الأربعاء، 18 أكتوبر 2023

 

كلمة تأبين المشمول بعفو الله الحاج البصري

 المدني بن الطيب بن العربي الدرعي




  أيها السادة الأفاضل أحباء المرحوم وأخلاؤه

         نقف في هذا اليوم المبارك  26 ماي 2023 بعد صلاة الجمعة أمام باب من أبواب الرحمان لنشيع إلى رحمته رجلا من رجالات درعة الخير، وأحد أعمدة التربية والتعليم بزاكورة على امتداد عقود أربعة، المشمول بعفو الله ورحمته الحاج البصري المدني. هذا الرجل الذي لا يذكر قطاع التربية والتعليم في مدينة زاكورة بعد الاستقلال، إلا وتستحضر ذاكرة جيل بأكمله دوره التربوي والإداري في بناء أسس المدرسة المغربية في هذه المنطقة. فقد كان المدرّس والمسير والمدبر لهذا القطاع على امتداد العقود الأولى لجيل الاستقلال، فساهم في تكوين أجيال من أبناء هذا الوادي ممن شغلوا مواقع مهمة في جل قطاعات الوظيفة العمومية. والجم الغفير من الحاضرين في جنازته اليوم ثلة قليلة ممن عاصروا وعاينوا أثر الحاج البصري على الأرض على امتداد مساره المهني، ولا أشك في أن الأحاديث والذكر بعد انتشار خبر التحاقه بربه، كانت تلهج بأياديه البيضاء على كل تلامذة درعة ورجال تعليم درعة.

         فقد مارس التعليم في خمسينيات القرن العشرين فكان مآله التوقيف عن العمل من قبل أحد رجالات الاستعمار الفرنسي لالتباس اسمه باسم أحد رواد الحركة الوطنية، فالتحق بسلك العدول لفترة وجيزة، لكنه لم يجد فيه ما يرضي ذاته، فالتحق مرة ثانية بالتعليم بلقب آخر، وتحمل مسؤولية التسيير والتفتيش سنين عددا. قبل أن ترغمه أنفته وكرامته في ظروف وطنية خاصة جدا على الانتقال إلى أولاد تايمة، ثم إلى ورزازات التي ظل بها مديرا حتى بلوغ سن التقاعد.

      وأتساءل اليوم، وأنا أعلم علم اليقين اهتمام أهل درعة بماضي الوادي، لم لا تفكر مدرسة الشريف العلوي التي مرت بها أجيال وأجيال من التلاميذ والمعلمين والمسؤولين الإداريين أن تدون ذاكرتها، وتؤرخ لرجالاتها الذين مروا من هناك، وتركوا آثارا تدل عليهم اعترافا لهم بالجميل الذي لن ينسى، وحفظا لذاكرة سرعان ما يمحوها الزمن إذا لم تقيدها الكتابة. لم لا يفكر مسؤولوها وقدماؤها من المعلمين والأساتذة في أن يضعوا شجرة معلميها ومديريها لتكون نبراسا مضيئا للأجيال اللاحقة من فلذات أكبادنا. فهذه المدرسة ليست كباقي مدارس المنطقة، فقد ارتبطت ذاكرة زاكورة بذاكرتها. فإذا فكر مسؤولوها في ذلك، فسيكون الحاج البصري المدني بلا شك واسطة عقدها، ومنارة من مناراتها التي أضاءت بنورها الأجيال تلو الأجيال. 

     ولم تكن العلاقة بين الحاج البصري المدني وبين درعة الخير محصورة في مسؤولياته المهنية فحسب، بل ارتبط بها ارتباط الابن بأمه فلا يفارقها إلا ويحن إليها، ولا يغترب عنها إلا ويشتاق إلى العودة إليها، ولا يحضر مجلسا من مجالس أخلائه وأحبائه من أهل درعة إلا ويلهج بعاداتها وتقاليدها وأعرافها وتاريخها وثقافتها، وأيامها ورجالاتها الذين ساهموا في بنائها. وبوداعه ودعنا معه ذاكرة حية من تاريخ درعة المعاصر، وشاهدا حيا على أحداثها وتاريخها، بل ومكتبة شفوية من ثقافتها. ويحز في النفس أن تطمس هذه الذاكرة كما طمست قبلها أخريات عدة.

   وإذا كانت للمشمول بعفو الله ورحمته من ميزة تميزه فهي قدرته على الحوار والجدل والإقناع والاقتناع من غير تعصب متسلحا بقلب واسع، وعقل راجح، وخبرة صقلتها التجربة، لا مع جيله فحسب، بل مع كل الأجيال اللاحقة، فهو شديد الارتباط بأبناء جيله يحاورهم ويجادلهم ويجالسهم، ويتنفس الهواء بهم، فهم له كالماء للسمكة،  لكنه شديد الارتباط أيضا بالأجيال اللاحقة، يحسن الإصغاء إليهم ، والحوار معهم في غير تعصب لذاكرة الماضي الذي يمثلها، وفي انفتاح  واع على الحاضر والمستقبل، فقاوم المرض والشيخوخة وانتصر على اليأس الذي لم يجد منفذا  إلى عقله وقلبه،  فعاش حياته كلها حتى آخر يوم من عمره متفائلا بالغد، محبا للحياة متمسكا بها ، فاعلا فيها برأيه وفكره بعد أن خذلته صحته.

      وتشاء الأقدار الربانية أن يغادر درعة مثل كل أبنائها دون أن ينساها لحظة واحدة. ففي الأيام القليلة الماضية قبل وفاته رحمه الله،كان يمني النفس أن يسترجع صحته، ويزورها ليجالس أحباءه وأصدقاءه الذين لم نخبره قط بأنهم التحقوا قبله بالرفيق الأعلى، فكان يسأل عن أخبارهم، ويكثر من الحديث عنهم، ونرفع اليوم أكف الضراعة إلى العلي القدير أن يجمع بينهم في جنته، ويشملهم برحمته، إنه هو الغفور الرحيم.

     اللهمّ اجزهم جميعا عن الإحسان إحسانًا، وعن الأخطاء عفوًا وغفرانًا، اللهمّ إنّ معلمنا وأستاذنا ومديرنا وكبير عائلتنا نَزَل بك وهو فقير إلى رحمتك، فاستقبله بمغفرتك ورضاك، وتقبل أعماله الصالحة التي أحصيتها ونسيها، بما تقبلت به أعمال الصالحين من عبادك، واحمه تحت الأرض، واستره يوم العرض، ولا تخزه يوم يبعثون "يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلّا من أتى الله بقلبٍ سليم.

      اللهم كما كنت به رحمانا في الدنيا، فأصلحت له أبناءه، وسخرتهم جميعا لخدمته، فخفضوا له جناح الذل فلم يتأففوا في سرهم وعلانيتهم من شطحات كبره، وحملوه على أكف الراحة حنى شيعوه إليك آمنا مطمئنا، فكن به رحيما في الآخرة، فقد ودعنا وهو يحسن الظن بك، ويطمع في رحمتك فلا تخيب ظنه فيك، فأنت الغفور وأنت الرحيم. اللهم أنزله منزلًا مباركًا، مع الشهداء والصديقين، وحسن أولئك رفيقًا.

      اللهمّ آنسه في وحدته، وفي غربته. واملأ قبره بالرّضا، والنّور، والفسحة، والسّرور. واجعل نفسه آمنةً مطمئنّةً، راضية مرضية وخاطبها بقولك وقولك الحق: "يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية، وادخلي في عبادي وادخلي جنتي." صدق الله العظيم.

                                                       علي بن البشير المتقي