يولونها الأهمية نفسها . فالعلاقة بينها وبينهم إذن علاقة غير متكافئة، الذات تفدي الآخرين وتمنحهم الحياة، وهؤلاء يناصبونها العداء ويتهمونها بالجنون. ويبقى ضمير المتكلم الذات الوحيدة ضمن باقي الذوات الشاهدة على تضحية إبراهيم والعارفة به.
في الوحدة الثانية ، تنمو القصيدة وتتطور مركزة على شخصية إبراهيم وفعله الافتدائي الفردي من أجل الانبعاث الجماعي. وتبتدئ بجملة شرطية تشرط الفعل الذي سيقوم به إبراهيم بتغيير مصير العالم:"

لو كان لي أن أنشر الجبين
في سارية الضياء من جديد "،
يقول إبراهيم في وريقة
مخضوبة بدمه الطليل ،
............................
لو كان لي،
لو كان أن أموت أن أعيش من جديد،
........................
لو كان لي البقاء .
وهي كلها أفعال تفيد الموت الفردي، والتضحية بالنفس من أجل جواب الشرط المجسد في الأسطر الآتية :
ترى ، يحول الغدير سيره كأن
تبرعم الغصون في الخريف أو ينعقد الثمر،
ويطلع النبات في الحجر ؟
...........................
أتبسط السماء وجهها ، فلا
تمزق العقبان في الفلاة
قوافل الضحايا ؟
أتضحك المعامل الدخان ؟
أتسكت الضوضاء في الحقول
في الشارع الكبير ؟
أيأكل الفقير خبز يومه
بعرق الجبين ، لا بدمعه الذليل ؟
..........................
ترى ، يعود يولسيس
والولد العقوق ، والخروف
والخاطئ الأصيب بالعمى
ليبصر الطريقا ؟
إن إبراهيم هنا مسيح يفدي العالم بموته. يسفك دمه الطليل لأنه يحس نفسه مسؤولا عن غيره، كما تفدي الشعوب القديمة نفسها بتقديم القرابين لآلهتها الغاضبة، وبذلك الفداء والقربان تستمر الحياة. لكن إبراهيم لا يسعى إلى استمرار هذا النوع من الحياة، وإنما يسعى إلى تغييره نحو الأحسن بفعله الافتدائي. وتتجسد هذه التغييرات في :
أ ـ تحول الطبيعة، إذ تصبح ربيعا دائما لا خريف فيه، فالخريف موت ونهاية.
ب ـ تخلي العقبان عن طبيعتها السبعية، فيحل السلم والأمان بدل القتل والتمزيق.
ج ـ عودة المعامل والشوارع والحقول إلى طبيعتها الأصلية التي فقدها الإنسان.
د ـ استرداد الإنسان الفقير كرامته، وضمان حقه في العيش الكريم .
هـ ـ محو الخطايا وعودة التائه إلى أرض معاده.
هذه المبادئ ( الحياة ـ السلم ـ الكرامة ـ محو الخطايا ) هي نفسها المبادئ التي ضحى من أجلها المسيح قديما، ويضحي إبراهيم من أجلها حاضرا، فإبراهيم إذن مسيح القرن العشرين .
هذه التمنيات والاستفهامات ستتحول في الوحدة الثالثة إلى واقع حين واجه إبراهيم وابلا من الرصاص والردى، وصدره الصغير يملأ المدى، فرماه الآخرون بالجنون:

وقيل إنه الجنون
لعله الجنون.
إن هذا النص الذي حاولنا تقريب دلالاته المباشرة يمكن قراءته في ضوء الديانة المسيحية التي يؤمن بها يوسف الخال، وفي ضوء المفاهيم الوجودية التي تعد خلفية فلسفية لمجلة شعر. وسنرجئ ذلك إلى حين تقريب دلالات النماذج الأخرى.
يفصح عنوان النموذج الثالث ( السفر ) عن دلالته، إنه رحلة من فضاء إلى آخر. فما هي خصوصيات كل منهما ؟ ومن يقوم بهذه الرحلة ؟ وفي أي زمن ؟
يبتدئ النص بتحديد زمن السفر:

وفي النهار نهبط المرافئ الأمان
والمراكب الناشرة الشراع للسفر.
إنه زمن نهاري، وهو زمن إيجابي، مما يجعل من هذا السفر سفرا إيجابيا، وبذلك يكون نقيضا لزمن الدارة السوداء الذي يملأه الظلام. وهو سفر من البر إلى البحر. البر يوجد وراء الجبال فيه سبات وهجير ونقيق وضجر، وهي كلها صفات سلبية مرادفة للموت ونقيضة للحياة. أما البحر فهو فضاء المغامرة والخطر ورفض القعود والحذر، فضاء مصارعة القدر. وبذلك فهو النقيض الطبيعي للبر.
الذات الشاعرة الممثلة في ضمير المتكلم هي التي تقوم بالرحلة، وهي ذات معارضة لذات جماعية أخرى سماها الشاعر "رفاقنا ". فالذات النحن ترى البحر حبيبا وقريبا قرب الجفون من العيون ، وتؤثر السفر. أما الذات الجماعية (رفاقنا) فتؤثر البقاء وراء الجبال :
نجيء وحدنا،
رفاقنا الوراء تلكم الجبال آثروا
البقاء في سباتهم ونحن نؤثر السفر
أخبرنا الرعاة هاهنا
عن جزر هناك تعشق الخطر
وتكره القعود والحذر
عن جزر تصارع القدر
وتزرع الأضراس في القفار مدنا،
    إن هذا السفر هو رجوع إلى الأصل، ولا عودة بعده إلى الجبال. إنه إعلان للقطيعة مع الماضي والحاضر، زمني الأمان والهجير والنقيق. من هنا فهو ذو طبيعة نهضوية يبعث الجذور، وينفتح على مستقبل له صلة بالماضي البعيد، ماضي حضارة البحر الأبيض المتوسط.
في النموذج الرابع يجمع أدونيس بين مجموعة من الشخصيات الأسطورية والتاريخية (سيزيف ـ الفينيق ـ ديوجينيوس ـ نوح ـ أوديس ـ الخضر ـ أورفيوس ـ بشار ـ الحلاج ـ المتنبي ـ أبو نواس...) إذ يتقمص مهيار تجارب كل هؤلاء وأزماتهم ومعاناتهم في الحياة والواقع والمجتمع. وتتميز هذه الشخصيات بتمردها وانفصالها عن المجتمع. ويتجلى هذا التمرد في كل سطر من سطور الديوان، إذ منذ البداية يعلن مهيار عن تمرده. ويعلن قطيعته مع الماضي والحاضر. ويرسم لنفسه خطوات المستقبل :
يخلق نوعه بدءا من نفسه.
لا أسلاف له وفي خطواته جذوره.
ـ تريدون أن أكون مثلكم. تطبخونني في قدر صلواتكم، تمزجونني بحساء العساكر وفلفل الطاغية، ثم تنصبونني خيمة للوالي وترفعون جمجمتي بيرقا.

يختلف مهيار عن إبراهيم، فهذا الأخير يضحي بدمه من أجل الآخرين، لا يفعل ما يفعلونه. أما مهيار فيمحوهم كما محوه، يخوض معركته معهم ويصر على الانتصار:

ـ تتقدمون كالبرص نحوي، أنا المربوط بترابكم . لكــــن
لا شيء يجمع بيننا، وكل شيء يفصلنا، فلأحترق وحيدا،
ولأعبر بينكم رمحا من الضوء .
ـ أنتم وسخ على زجاج نوافذي ويجب أن أمحوكم، أنا الصباح
الآتي والخريطة التي ترسم نفسها .

في مقابل الماضي والحاضر بكل أبعادهما ورموزهما، وفي مقابل بلاد الرمل، يختار مهيار المستقبل في عالم البحار، عالم الماء والمغامرة والمخاطرة والأسرار والجذور. نفس العالم الذي اختارته الذات الشاعرة في النموذج الثالث، والعصافير في النموذج الأول.


يهبط بين المجاديف بين الصخور
يتلاقى مع التائهين
في جرار العرائس
في بعث الجذور
بعث أعراسنا والمرافئ والمنشدين
يعلن بعث البحار .

ألهو مع بلادي
ألمح مستقبلها آتيا في أهداب النعامة. أداعب تاريخها وأيامها
وأسقط عليها صخرة وصاعقة. وفي الطرف الآخر من النهار
أبدأ تاريخها .
إن رفض الآخر ومحوه ينتج عنه اختيار الذات
" أعجن خميرة السقوط، أترك الماضي في سقوطه وأختار نفسي"
وهذا الاختيار ينتج عنه النفي والاغتراب، اغتراب في الزمان وفي المكان وفي المجتمع بقيمه. وبهذا الاغتراب لا يبقى أمام الذات إلا نفسها وممارسة حريتها، تعيش مغامرتها في الحيرة والقلق واليأس والضياع . وبهذا الاختيار يعيد مهيار صياغة العالم على شاكلته.
إذا تأملنا هذه النماذج بشخصياتها المختلفة ( أنا ـ النحن ـ إبراهيم ـ مهيار ) نجد أنها تتعارض في بعض خصائصها وتتقاطع في أخرى، فهناك الغربة والافتداء والموت الفردي من أجل البعث الجماعي والرفض الكلي. وهي قيم ومواقف ورؤى تصب في مصب واحد هو رفض الزمان والمكان والثقافة والحضارة والمجتمع، والتطلع لزمان ومكان وثقافة ومجتمع بديل. إنها تعكس تناقضا أنطلوجيا بين الذات الشاعرة المصممة على اختيار ذاتها وعيش تجربتها بوصفها ذاتا فردية متميزة، وبين المجتمع بكل مكوناته الذي يخضع هذه الذات لقيمه الجماعية. هذا المجتمع تجسد في النصوص أعلاه في (الدارة السوداء ـ سائر البشر ـ رفاقنا ـ ضمير الجماعة المخاطب ) .
إن الذات الشاعرة نبي وضحية في آن واحد، إنها نبي لأنها تبشر بنبوءة الغد، وضحية لأن المجتمع يقف سدا في وجهها ويطاردها كما طورد (الأنبياء). وحينما لا يجد هذا النبي ما يريده في المجتمع ينكفئ على ذاته متجاوزا واقعه ومجتمعه، ومستبدلا بهما رؤيا ميتافيزيقية أهم سماتها الغربة والوحدة والحرمان والنفي الكياني والرفض والاضطهاد والموت الفاجع . وهذه السمات هي نفسها الرايات التي رفعتها الوجودية بوصفها فلسفة للإنسان. من هنا فهذا الموقف الرؤياوي الذي تنقله النصوص الحداثية يجد خلفيته النظرية في المضامين الفلسفية الميتافيزيقية بدءا من نيتشه وكيركجارد حتى سارتر وهيدجر وكارل ياسبرز. فهذه المضامين كما سبقت الإشارة تؤمن جميعها باختيار الذات والعودة إليها على نحو ما فعل مهيار الذي اختار نفسه، وإبراهيم الذي لم يسمع النداء والصدى، وضمير النحن الذي لم يؤثر ما آثره الرفاق هناك وراء الجبال . فالذات في الفلسفة الوجودية كما في هذه النصوص هي مصدر المعرفة اليقينية التي تعاش بوصفها تجربة حياتية ولا تدرك إدراكا عقليا.
في "الدارة السوداء " تعيش الذات غربتها ، وترفض واقعها، وتعيش مرحلة قلق ويأس. وفي " البئر المهجورة " يختار إبراهيم طريق الجنون. وفي "السفر" اختار النحن المغامرة والخطر. وفي "أغاني مهيار..." اختار مهيار ذاته. إن هذه الشخصيات كلها تريد أن تعيش كما تريد لا كما أريد لها .
وهذا الاختيار يؤدي إلى إعلان القطيعة مع الآخر مجتمعا كان أم قيما أم أشكالا... هذا الآخر في الفلسفة الوجودية ( الإنسان المعمم ـ الجمهور ـ القطيع ـ الغوغاء والدهماء ) إذا ما سقطت الذات فريسة له يؤدي ذلك إلى اغترابها عن نفسها وعن حقيقة الإنسان. من هنا ترفضه وتغترب عنه لترسم خطواتها بنفسها. وهو اغتراب ناتج عن عجزها عن تحقيق التواصل مع الآخرين.
ويرى عادل ضاهر ـ أحد كتاب شعر ومنظريها ـ أن العودة إلى الذات هو الانتقال من المطلق العام إلى الحسي المفرد الخاص كما نظر له هوسرل، وكيركيجارد، أي إلى التجربة الحياتية المباشرة. إنها"عودة فينومينولوجية باستهدافها تحرير الكائن الشخصي عن التموضع التجريدي في شبكة المطلقات والمعممات، وفي استهدافها رؤية الشخص الإنساني لذاته معراة من مقولات التجريد الفكري، ووضعية العلاقات السببية والإضفاءات الموضوعية وقطاعات الحيوات المثقلة بالإلحاحات الخارجية" .
إن الانطلاق من التجربة المعيشة يعني التحرر من سلطة التاريخ والماضي، وإشعال نار الحضور، وبذلك يستعيد الإنسان إنسانيته، ويجد جذوره في خطواته، ويصبح ملكا للرياح ، يحفر كلماته في اتجاه الضياع .
بالإضافة إلى التعارض الأنطولوجي بين الفرد والمجتمع، تعكس هذه النصوص موقفا آخر يتجسد في التعارض الحضاري بين حضارة الصحراء والرمل، وبين حضارة الماء. فالحضارة الأولى في النماذج الأربعة، وفي كل دواوين الاتجاه الحداثي حضارة مرفوضة، والحضارة الثانية مأمولة ومرغوب فيها. تجسد الأولى الحاضر بكل صفاته السلبية، وتجسد الثانية الماضي العريق الذي يجب بعث جذوره من جديد. ويتجسد ذلك في النصوص من خلال ما يلي:
في "الدارة السوداء" يتميز الحاضر بالظلام والشوك والعظام التي عافها نور النهار، وتبحث الذات الشاعرة عمن يواريها التراب لتبعث من جديد، وتهب عليها رياح الشمال. وفي "البئر المهجورة"، نجد إبراهيم وحده بئرا يفيض ماؤها في صحراء يباب، والماء عنصر ملازم للبحر ونادر في الصحراء . وفي "السفر" يصف ضمير المتكلم البحر بالحبيب، ويرحل إلى جزر تعشق الخطر. وفي "أغاني مهيار" يعلن الشاعر بعث البحار، ويهجر (مدينة الأنصار).
هذه التجليات الشعرية كلها ليست رؤى تخييلية مطلقة، وإنما تستند إلى مرجع أيديولوجي محدد هو المشروع القومي الاجتماعي السياسي الذي قاده أنطوان سعادة. وجعل من البحر الأبيض المتوسط مركز الحضارة ومصدرها الإشعاعي إلى كل العالم، لذا يدعو إلى الانضمام والعودة إليه. من هنا، فالبحر في هذه النصوص ليس رمزا للحياة على اعتبار أن الماء مصدر كل شيء حي، كما أن الصحراء ليست رمزا للموت لأن الماء ينعدم فيها، وإنما هما معا رمزان لحضارتين متعارضتين: الحضارة العربية الصحراوية والحضارة الغربية المتوسطية.
بعد هذه القراءة نتساءل: إلى أي حد يمكن الحديث عن رؤيا في الشعر الحداثي العربي؟ إن الرؤيا كما نظر لها الغرب الحداثي وأدونيس بعده لا تتحقق في هذه النصوص . فأهم سماتها ـ كما سبقت الإشارة ـ التلقائية والتخييل والحلم والنبوة والسحر ... أي الانطلاق من الذات مجردة من أي تصور قبلي. إلا أن يوسف الخال و أدونيس ينطلقان من تصور نظري وأيديولوجي قبلي تحدثا عنه نثرا وأعادا إنتاجه شعرا، إلى درجة القول: إن أدونيس خاصة وشعراء الحداثة عامة كتبوا جملة واحدة، وباقي نصوصهم مجرد تمطيط مطول لهذه الجملة: "إعلان القطيعة تلو القطيعة مع ما تم إنجازه". ولا توجد جملة واحدة في هذه النصوص لا تعبر عن هذا الرفض والقطيعة. وبذلك نخلص إلى أن القصيدة الحداثية ليست حداثية حداثة رؤياوية إلا نظريا . أما إبداعيا، فهي قصيدة نمطية تحررت من الشكل القديم، وسقطت في تكرار نفسها وفق رؤية عقلانية مدروسة لا مجال فيها للحلم والسحر والنبوة والشك. فالحداثيون لا يرفضون، وإنما يعلنون أنهم يرفضون، في حين أن مصادرهم الغربية لا تعلن الرفض إلا نظريا. أما على مستوى الإبداع فتحس الرفض في ممارساتها وفي قيمها وفي مواضيعها ومضامينها. ويكفي أن نختار قصيدة واحدة لنقارنها بقصيدة لأدونيس ليتجلى الفرق بين الرؤيا الغربية والرؤية الحداثية العربية. ولتكن هذه القصيدة هي: "جيفة" لشارل بودلير .
يقول أرشيبالد مكليش:"هذه القصيدة تظهر كيف يمكن أن يكون إدراك التجانس الكوني غير محتمل أبدا. إنها قصيدة جيفة ، تلك القصيدة المريعة التي يتزاوج فيها الموت والجنس في تجانس لا تجانس فيه، تجانس العهر اللاهث والعفن الفائر. فإذا قرأتها، فاسأل نفسك إن كنت تظن أنها قد نظمت لكي تصعقك فقط. واسأل نفسك أيضا إن كنت تعتقد بأنك ستذكرها لأنها قصيدة مريعة فقط" .
إن بودلير في هذه القصيدة لا يوجه الخطاب إلى الآخرين الذين يعارضهم أو يختلف معهم كما يفعل أدونيس ، إذ لا وجود لهم في النص . لكنه اختار موضوعا يجمع بين الموت والجنس ، ويصعق كل قارئ على حد تعبير مكليش :
تذكري ما رأيناه ، يا نفسي
هذا الصباح الصيفي الرائع الجمال :
رأينا في منعطف طريق جيفة شنيعة
فوق سرير مفروش بالحصى،
كانت وفخذاها في الهواء ، كامرأة داعرة ،
متأججة ناضحة بالسموم،
تفتح بشكل ساخر لا يبالي
كرشها المليء بالأبخرة .
هذا الموضوع كاف وحده ليصعق الآخرين، ويثير ردود أفعالهم أكثر من شتمهم وإعلان التمرد عليهم. ويزداد النص غرابة في المقطع الأخير حينما يخاطب الشاعر مخاطبته :
ـ مع ذلك ستصبحين شبيهة بهذه النتانة
بهذا القذر المرعب،
يا نجمة عيني ، يا شمس طبيعتي
أنت يا ملاكي وعذابي !
وعلى الرغم من التقزز الذي تحدثه هذه الصور ، فإن القصيدة تعود في آخر المقطع إلى البعد الجوهري في حداثة بودلير :
آنئذ ، يا بهائي ، أخبري الدود
الذي سيأكلك قبلة قبلة
أني احتفظت من حبي الذي تحلل
بجوهره الإلهي وشكله .
إن قصيدة بودلير تثير اندهاشنا واستغرابنا ثلاث مرات، مرة بموضوعها، وهو اتخاذ جيفة نتنة موضوعا للفن، وتصويرها تصويرا طبيعيا حيا يتداخل فيه الموت والجنس. ومرة بتذكير مخاطبته بما ستؤول إليه بعد موتها. ومرة ثالثة بالاحتفاظ بالجوهري والمطلق من علاقتهما الذي لا يدركه الفناء.
سنختار لأدونيس مقطعا من قصيدة "إرم ذات العماد" سبقت الإشارة إليه:
"أنتم وسخ على زجاج نوافذي ، ويجب أن أمحوكم ، أنا الصباح
الآتي ، والخريطة التي ترسم نفسها ".
إن أدونيس يعلن أنه سيمحو المخاطب ، لكن بودلير محاه فعلا. أدونيس أعلن أنه الصباح الآتي، أما بودلير فكانه دون أن يعلن ذلك. أدونيس أعلن أنه خريطة ترسم نفسها، أما بودلير فقد رسم نفسه فعلا .
لقد اكتفى أدونيس بالشتم والسب والهجاء والرفض، لكن شعره ظل محافظا على نفس القيم والمواضيع التي أعلن رفضه لها. فهل يمكن القول: إنه لم يستطع التخلص من الهجاء الذي يعد غرضا محوريا من أغراض الشعر العربي ؟ قد يكون الجواب بالإثبات أو بالنفي، وكيف ما كان، فإننا نقول مع سامي مهدي برؤياوية التنظير ولا رؤياوية الشعر. يقول هذا الباحث بعد أن أورد بعض شروح أدونيس لشعره : " ما معنى هذا ، معناه أن أدونيس شاعر عقل ومنطق ولغة دقيقة محسوبة، وبناء شعري صارم. معناه أنه ينطلق من فكرة واضحة محددة، وليس من حالة لا يعرفها كما يزعم" . ويقول أيضا : " لذلك تعذر على لغة أدونيس أن تكون لغة رؤيا، لغة انبثاق، فكانت لغة حرفة، ينسجها نسجا، ويصطنع لها الرؤياوية اصطناعا. ولعل هذا هو السر في شكواه الدائمة من اللغة ومن إحساسه بضيق العبارة، ذلك لأن الفكرة عنده تسبق اللغة، فهو يصارع لغته بغية تطويعها لمقتضيات التعبير عن فكرته . وهذا يعني أن الطابع الحلمي الذي تتظاهر به لغته هو مظهر خداع ، وأنها ليست سوى لغة مصنوعة ، لغة زخرفة وتزيين " .
2ـ الاتجاه القومي اللبرالي : التوفيق بين الرؤية والرؤيا :
النموذج الأول : الأفعوان : نازك الملائكة .
النموذج الثاني : في جبال الشمال : نازك الملائكة .
النموذج الثالث : جميلة بوحيرد : نزار قباني .
النموذج الرابع : خبز وحشيش وقمر : نزار قباني .
النموذج الخامس :الحب والبترول : نزار قباني .
في النموذج الأول حاولت الشاعرة نازك الملائكة التعبير عن إحساس داخلي تجاه العالم بكل أبعاده. فالذات الشاعرة تحس نفسها محاصرة في الزمان والمكان من قبل قوة جبارة خفية تخنق أنفاسها وتطاردها في كل اتجاه ، مما أدى بها إلى الاغتراب.
يتجلى هذا الاغتراب في الصفات التي وصفت بها الذات نفسها ( الملل ـ السأم ـ الأفق الغريب ـ ظلمات الدجى الحالكات ـ النهار الجذيب ـ جبال الجليد ـ جفاه الرقاد ـ الهموم ـ جراح السهاد ـ الانتظار ـ القيود ـ المخيف ـ الفظيع ـ الحاقدة ـ سحيق ـ ضياع ...) ، هذه الصفات وغيرها الموزعة على امتداد النص كله تعكس حالة الغربة التي تعيشها الذات في علاقتها بالخارج، وتشمل هذه الحالة: * المكــان: تبدأ القصيدة باستفهام إنكاري عن المكان، فالذات لم تعد تجد مكانا يطيقها وتطيقه، سواء في عالم المدينة المكنى عنه بالدروب أو عالم البادية المكنى عنه بالمروج:
أين أمشي؟ مللت الدروب
وسئمت المروج
والعدو الخفي اللجوج
لم يزل يقتفي خطواتي، فأين الهروب ؟
الممرات والطرق الذاهبات
بالأغاني إلى كل أفق غريب
ودروب الحياة
والدهاليز في ظلمات الدجى الحالكات
وزوايا النهار الجديب
جبتها كلها ، وعدوي الخفي العنيد
صامد كجبال الجليد
في الشمال البعيد.
ولا يزيد تغيير المكان الذات إلا اغترابا ماضيا وحاضرا ومستقبلا. وقد هيمن هذا المكون على المقطع كله، فالحياة لها دروب، والنهار له زوايا، والعدو ثابت ثبوت الجبال.
* الزمــان :لا تختلف علاقة الذات بالزمان عن علاقتها بالمكان، فالنهار الذي يرمز عادة إلى الأمل والحركة والتغيير والحياة جديب، والغد ميت لا يطاق. الحاضر مرفوض والغد لا حياة فيه.
* الأمــل: لا وجود له في حياة الذات الشاعرة، فالعدو الخفي يتحدى الرجاء:


أين أمشي، وأي انحناء
يغلق الباب دون عدوي المريب
إنه يتحدى الرجاء
ويقهقه سخرية من وجومي الرهيب.
* العلاقة مع الآخر:
تجسد الآخر في شكل صوت منقذ. قد يكون صوتا داخليا نابعا من الذات نفسها، يعرف حدود الزمان والمكان فيسعى إلى الانفلات منها، والقفز إلى ما وراءها، إلى الضياع، والرحيل في أعماق " لابرنت " دون هدف منشود. أي أن تتحرر الذات من الماضي والحاضر والمستقبل . ومن كل قيمها والتزاماتها لكي تعيش حريتها المطلقة في اتجاه الضياع.
إن الذات لم تختر هذا الطريق المتاه، وإنما فرض عليها فرضا. إنه من اقتراح صوت آخر، ثم إن السقوط فيه لم يكن اقتناعا، وإنما وسيلة للتخلص من كل القيود. وعلى الرغم من ذلك، فإنها متأكدة من انتصارها وقدرتها على تضليل العدو.
إنه لن يجيء
لن يجيء وإن عبر المستحيل
أبدا لن يجيء
لن يراه فؤادي البريء
من جديد يثير الرياح
لتسد علي السبيل
في هدوء الصباح
أبدا لن يجيء
لن يجيء!

إن التكرار في هذا المقطع وسيلة للاقناع بانتصارات الذات وتخلصها ممن يطاردها. فقد تكرر فعل المجيء المنفي خمس مرات متوالية وكأن الذات لم تصدق نجاتها، فظلت تكرره للتأكد من صحته.
إن لجوء الذات إلى متاهات الماضي لتحتمي بها لوسيلة للتخلص من الحاضر والمستقبل. وبذلك اختارت الحصن الحصين. إلا أن هذا المتاه لن يزيد الذات إلا مللا وسأما وغثيانا. لذا لم يبق أمامها إلا الاستسلام، والاكتفاء من الحلم بجثته الباردة.

أين أين المفر
من عدوي العنيد
وهو مثل القدر
سرمدي، خفي، أبيد.
سرمدي، أبيد.
إن الذات الشاعرة لا تعيش الاغتراب عن الواقع فحسب، وإنما تعيش أيضا اغترابا عن نفسها، بالمفهوم الهيجلي للاغتراب. فالفرد في فلسفة هيجل يكون وحدة مع بنيته الاجتماعية. وحين يتوقف عن ذلك يفقد كليته، ولا يعود متملكا لناصية جوهره. "وهكذا فإنه يغرب ذاته عن طبيعته الجوهرية أو يصبح باختصار مغتربا عن ذاته." ، إلا أن الشاعرة لم تستطع كالوجوديين و الحداثيين مواجهة هذا الاغتراب والتخلص منه. ولعل هذا راجع إلى الطابع الرومانسي الذي يهيمن على شعرها، فقد ظلت تعاني الكآبة والانكسار الرومانسيين في علاقتها بالخارج، كما تعاني الانشطار إلى ذاتين: ذات يمثلها ضمير المتكلم المتأزم والمغترب، وذات يمثلها الصوت المنقذ.
ينبني النموذج الثاني على تعارض بين الشمال والجنوب، الأول بلاد ظلام رهيب وسكون ثقيل ورياح نائحة وذئاب جائعة، إنه بلاد الغربة والوحدة القاتلة. أما الثاني فبلاد القلوب المتلهفة إلى اللقاء وانتهاء الغربة، بلاد الرفاق والماضي بأيامه وأناشيده. وبين الشمال المرفوض والجنوب المرغوب فيه تظل الذات الشاعرة مشدودة إلى الأرض الجنوبية رافضة للشمال البعيد. ويتجسد هذا الرفض في تكرار فعل العودة على امتداد النص كله.
وإذا كانت الرحلة من الجنوب إلى الشمال هي هاجس الحداثيين، فإن الرحلة المضادة من الشمال إلى الجنوب هي هاجس نازك الملائكة التي ترى في الزمان والمكان والبشر أهم مقومات حضارتها. فالاغتراب هنا ليس إنسانيا كما عند الوجوديين، وإنما هو اغتراب قومي .
في النموذج الثالث يبرز الشاعر نزار قباني الوجه الإيجابي للشعب العربي ممثلا في البطلة الجزائرية جميلة بوحيرد. وقد ركز على التيمات الآتية:


ـصورة جلادي فرنسا .ـ صورة جميلة بوحيرد حاضرا ومستقبلا.
ـ مقارنة بين جان دارك فرنسا وجان دارك العالم العربي .


وهي صور تظهر قوة البطلة الجزائرية على الرغم من أنها امرأة، وقدرتها على تحدي وحشية جلادي فرنسا. وقد استثمر الشاعر كل القيم العربية القديمة ليرتفع بهذه الشخصية إلى مستوى البطلة القومية الأسطورة التي يتوارثها الشعب العربي جيلا بعد جيل.
في مقابل هذا الوجه الإيجابي يعكس النموذجان الرابع والخامس رؤية أخرى مغايرة للرؤية السابقة، إنها الرؤية الانتقادية للجماهير والأنظمة العربية. وهي رؤية تجد جذورها في قصيدة الهجاء العربية، لذا أطلق عليها النقد الحديث "ظاهرة الهجاء في الشعر العربي الحديث". ويرى الدكتور أحمد المعداوي أن هذه الظاهرة "طفت على الساحة الشعرية العربية بهدف إحداث تغيير نوعي على ما كان يعرف بشعر المقاومة، أي بتحويله من شعر يقوم على الصراع بين العرب والقوى الإمبريالية بشكل عام والصهيونية بشكل خاص، إلى شعر يقوم نظريا على الصراع بين مطامح الجماهير في التحرر والتغيير وبين تشبث الحكام المهزومين بمقاليد الحكم " . ويعد نزار قباني من أبرز ممثلي هذه الظاهرة، ففي النموذج الرابع، اختصر الحياة الشرقية في مكونات ثلاثة: خبز وحشيش وقمر. وترتبط هذه المكونات عند الشاعر بكل صفات التواكل والعجز والإذلال ( كسالى ضعفاء ـ أي ضعف وانحلال يتولانا إذا الضوء تدفق ـ يصلون ويزنون ويحيون اتكال ـ منذ أن كانوا يعيشون اتكال ـ يبحثون عن البطولة في أبي زيد الهلالي ـ الملايين التي عطلت فيها الحواس ...) .
وفي النموذج الخامس، يتحدث الشاعر على لسان امرأة ترفض الاستسلام لإغراءات المال والبترول. وهي قصيدة جمع فيها الشاعر كل الصور الكاريكاتورية لرسم حاكم عربي في صورة جمل لا هم له إلا الخمر والدولار والجواري، يبيع كل شيء حتى الله و القدس من أجل مومس باريسية.
وقد انبنت هذه القصيدة على الاستفهام حول زمن التحول والتغيير من الوضع القائم الذي أطنب في تصوير ملامحه إلى وضع مرغوب فيه اكتفى بالتعبير عنه في جملتين متكررتين: متى تفهم ؟ متى يستيقظ الإنسان في ذاتك ؟
إن الصفات التي وصف بها الشاعر الجماهير العربية هي نفسها الصفات التي وصف بها حكامها. وبذلك فجماهير العالم العربي وحكامه من منظور الشاعر الهجاء متطابقان، ويصلح الواحد منهما للآخر.
إن ما قاله نزار لا يعدو ما هو متداول ومعروف في أوساط الجماهير العربية، من أفكار بسيطة ينتقد بها الأمة العربية بعد أن أخرج نفسه منها . لكنه لا يقدم رؤيا بديلة تتجاوز ما هو قائم. يضاف إلى ذلك أنه اعتمد نفس الأساليب التي اعتمدتها الخطابة العربية من علي بن أبي طالب حتى الحجاج بن يوسف.
ويرى أحمد المعداوي أن ظاهرة الهجاء عامة، وعند نزار خاصة، محدودة المعجم والدلالة. فما قاله في "خبز وحشيش وقمر" و"الحب والبترول" كرر في "هوامش على دفتر النكسة" وما جاء بعدها من نصوص.
وخلاصة القول : إن هذه النصوص كلها ذات طابع خطابي يسعى الشاعر من خلالها إلى دفع الجماهير العربية إلى التمرد والثورة ، لكن أسلوبها الخطابي ، وطابعها السياسي المباشر حولاها إلى نصوص سياسية أكثر منها نصوصا شعرية.
ويتطابق هذا التصور النزاري مع دعوة الآداب البيروتية إلى الالتزام بالقضايا القومية والتحررية في العالم العربي، ودعوة الأدباء إلى مساندة قوى التقدم والتحرر في المجتمع من أجل بناء حضارة عربية جديدة. يقول سهيل إدريس: "تعصف بالوطن العربي في هذه الفترة تيارات عنيفة مختلفة تؤجج الصراع بين قوى التقدمية والتحرر، وقوى الرجعية والاستعباد . ولا شك في أن هذه القوى الأخيرة أكثر عددا وأثقل وزنا من القوى الأولى إذا نظر إليها على الصعيد الحكومي الرسمي، غير أن القوى الأولى تنعم بتأييد شعبي شامل يدل على وعي عام لم يعرفه الشعب العربي من قبل. وعلى ذلك يبدو الشعب العربي في صراع عنيف مع معظم حكوماته التي تستجيب لمخططات مرسومة تضعها القوى الرجعية والجهات الاستعمارية لتحول دون دخول الشعب عهد الثورية المستمرة التي هي المنقذ الوحيد لهذا الشعب في طريقه إلى بناء حضارة عربية جديدة. والسؤال الذي نطرحه هنا يتعلق بدور الأديب العربي في هذا الصراع، ولن يكون تجنيا على الحقيقة والواقع إذا ذهبنا إلى أن الأدباء والمفكرين لم يلعبوا في تاريخنا القومي الحديث إلا دورا ضئيلا لا يمكن أن يعتبر ذا أثر فعال في خلق التطوير والتغيير" .
الملاحظ ألا فرق بين هذا الرأي وموقف نزار إزاء الحكام والجماهير العربية. فالشاعر يطبق إلى حد بعيد توصيات سهيل إدريس، أو الكاتب يعيد كتابة ما تبناه نزار من هدم للواقع المتعفن، ونقد للأنظمة، واستنهاض همم القوى التحررية. وقد تحولت هذه النصوص إلى شعارات ومواعظ مباشرة وهجاء لاذع
 3- الاتجاه الواقعي : الرؤية لا الرؤيا :

النموذج الأول: عذاب الحلاج : عبد الوهاب البياتي .
النموذج الثاني: إلى عبد الناصر الإنسان : عبد الوهاب البياتي .
النموذج الثالث: الملك لك : صلاح عبد الصبور .
في النموذج الأول، اتخذ عبد الوهاب البياتي الحلاج قناعا ورمزا للتضحية والاستشهاد من أجل الآخرين. وهو أمر غريب على الحركة الصوفية التي طالما نعتت بالانعزالية في الأبراج العاجية والخلاص الفردي من أجل التخلص من الغوغاء والدهماء. إلا أن الحلاج كان متميزا إلى حد ما في تصوفه، فقد زاوج بين البعد الصوفي في بحثه عن الكمال والمراتب الروحية العالية، والبعد الاجتماعي في دعوة أصحابه إلى التنازل عن القيام بفريضة الحج، وتعويضها بالاهتمام بالأيتام وتوفير الغذاء والسكن لهم. كما أظهر اهتمامه بالأوضاع الاجتماعية . يقول عنه البياتي: " قطرات دم الحلاج قد تحولت إلى زيت في مصباح الإنسانية، وإلى بذرة، فشجرة، فغابة. إن مصارع العشاق والثوار والفنانين واستشهادهم يظل الجسر الذي تعبره الحضارة الإنسانية إلى ذات أكثر كمالا " .
يتكون هذا النموذج من المقاطع الأتية: المريد ورحلة حول الكلمات وفسيفساء و المحاكمة و الصلب و رماد في الريح. وهي مقاطع تختزل كفاح الحلاج من بدايته حتى استشهاده وصلبه وإحراقه. وعلى الرغم من بعدها الصوفي الذي أضفى عليها طابع الغموض والإبهام، فإنها ذات أبعاد اجتماعية وسياسية وأدبية. ويرى رؤبين سنير أن الحركة الجدلية في هذه القصيدة تتراوح بين أربع مستويات متشابكة :
ـ المستوى التاريخي : سيرة حياة الحلاج .
ـ المستوى الصوفي النظري: مراحل التجربة الصوفية.
ـ المستوى الشعري: التجربة الشعرية.
ـ المستوى الاجتماعي والسياسي: النضال من أجل الحرية والعدالة.
فهذه المستويات كلها عبارة عن رحلة، سواء كانت رحلة الحلاج إلى موته أو رحلة الصوفي نحو الكمال الإلهي أو رحلة الشاعر في تجربته أو رحلة الثائر المتمرد في كفاحه الاجتماعي والسياسي.
يعكس المقطع الأول مرحلة انتقالية بين مرحلتين :مرحلة ما قبل التصوف، ومرحلة بداية التصوف.


سقطت في العتمة والفراغ
تلطخت روحك بالأصباغ
شربت من آبارهم
أصابك الدوار
تلوثت يداك بالحبر وبالغبار
وها أنا أراك عاكفا على هذي النار
صمتك: بيت العنكبوت، تاجك: الصبار
يا ناحرا ناقته للجار
طرقت بابي بعد أن نام المغني
بعد أن تحطم القيتار
مرحلة ما قبل التصوف مرحلة بداية التصوف
ـالسقوط في العتمة والفراغ.
ـ تلطخ الروح بالأصباغ.
ـ الشرب من آبار الـ هم .
ـ الإصابة بالدوار .
ـ التلوث بالحبر والغبار . ـ العكوف على رماد النار.
ـ الصمت .
ـ تاج الصبار .
ـ نحر الناقة للجار.
وعلى الرغم من هيمنة البعد الصوفي على المقطع، فإن بعض الإشارات تربطه بالأبعاد الأدبية و السياسية والاجتماعية:
* تلوثت يداك بالحبر والغبار: كناية عن الكتابة والإبداع .
* شربت من آبارهم : إشارة إلى العلاقة بين المريد والسلطة.
* يا ناحرا ناقته للجار: إشارة إلى العلاقة بين المريد والمجتمع.
في المقطع الثاني، يتراجع البعد الصوفي ليفسح المجال للبعد الاجتماعي. فمنذ البداية يعرض الشاعر لصور من الظلم الاجتماعي
ما أوحش الليل إذا ما انطفأ المصباح
وأكلت خبز الجياع الكادحين زمر الذئاب
وصائدو الذباب
وخربت حديقة الصباح
السحب السوداء والأمطار والرياح
وأوحش الخريف فوق هذه الهضاب
وهو يدب في عروق شجر الزقوم،
في خمائل الضباب
وهي صور تعكس التعارض بين حقلين دلاليين: حقل يجمع بين الكادحين والمصباح وحديقة الصباح، وحقل يجمع بين الليل وزمر الذئاب وصائدي الذباب والسحب السوداء والأمطار والرياح والخريف وشجر الزقوم وخمائل الضباب. والتعجب المتكرر مرتين يعكس موقف المريد الصريح من الحقلين، إذ يميل إلى الحقل الأول، ويقف إلى جانب الجياع والكادحين ضد الذئاب وصائدي الذباب. ويتأكد هذا الموقف الإيجابي في الأسطر الموالية التي يخاطب فيها المريد محبوبه:


يا مسكري بحبه
محيري في قربه
يا مغلق الأبواب
الفقراء منحوني هذه الأسمال
وهذه الأقوال
فمد لي يديك عبر سنوات الموت والحصار
والصمت والبحث عن الجذور والآبار
ومزق الأسداف
وليقبل السياف
فناقتي نحرتها وأكل الأضياف
وارتحلوا
وها أنا أقلب الأصداف
لعلها أوراق ورد طيرتها الريح فوق
ميت، لعلها أطياف.
إذن يقوم برحلة بحث وكفاح، بحث عن الجذور، وعن آبار غير ملوثة، وكفاح من أجل خبز الكادحين والجياع ضد زمر الذئاب
مهرج السلطان
كان ـ ويا ما كان
في سالف الأزمان
يداعب الأوتار، يمشي فوق حد السيف والدخان
يرقص فوق الحبل، يأكل الزجاج ، ينثني
مغنيا سكران
يقلد السعدان
يركب فوق ظهره الأطفال في البستان
يخرج للشمس ـ إذا مدت إليه يدها ، اللسان
يكلم النجوم والأموات
ينام في الساحات
كان يحب ابنة السلطان
يحيا على ضفاف نهر صوتها
وصمتها
لكنها ماتت ـ كما الفراشة البيضاء في الحقول
تموت في الأفول
فجن بعد موتها
ولاذ بالصمت وما سبح إلا باسمها
وذات يوم جاءني
يسألني
عن الذي يموت في الطفوله
عن الذي يولد في الكهوله
رويت ما رأيت
رأيت ما رويت
كان ويا ما كان .
يربط رؤوبين سنير بين هذا المقطع وقول البياتي " شيء ما كان يلح في طلب التعبير عنه، شيء كان يجول بنفسي، ولد حينما بدأت للمرة الأولى إقامتي في بغداد (...) كانت مدينة مزيفة، قامت بالصدفة وفرضت علينا. لم تكن تملك من حقيقة المدينة أكثر من تشبهها ببهلوان أو مهرج يلصق في ملابسه كل لون أو أية قطعة يصادفها(...) ومثل مدينتنا الشبيهة بالمهرج، كان جيلنا المتسول الذي استعار ثيابا وأزياء من كل عصر حتى فقد شخصيته وصوته الحقيقي" . فالمهرج في المقطع الشعري في نظر سنير رمز جمالي مطابق لما يرفضه البياتي من قيم المدينة المعاصرة. ولما اكتشف الزيف، تخلى عنه إلى الجنون والصمت والتصوف بوصفها طرقا للخلاص والحق. وبذلك يكون المقطع الثالث كالمقطعين الأول والثاني رحلة من الزيف إلى الحقيقة ، ومن الجهل إلى الوعي .
هذه الرحلة لن تقف عند حدود الصمت، بل ستتجاوزه إلى الكلام والفعل على المستوى السياسي والاجتماعي، ويتجلى ذلك بوضوح في المقطع الرابع:
بحت بكلمتين للسلطان
قلت له: جبان
قلت لكلب الصيد كلمتين
ونمت ليلتين
حلمت فيهما بأني لم أعد لفظين
توحدت
تعانقت
وباركت ـ أنت أنا
تعاستي
ووحشتي
وضج في خرائب المدينة
الفقراء إخوتي
يبكون، فاستيقظت مذعورا على وقع خطا الزمان
ولم أجد إلا شهود الزور والسلطان
حولي يحومون، وحولي يرقصون: إنها وليمة الشيطان
بين الذئاب، ها أنا عريان
قتلتني
هجرتني
نسيتني
حكمت بالموت علي قبل ألف عام
وها أنا أنام
منتظرا فجر خلاصي، ساعة الإعدام.
يجمع هذا المقطع بين البعدين الصوفي الاجتماعي أيضا. فالمريد ـ الشاعر لما وصل إلى مرحلة الشيخ، مرحلة الكمال الصوفي، وصل في الآن نفسه إلى مرحلة الوعي الاجتماعي. وإذا كان شهود الزور قد حكموا على المريد بالإعدام، فإن الشاعر المتمرد قد أسيء إليه من قبل الشعراء اللئام . وينتهي المقطع بالبحث عن الخلاص في الإعدام، أي في الشهادة والتضحية. وهي إشارة إلى تصور البياتي للموت، إذ يرفض الموت المجاني، ويرى التخلص منه في الموت من أجل هدف ما في الحياة.
المقطع الخامس يعكس المشهد الأخير من حياة المريد، كما يعكس دور الشاعر في المجتمع، وما يمكن أن يلاقيه في سبيل هذا الدور. وينتهي باستغاثة يائسة تعكس الاغتراب واليأس في نفسية الشاعر:

من أين لي أن اعبر الضفاف
والنار أصبحت رمادا هامدا
من أين لي ؟ يا مغلق الأبواب
والعقم واليباب:
مائدتي، عشائي الأخير في وليمة الحياه
فافتح لي الشباك، مد لي يديك آه !
ويصور المقطع السادس التنكيل بجثة المريد بعد صلبه، وخلاصه من عذابه، كما يكرس إيمان الشاعر بالانتصار:
دفاتري
تناهبوا أوراقها
وأخمدوا أشواقها
ومرغوا الحروف في الأوحال
دمي بأسمال
ها أنذا بلا أسمال
حر كهذي النار والريح، أنا حر إلى الأبد.
إن المريد أصبح حرا إلى الأبد بخلاصه من بعده الجسدي، وتحوله إلى رمز تاريخي يستضاء به. وتنتهي القصيدة بأسطر تتطلع إلى المستقبل وتتفاءل به، وتعكس الإيمان بالانتصار غدا :
أوصال جسمي أصبحت سماد
في غابة الرماد
ستكبر الغابة، يا معانقي
وعاشقي
ستكبر الأشجار
سنلتقي بعد غد في هيكل الأنوار
فالزيت في المصباح لن يجف، والموعد لن يفوت
والجرح لن يبرأ ، والبذرة لن تموت.
ويرى رؤوبين اسنير أن هذه الأسطر تعد خلاصة تجربة كاملة سواء تعلق الأمر بتجربة الحلاج ـ المريد التي تحولت إلى تاريخ يتم استحضاره، أو تجربة الشاعر التي لم تكتمل بعد. فالمعاناة والتجارب ما هي إلا سماد للغابة لتبعث من جديد. وتتوالي الاستعارات التي تحتمل التأويلين الصوفي والاجتماعي لتعكس الإيمان العميق والتفاؤل المفرط بالاستمرارية والانتصار. فالزيت والموعد والجرح كلمات لها دلالات صوفية، وفي الآن نفسه كلمات تعبر عن البعث والحياة والاستمرارية.
في النموذج الثاني ـ إلى عبد الناصر الإنسان ـ تبرز رؤية مستقبلية تفاؤلية تنبني على تجاوز الحاضر المرفوض، وتحويل عار الهزيمة إلى انتصار. فالحاضر هو حاضر الجيل المهزوم، جيل التماثيل والسادة والتيجان. أما الغد، فهو غد الشعب الكادح. والشاعر مدعو إلى أن يعود إلى مجتمعه بالأمل والحياة، وأن يشارك مشاركة جادة في معركة بناء الحياة الجديدة.
وإذا كان الحداثيون يبنون رؤاهم على التعارض بين الشاعر الفرد والمجتمع الجمهور، والقوميون اللبراليون يبنون هذه الرؤى على التعارض بين الأمة العربية وعدوها الخارجي المتمثل في الآخر، غربيا كان أو إسرائيليا، فإن الواقعيين الجدد بنوا هذه الرؤى على التعارض بين طبقتين كما هو واضح في النموذجين أعلاه. فالصراع في النموذج الأول بين المريد ـ الشاعر والفقراء من جهة، وبين السلطة وزمر الذئاب ...من جهة ثانية. وفي النموذج الثاني، فالصراع بين الثورة و السادة والتيجان والتماثيل. ويقف الشاعر دائما موقف المتفائل المؤمن بانتصار الطبقة الكادحة المتمثلة في الفقراء والمهزومين غدا.
ولا يختلف النموذج الثالث عن النموذجين السابقين، فقد بني على تجربة حية عاشها الشاعر، واستنبط منها رؤية فلسفية لا صلة لها بالدين أو السحر، لكنها من صميم الواقع المعيش. إنها رؤية تقدس الإنسان، وترفع من قيمة الحياة الواقعية التي يحياها على الأرض لا الحياة التي يأمل أن يحياها بعد الموت:
أواحدتي ... فكرة طوفت برأسي ذاك المساء السحيق
أكان يدق صليب الحديد ؟
على رأسه
يوم كان قويا تضج الحياة بشريانه، ويفوح العرق
لو الأرض لم تزدرده إليها، أكان الحديد عليه يدق ...؟
ومن موته انبثقـت صحوتي
وأدركت يا فتنتي أننا
كبار على الأرض ، لا تحتها
كهذا الرجل.
إن هذه النماذج على الرغم من تعددها وتنوعها، وجمعها بين التصوف والقومية والرؤية المادية، تحكمها رؤية واحدة لها صلة بتصور الواقعية للمجتمع ولطبيعة الشعر ووظيفته، فهي وإن لم تكن تعكس الواقع الاجتماعي عكسها مرآويا، فإن مواضيعها مستنبطة منه بشكل مباشر. وترتبط كلها بالصراع بين طبقتين أو بين جيلين، وتجعل من الإنسان محور كل تحول أو صيرورة، إلا أنها لا تعبر عن هذه المواضيع في شكل تقريري مباشر، وإنما تجمع بين هذه الأفكار النمطية وبين التجربة الشخصية. ويتجلى ذلك في النموذج الأول من خلال قناع الحلاج ، والحوار بين المريد وشيخه بما يفصح عنه من مواقف وآراء تعكس رؤية الشاعر الشخصية للواقع والمجتمع. أما في النماذج الثلاثة الأخرى فتتجلى هذه التجربة في المواقف الصريحة التي تتضمنها القصائد، إما في شكل نصائح إلى الشعراء عند البياتي:
فيا شعراء فجر الثورة المنجاب
قصائدكم، له لتكن بلا حجاب
فهذا المارد الثائر إنسان
يزحزح صخرة التاريخ، يوقد شمعة في الليل للإنسان.
أو في شكل تساؤلات فلسفية واستنكارية عند صلاح عبد الصبور:
ـ فلماذا قريتي تخشى الحياة ؟
ـ أكان يدق صلب الحديد ؟
على رأسه
يوم كان قويا تضج الحياة بشريانه، ويفوح العرق ؟
لو الأرض لم تزدرده إليها، أكان الحديد عليه يدق.
أو في شكل خلاصات يصل إليها الشاعر من خلال تجربته:
ومن موته انبثقت صحوتي
وأدركت يا فتنتي أننا
كبار على الأرض، لا تحتها
كهذا الرجل.
كما تتميز هذه النماذج كلها بخاصية واقعية محضة، هي النظرة التفاؤلية للواقع. ففي النموذج الأول، تتوالى جمل تفاؤلية في المقطع الأخير تنفي فوات الأوان، وتؤكد البعث من خلال الموت. وفي النموذج الثاني، يزحزح عبد الناصر صخرة التاريخ ويشعل شمعة، وفي النموذج الثالث يستنكر صلاح أن تخشى القرية الحياة ، والنموذج الرابع تصحو الذات الشاعرة وتصبح معلنة: الملك لك (أي للإنسان بوصفه إنسانا ) .
خلاصـات :
إن القصيدة العربية المعاصرة منذ نشأتها لم تكن قصيدة ذات بعد واحد ، أو ذات رؤيا أو رؤية واحدة، فهي قصيدة تتعدد بتعدد التوجهات السياسية والخلفيات الفلسفية والمعرفية التي تحكمها. إلا أنها لم ترق عند الكثير من شعراء الحداثة إلى أن تكون قصيدة رؤياوية كما نظر لها في الغرب، وفي التنظير النقدي العربي عامة وفي كتابات أدونيس خاصة، إذ تهيمن عليها رؤية عقلانية منطقية تجمع بين التجربة الموضوعية والتجربة الشخصية. وهذا ما يجعل من الحداثة العربية مجرد أيديولوجية تجعل من التحديث ظاهرة شكلية ظاهرية معزولة عن الحداثة الاجتماعية والسياسية .
وتبقى القصيدة القومية في بعد يها اللبرالي و الواقعي الجديد أكثر تطابقا مع تصورها النظري الذي يجمع بين البعد الاجتماعي والبعد الذاتي في التعبير عن موقف هو أقرب إلى الرؤية منه إلى الرؤيا .








ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق