علي المتقي
يرى مولينو وتامين أن الشعر ليس شيئا آخر سوى الاستعمال المنظم للصور. وهما بذلك يلامسان ظاهرة بالغة الأهمية، إذ الصور في النص لا تنفصل عن بعضها، بل تدخل في علاقات متعددة في ما بينها، فقد تتمحور حول صورة رحمية مركزية تؤطر القصيدة بكاملها، وباقي الصور فروع لها. وقد تتشكل القصيدة من صور متعددة ومتنوعة ينتظمها خيط رابط، فتمتد على شكل متغيرات لثابت بنيوي واحد.
وقد انتبهت البلاغة العربية القديمة إلى هذا النوع من الترابط في دراستها للاستعارة الترشيحية[1]، إلا أنها وقفت في حدود الجملة والمقطع، واهتمت أساسا بالاستعارات التي يجمعها حقل دلالي واحد. والواقع أن تعالق الصور قد يتجاوز الترشيح إلى علاقات دلالية أعمق لا تبدو إلا بعد تأمل وتقص، كما يتجاوز المقطع إلى قصيدة كاملة أو إلى ديوان بأكمله.
ويعتبر ميخائيل ريفاتير من أبرز المهتمين بهذه الظاهرة، إذ يرى أن النص الشعري يتولد بواسطة التمطيط والعكس، فبواسطة التقنية الأولى يتحول الرحم والجملة الرحمية إلى مقطوعة كلامية مطولة، وكل تركيب وصفي استعاري من هذه المقطوعة يرتبط بمقوم من مقومات الرحم الدلالية. أما تقنية العكس فتزود كل التراكيب بسمات متماثلة، والتقنيتان معا تهدفان إلى إقامة تعادل بين الرحم المختزل في كلمة أو جملة وبين النص الشعري المركب[2].
سنتخذ من دراسة ميخائيل ريفاتير ومفاهيمه خلفية مرجعية نستهدي بها لقراءة الصورة الشعرية في قصيدة (فارس الكلمات الغريبة)[3]لأدونيس.
تتكون هذه القصيدة من مزمور واثنين وعشرين مقطعا شعريا يشكل كل منها قصيدة مستقلة هي : ليس نجما ـ ملك مهيار ـ صوت ـ صوت آخر ـ تولد عيناه ـ الأيام ـ دعوة للموت ـ صوت ـ قناع الأغنيات ـ مدينة الأنصار ـ العهد الجديد ـ بين الصدى والنداء ـ الجرس ـ آخر السماء ـ وجه مهيار ـ الحيرة (أصوات) ـ ينام في يديه ـ يحمل في عينيه ـ توأم النهار ـ الآخرون ـ البربري القديس .
هذه العناوين الفرعية ذات قيمة دلالية كبرى، فالعنوان دائما هو مبتدأ النص وخلاصته المكثفة وعتبة عالمه الداخلي. وأول ما يمكن القيام به هو مراكمة هذه العناوين، والبحث عن علاقات مشتركة تجمع بينها ما دامت تشكل فروعا تنتمي إلى أصل واحد هو قصيدة فارس الكلمات الغريبة، ويمكن تصنيفها إلى الحقول الدلالية الآتية :
أ ـ الصوت : مزمور ـ صوت ـ صوت آخر ـ دعوة للموت ـ صوت ـ قناع الأغنيات ـ الحيرة (أصوات) ـ الجرس .
ب ـ الإنسان : ليس نجما ـ ملك مهيار ـ تولد عيناه ـ وجه مهيار ـ ينام في يديه ـ يحمل في عينيه ـ الآخرون ـ البربري القديس.
ج ـ الزمن : الأيام ـ العهد الجديد ـ توأم النهار .
د ـ المكان : مدينة الأنصار ـ بين الصدى والنداء ـ آخر السماء .
في ما يخص الحقل الدلالي الأول، يلاحظ أن العناوين كلها عبارة عن أصوات نكرة، باستثناء قناع الأغنيات المعرف بالإضافة والجرس المعرف ب أل. وهذه الخاصية تضفي على الأصوات طابع الإبهام والقدسية، فكلمة مزمور مرتبطة بالأناشيد الدينية المقدسة (مزامير داود) وكلمات (صوت ـ صوت آخر ـ أصوات ) يسهم تنكيرها في ربطها بعالم غير مألوف، و(الدعوة إلى الموت والجرس) يرتبطان بالجو الجنائزي. وبذلك تصبح هذه الأصوات كلها ذات طابع قدسي غير مألوف .
في ما يخص الحقل الإنساني، نميز فيه بين ثنائيتين : الثنائية الأولى ، التأكيد بالنفي والتأكيد بالإثبات . الشاعر يؤكد بعض خصائص مهيار ـ الإنسان بنفي صفات محددة عنه ( ليس نجما ، ليس إيحاء نبي...) ؛ وفي الآن نفسه يؤكد ويثبت صفات إيجابية أخرى ( ملك مهيار ـ تولد عيناه ـ وجه مهيار ـ ينام في يديه ـ يحمل في عينيه ـ البربري القديس ـ توأم النهار).
أما الثنائية الثانية فقائمة على علاقة التعارض والتضاد بين إنسانين، أحدهما مهيار، والثاني الآخرون. والملاحظ أن هؤلاء ، على الرغم من كثرة عددهم ، فقد اكتفى الشاعر بوصفهم بصفة الآخرين أي كل ما سوى الذات . فالذات هي الوسيلة الوحيدة لمعرفة الآخرين المعرفين بـ "ال" التي تفيد استغراق الجنس.
ينبني الحقل الدلالي الثالث على نفس الثنائية، الأيام من جهة، والعهد الجديد والنهار من جهة ثانية. فالأيام معرفة، وهذا التعريف يضفي عليها الاستغراق وطابع الألفة والاعتياد، أي الأيام التي تعد بالساعات وتتحول إلى شهور وسنوات وقرون وعصور. أما العهد الجديد، فعلى الرغم من وروده معرفا، فهو مقيد بصفة الجديد، مما يضفي عليه صفة الغرابة والندرة وعدم الاعتياد. من هنا، فالعلاقة بين الطرفين هي نفسها العلاقة بين المألوف والغريب، بين الجمع والمفرد، بين الآخرين ومهيار، إنها علاقة تعارض ونفي.
ولا يشذ الحقل الدلالي الرابع عن هذه الثنائيات، فمدينة الأنصار مكان مألوف بدلالته التاريخية (يثرب)، وبتعريفه بالإضافة، إنه مكان حقيقي.أما بين الصدى والنداء، وآخر السماء، فمكانان مجازيان لاوجود لهما على الأرض. فبين الصدى والنداء مكان ميتافيزيقي يتلاشى بتلاشي النداء والصدى، أما آخر السماء فليس سوى الهاوية والمجهول والضياع .
نخلص من هذه القراءة الأولية لعتبات النص إلى أن الحقول الأربعة تنبني أساسا على ثنائية واحدة يمكن تكثيفها في الخطاطة الآتية:
الآخــرون | أصوات | |||
الأيـــام | مهيــار | العهد الجديد | ||
مدينة الأنصار | بين الصدى والنداء |
إن مهيارـ الإنسان محور هذه العناصر ومركز تحولاتها. إنه فاعل (فارس) يفعل فعله في كل العناصر(تحويل الكلمات المألوفة إلى كلمات غريبة، والآخرين إلى أصوات تائهة ميزتها الحيرة، والأيام إلى أيام جديدة، ومدينة الأنصار إلى مكان آخر جديد وغير مألوف)، فيخرجها من حالتها السلبية إلى حالة إيجابية. يرفض مهيار الآخرين بأيامهم ومدينتهم، ويدير لهم ظهره لأنهم هم الجحيم والإنسـان المعمـم الـذي لا يتقن سوى الثرثرة، وبالمقابل يتقدم نحو الأصوات التائهة الخفية، خالقا عهدا جديدا وفضاء جديدا. وتؤكد هذه العلاقات المقاطع الآتية :
ـ علاقته بالآخرين:(عرف الآخرين / فرمى صخرهم فوقه واستدار حاملا غرة النهار)[4].
ـ علاقته بالأيام : ( تعبت عيناه من الأيام (...) هل يثقب جدران الأيام / يبحث عن يوم آخر)[5].
ـ علاقته بمدينة الأنصار : ( لاقيه يا مدينة الأنصار / بالشوك ، أو لاقيه بالحجار/ وعلقي يديه قوسا )[6].
ـ علاقته بالأصوات:( علمنا أن نقرأ الغبار/ لأنه يحار / ...) .
ـ علاقته بالعهد الجديد: ( يبحث عن يوم آخر/ أهنا أهنالك يوم آخر؟ )[7].
ـ علاقته بالمكان الجديد : ( بين الصدى والنداء يختبئ / تحت صقيع الحروف يختبئ ... يحلم أن يرقص في الهاوية )[8].
فمن هو مهيار هذا ؟ وكيف يفعل فعله السحري الغريب ليحول الأشياء ؟ لنعد إلى النص لنرى كيف يعرف نفسه أو كيف يعرفه الشاعر:
* فاعل التحول :
ـ إنه فيزياء الأشياء ، يعرفها ويسميها بأسماء لا يبوح بها .
إنه الواقع ونقيضه، الحياة وغيرها.
إنه الريح لا ترجع القهقرى، والماء لا يعود إلى منبعه.
يخلق نوعه بدءا من نفسه، لا أسلاف له وفي خطواته جذوره[9]
ـ ليس نجما، ليس إيحاء نبي.
ليس وجها خاشعا للقمر[10].
ـ ملك مهيار
ملك والحلم له قصر وحدائق نار[11].
ـ وحده البذرة الأمينة
وحده ساكن في قرارة الحياة[12].
ـ إنه لغة تتموج بين الصواري
إنه فارس الكلمات الغريبة [13].
ـ وجه مهيار نار [14].
ـ مهيار توأمنا وتوأم النهار[15].
ـ ذاك مهيار قديسك البربري
يا بلاد الرؤى والحنين
إنه الخالق الشقي[16].
سنعيد ترتيب هذه الصور التي وردت مشتتة في القصيدة للتعرف على صورة مهيار ـ القصيدة منطلقين في ذلك من الكل إلى الجزء .
ينطلق أدونيس في تعريفه بمهيار من نفي صفات الآخرين عنه:
ليس نجما ، ليس إيحاء نبي
ليس وجها خاشعا للقمر .
تكرر النفي ثلاث مرات لينفي عن مهيار صفة تجمع بين النجم والنبي والوجه الخاشع للقمر. فالنجم يدور في فلكه دورة آلية منتظمة، والنبي لا ينطق عن الهوى أومن تلقاء ذاته، إن كلامه إلا وحي وإيحاء يوحى إليه من خارج ذاته، والخاشع للقمر يذوب في خشوعه حتى تذوب شخصيته. إن العناصر الثلاثة إذن تشترك في خاصية التبعية: التبعية للفلك، والتبعية للوحي، والتبعية للقمر. ولايتمرد أي عنصر من هذه العناصر عن معبوده ومتبوعه.
يرفض مهيار أن يكون أحد هذه العناصر، أو أن يحمل بعض خصائصها، لذا يؤكد منذ البداية أنه يخلق نوعه بدءا من نفسه، وأن لا أسلاف له، فمهيار إذن ينفي عن نفسه التبعية، ويؤكد عودته إلى الذات للانطلاق منها، فهي مصدر القرار، ومصدر المعرفة، وهذه المعرفة غير قابلة للتراكم، ولا يهمه إن ناقض نفسه أوعارض خطواته القديمة ، ففي ذاته يجمع بين كل المتناقضات .
إنه فيزياء الأشياء ، يعرفها ويسميها بأسماء لايبوح بها
إنه الواقع ونقيضه، الحياة وغيرها.
نقيض الواقع هو الحلم والمتخيل، وغير الحياة هو الموت. فمهيار يجمع في ذاته بين هذه المتناقضات كأي خالق شقي، فحلمه هو واقعه الذي لايخضع لأي منطق عقلاني، والحياة تتضمن في باطنها بذرة الموت ، كما الموت تتضمن بذرة الحياة.
تجتمع هذه المتناقضات: الحلم / الواقع ـ الحياة / الموت في اللغة المتموجة بين الصواري. فمهيار فارس الكلمات الغريبة الذي يصنع قصور حلمه وحدائقها النارية بالكلمات، وفي صناعتها يحولها من المألوف إلى الغريب، وفي غرابتها طرافتها، وفي الطرافة إعجاب ، وفي الإعجاب إبداع كما يقول الجاحظ [17]، والإبداع خلق. إنه الخالق الشقي الذي يعجن اللغة إلى أن يحولها إلى ذهب لماع سمته الحيرة والغموض. فكيف يمارس مهيار هذه العملية ؟
يتحد مهيار في فعله بأربعة عناصر يمارس من خلالها كل أفعاله، ويفرض سلطته على كل أبطال التاريخ والأسطورة فيخضعهم لسلطته المطلقة. هذه العناصر هي : الريح والماء والنار والأرض.
ـ إنه الريح لا ترجع القهقرى.
ـ إنه الماء لا يعود إلى منبعه .
ـ وجه مهيار نار .
ـ غدا غدا في النار والربيع
تعرف أني حاضن البذور .
يتحد مهيار أول ما يتحد بالريح، والريح كما سبقت الإشارة عنصر فاعل في عملية التحول، فهو أحد عوامل التعرية التي تصنع خريطة التضاريس الجيلوجية، وفي الآن نفسه عامل إخصاب. وكلا الوظيفتين لا تقوم بهما الريح إلا لأنها تمتلك خاصية الإقدام والسير إلى الأمام إلى ما لا نهاية، وهي نفسها الخاصية التي تجمع بين الريح ومهيا . وفي سيرها تلقح الأشجار، والتلقيح مصدر البعث والخلق والإبداع .
كما اتحد مهيار بالريح، اتحد بالماء. وهو كالريح عنصر تحول وصيرورة وخلق، فإذا فاض جرف كل ما يجد أمامه من حياة ميتة، فيحفر مجراه كما مهيار، ويغير وجه الأرض ، ويبعث الجذور والبحار.
العنصر الثالث الذي يتحد به مهيار ويتقمصه هو النار التي تحرق كل القصور لتبعث الحياة من رماد الجذور، تحرق كل وجه أليف ومعتاد ومعروف، إنها تحرق كما الريح تكنس ، كما الماء يجرف. تحرق الآخرين، تحــرق الأيام، تحرق مدينة الأنصار بحثا عن أصوات تائهة، عن يوم آخر لا كالأيام، عن مكان يتحول ويتغير. ولا يكتفي مهيار بإحراق كل شيء، بل يحرق حتى ذاته ليخلق عالما آخر جديدا يبعث فيه من جديد . فنار مهيار إذن كالماء تجمع بين المتناقضات وتوحد بينها.
العنصر الرابع هو الأرض " إني حاضن البذور" وحاضن البذور هو الأرض. فمهيار تارة ماء، والماء عنصر ذكوري، وتارة أرض والأرض عنصر أنثوي. وبتلاقي الذكورة والأنوثة تنبثق الحياة، إنه فاعل ومنفعل في الآن نفسه .
إن هذه العناصر الأربعة، على الرغم من تناقضها الظاهر، تتكامل في ما بينها، ويتولد بعضها عن بعض " مرت على بحارنا سحابة من ناره من عطش الأجيال"، فالسحابة ماء إلا أنها من نار ومن عطش، أي من نقيضها. وكما يتولد الماء من النار، تتولد النار من الرياح " يأخذ من عينيه لألأة ومن آخر الأيام والرياح شرارة ". ومن الأرض والماء ( عنصري الذكورة والأنوثة ) يولد الصباح.
* فعل التحول : أول ملاحظة تستوقفنا في قصيدة "فارس الكلمات الغريبة" هو انبناؤها على الفعل المضارع الدال على التحول في الحاضر والمستقبل ، فاعله مهيار ومفعوله يشمل عناصر الكون كلها زمانا ومكـانا وإنسانا.
تسند هذه الأفعال إلى فواعل متعددة تشكل أقنعة لمهيار ، لكنها في معظمها تعود إلى العناصر الأربعة التي اتحد بها مهيار، ويتضح ذلك من الجدول الآتي :
الإقدام ـ الريح | الإحراق ـ النار | البعث ـ الماء | الخصوبة ـ الأرض |
إنه الريح لا ترجع القهقرى. | يحرق فينا قشرة الحياة والصبر ... | يعلن بعث البحار. | يحتضن الأرض الخفيفة. |
يقبل...وكالغيم لا يرد. | استسلمي للرعب ... يا أرضنا...واستسلمي للنار. | يعلن بعث الجذور. | يملك أرض الأسرار. |
يحول الغد إلى طريدة.. | وليحترق مهيار. | يعلن بعث المرافئ. | إنه البذرة الأمينة. |
يمشي في الهاوية. | وجه مهيار نار. | ساكن في قرارة الحياة. | |
يأتي كرمح وثني. | تحرق أرض النجوم الأليفة. | إني حاضن البذور. | |
يثقب جدران الأيام. | يأخذ من آخر الأيام شرارة. | ||
يحيا في ملكوت الريح. | |||
يتقدم تحت الركام. | |||
مانحا شعره للرياح. | |||
إنه مقبل ـ إنه مثلنا. | |||
يتخطى تخوم الخليفة. | |||
هادما كل دار. |
إن الأفعال في العمود الأول تفيد الإقدام والسير إلى الأمام. أما في العمود الثاني فيتكرر فعل الاحتراق ( احتراق القشرة والصبر والملامح الوديعة والأرض والذات...)، وفي العمود الثالث يقوم مهيار بفعل البعث والخلق (بعث الجذور وبعث البحار). أما في العمود الرابع، فيمارس فعل الاحتضان الذي يفيد العلاقة الحميمية بين الذكر والأنثى.
إن أفعال العمودين الأول والثاني ( الإقدام والإحراق ) هي أفعال هدم، هدم كل ما هو كائن ومألوف. أما أفعال العمودين الثالث والرابع فأفعال بناء ( الاحتضان والخصوبة والبعث ) وهذه الثنائية ( الهدم والبناء ) هي أساس الحداثة الأدونيسية.
* ظروف الفعل: تتعدد الأمكنة التي يتحقق فيها فعل التحول كما تعددت الأفعال وأقنعة الفاعل، إلا أنها تتحاقل في ما بينها لتصبح مكانا واحدا تتعدد وجوهه كما يتضح من جدول الأمكنة الآتي :
ـ الحيرة وطنه. ـ حيث يصير الحجر بحيرة والظل مدينة يحيا. ـ في طرق بيضاء منفية . ـ في الصخرة المجنونة الدائرة. ـ في الأعين المطفأة الحائرة . ـ في سفر يسيل كالنزيف من جثة المكان . ـ في عالم يلبس وجه الموت ... ـ بين الصخور ... ـ بين المجاذيف ... ـ في جزائر العرائس ... ـ في وشوشات المحار... ـ خلف القناع الطويل من الأغنيات ... ـ في مناخ الحروف الجديدة... ـ بين الصدى والنداء ... ـ تحت صقيع الحروف ... ـ في لهفة التائهين ... ـ في الموج بين الأصداف ... | الضياع الماء الضياع الماء الضياع الماء الموت الماء الماء الماء الماء اللغة اللغة اللغة اللغة الضياع الماء |
إن أغلبية الأماكن ترتبط بالماء والضياع واللغة، وهذا راجع إلى أن البحر يحتضن جذور مهيار، كما أن جميع الأمكنة تتميز بخاصية الغموض والسرية. فهي أمكنة لا يعرفها الآخرون، إنها أمكنة نقيضة لمدينة الأنصار:
حيث لا يلتقي بسواه يجيء
حيث لا يلمح الآخرين استدار[18].
إن الظرف ( حيث ) في هذين السطرين اختزال وتكثيف لكل هذه الأمكنة المتعددة. أما الزمان، فيختزل في زمن واحد هو العهد الجديد المغاير للأيام المثقوبة.
نخلص من هذا التحليل إلى أن القصيدة كلها بمقاطعها المتعددة وأقنعتها المتنوعة ليست إلا صورة واحدة تتعدد ملامحها في صور متعددة، إلا أنها تعود كلها إلى بنية رحمية واحدة محورها الفعل الإيجابي ( الهدم والبناء ) الذي يقوم به فاعل متمرد في زمان ومكان محددين .
ملحق : قصيدة
فارس الكلمات الغريبة : أدونيس :
مزمـــور
يقبل أعزل كالغابة وكالغيم لا يرد ، وأمس حمل قارة ونقل البحر من مكانه .
يرسم قفا النهار ، يصنع من قدميه نهارا ويستعير حذاء الليل ، ثم ينتظر ما لا يأتي . إنه فيزياء الأشياء، يعرفها ويسميها بأسماء لايبوح بها . إنه الواقع ونقيضه ، الحياة وغيرها .
حيث يصير الحجر بحيرة والظل مدينة يحيا ، يحيا ويضلل اليأس ، ماحيا فسحة الأمل ، راقصا للتراب كي يتثاءب ، وللشجر كي ينام .
وهاهو يعلن تقاطع الأطراف، ناقشا على جبين عصرنا علامة السحر.
يملأ الحياة ولا يراه أحد ، يصير الحياة زبدا ويغوص فيه ، يحول الغد إلى طريدة ويعدو يائسا وراءها ، محفورة كلماته في اتجاه الضياع الضياع الضياع.
والحيرة وطنه ، لكنه مليء بالعيون.
يرعب وينعش
يرشح فاجعة ويفيض سخرية
يقشر الإنسان كالبصلة
إنه الريح لا ترجع القهقرى، والماء لا يعود إلى منبعه، يخلق نوعه بدءا من نفسه ، لا أسلاف له وفي خطواته جذوره .
يمشي في الهاوية وله قامة الريح .
ليس نجما
ليس نجما ليس إيحاء نبي
ليس وجها خاشعا للقمرـ
هو ذا يأتي كرمح وثني
غازيا أرض الحروف
نازفا ـ يرفع للشمس نزيفه ؛
هو ذا يلبس عري الحجر
ويصلي للكهوف
هو ذا يحتضن الأرض الخفيفه .
ملك مهيار
ملك مهيار
ملك والحلم له قصر وحدائق نار
واليوم شكاه للكلمات
صوت مات ؛
ملك مهيار
يحيا في ملكوت الريح
ويملك في أرض الأسرار.
صـوت
مهيار وجه خانه عاشقوه
مهيار أجراس بلا رنين
مهيار مكتوب على الوجوه
أغنية تزورنا خلسة
في طرق بيضاء منفيه،
مهيار ناقوس من التائهين
في هذه الأرض الجليليه.
صوت آخر
ضيع خيط الأشياء وانطفأت
نجمة إحساسه وما عثرا
حتى إذا صار خطوه حجرا
وقورت وجنتاه من ملل
جمع أشلاءه على مهل
جمعها للحياة ، وانتثرا .
تولد عيناه
في الصخرة المجنونة الدائره
تبحث عن سيزيف ،
تولد عيناه ،
تولد عيناه
في الأعين المطفأة الحائره
تسأل عن أريان ،
تولد عيناه
في سفر يسيل كالنزيف
من جثة المكان .
في عالم يلبس وجه الموت
لا لغة تعبره لا صوت ـ
تولد عيناه .
الأيام
تعبت عيناه من الأيام
تعبت عيناه بلا أيام
هل يثقب جدران الأيام
يبحث عن يوم آخرـ
أهنا أهنالك يوم آخر ؟
دعوة للموت[ أصوات ]
يضربنا مهيار
يحرق فينا قشرة الحياة
والصبر والملامح الوديعه ؛
فاستسلمي للرعب والفجيعه
يا أرضنا يا زوجة الإله والطغاة
واستسلمي للنار.
صــوت
يهبط بين المجاديف بين الصخور
يتلاقى مع التائهين
في جرار العرائس
في وشوشات المحار؛
يعلن بعث الجذور
بعث أعراسنا والمرافئ والمنشدين ـ
يعلن بعث البحار.
قناع الأغنيات
باسم تاريخه في بلاد الوحول
يأكل ، حين يجوع ، جبينه
ويموت وتجهل كيف يموت الفصول
خلف هذا القناع الطويل
من الأغنيات.
وحده البذرة الأمينه
وحده ساكن في قرار الحياة .
مدينة الأنصار
1
لاقيه يا مدينة الأنصار
بالشوك ، أو لاقيه بالحجار
وعلقي يديه
قوسا يمر القبر
من تحتها ، وتوجي صدغيه
بالوشم أو بالجمر ـ
وليحترق مهيار .
2
أكثر من زيتونة ونهر
ونسمة تروح أو تجيء
أكثر من جزيرة وغابه
أكثر من سحابه
تركض في طريقه البطيء
تقرأ ، في سريرها ، كتابه .
العهد الجديد
يجهل أن يتكلم هذا الكلام
يجهل صوت البراري ،
إنه كاهن حجري النعاس
إنه مثقل باللغات البعيده .
هو ذا يتقدم تحت الركام
في مناخ الحروف الجديده
مانحا شعره للرياح الكئيبه
خشنا ساحرا كالنحاس .
إنه لغة تتموج بين الصواري
إنه فارس الكلمات الغريبه .
بين الصدى والنداء
بين الصدى والنداء يختبئ
تحت صقيع الحروف يختبئ
في لهفة التائهين يختبئ
في الموج، بين الأصداف يختبئ ،
وحينما يغلق الصباح على
عينيه أبوابه وينطفئ،
يلجأ مصباحه إلى جبل
ضيعه يأسه، ويلتجئ .
الجرس
النخيل انحنى
والنهار انحنى والمساء ـ
إنه مقبل ، إنه مثلنا؛
غير أن السماء
رفعت باسمه سقفها الممطرا
ودنت كي تدلي
وجهه ، فوقنا ، جرسا أخضرا .
آخر السماء
يحلم أن يرمي عينيه في
قرارة المدينة الآتيه
يحلم أن يرقص في الهاويه
يحلم أن يجهل أيامه الآكلة الأشياء
أيامه الخالقة الأشياء ؛
يحلم أن ينهض أن ينهار
كالبحر ـ أن يستعجل الأسرار
مبتدئا سماءه في آخر السماء .
وجه مهيار
وجه مهيار نار
تحرق أرض النجوم الأليفه،
هو ذا يتخطى تخوم الخليفه
رافعا بيرق الأفول
هادما كل دار؛
هو ذا يرفض الإمامه
تاركا يأسه علامه
فوق وجه الفصول .
الحيرة[أصوات]
لأنه يحار
علمنا أن نقرأ الغبار.
لأنه يحار
مرت على بحارنا سحابه
من ناره من عطش الأجيال.
لأنه يحار
أعطى لنا الخيال
أقلامه ، أعطى لنا كتابه .
ينام في يديه
يمد راحتيه
للوطن الميت للشوارع الخرساء،
وحينما يلتصق الموت بناظريه
يلبس جلد الأرض والأشياء
ينام في يديه .
يحمل في عينيه
يأخذ من عينيه
لألأة ؛ من آخر الأيام والرياح
شرارة ؛ يأخذ من يديه
من جزر الأمطار
جبلّة ويخلق الصباح .
أعرفه ـ يحمل في عينيه
نبوة البحار
سماني التاريخ والقصيده
الغاسلة المكان ،
أعرفه ـ سماني الطوفان .
توأم النهار
الليل أبواب وساحرات
في رئتي مهيار
في وجهه الأصفر في يديه.
مت مثلنا ضع معنا يا آدم الحياة
أبحر بنا إليه
نشتاقه نحيا له ـ مهيار
توأمنا وتوأم النهار .
الآخرون
عرف الآخرين
فرمى صخره فوقهم واستدار
حاملا غرة النهار
والسنين التي تهرول عذرية الجنين.
وجهه عالق بالحدود الغريبه
ينحني فوقها ويضيء ؛
حيث لا يلتقي بسواه يجيء
حيث لا يلمح الآخرين استدار
حاملا غرة النهار
ماحيا صفحة السماء القريبه .
البربري القديس
ذاك مهيار قديسك البربري
يا بلاد الرؤى والحنين ،
حامل جبهتي لابس شفتي .
ضد هذا الزمان الصغير على التائهين.
ذاك مهيار قديسك البربري ـ
تحت أظفاره دم وإله ؛
إنه الخالق الشقي
إن أحبابه من رأوه وتاهوا .
[1] - يقول السكاكي :" ومبنى الترشيح على تناسي التشبيه ، وصرف النفس عن توهمه ، حتى لا تبالي أن تبني على علو القدر وسمو المنزلة بناءك على العلو المكاني والسمو" ـ مفتاح العلوم ـ م س ـ ص 385 .
[2]- M. Riffaterre : semiotique de la poèsie - Ed : Seuil - Paris 1983 - P 67 .
[3] - أغاني مهيار الدمشقي ـ م س ـ ص 251 وما بعدها .
[4] - نفســـه ص 273 .
[5] - نفســـه ص 258.
[6] - نفســـه ص 262 .
[7] - نفســه ص 258 .
[8] - نفســه ص 265 .
[9] - نفســه ص 251 - 252 .
[10] - نفســه ص 253.
[11] - نفســه ص 254.
[12] - نفســه ص 261.
[13] - نفســه ص 264.
[14] - نفســه ص 267 .
[15] - نفســــه ص 272.
[16] - نفســــه ص 274 .
[17] -البيان والتبيين تحقيق وشرح عبد السلام محمد هارون ـ دار الفكر ـ الجزء الأول ـ ص 89 - 90.
[18] - أغاني مهيار الدمشقي ـ م س ـ ص 273.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق