الأحد، 22 مايو 2011

بريد العالم السفلي ( رسائل من عالم الأموات )


                                                    علي المتقي
تمدَّدَ الحزْنُ
كفَّنَ لونُهُ جلْسَةَ السَّمَرْ.
لاَ نجمَ يكونُ الدليلَ ولا قمَرْ.
الريحُ قطارٌ بِلاَ رُكَّابٍ
يَستعجلُ السَّفرْ.
أسَبْعٌ عِجَافٌ
تَزُورُ البِلادَ
أمِ البومُ نادَى
فَجفَّ الشَّجَرْ.
دعوا النعشَ هناكْ
فلم يبْقَ بِأرضِ الجنائِزِ
مَا تقتاتُ بِه السَّبعُ العَاجِفَاتْ
محمَّدٌ ماتْ
وفاطمَ خلفَ شُجيْراتِ الصُّبَّارِ
تلتحفُ الحِدادْ.
سالتِ البطاحُ
بصمتِ البياضِ
وعويلِ السَّوادِ
محمَّدٌ ماتْ....
محمَّدٌ ماتْ....
أصابعُ الأطفالِ بوصلةٌ
شَمالُهَا مدينةُ الأمواتْ
شواهدُ المَوْتَى فيها كَتِيبَةٌ
تُحيِّي مَنْ حَضَرْ
فَيبلَعُ الأطفالُ سبْعًا مِن الحَجَرْ
مَخَافةَ القَدَرْ.
وحينَ يُقبلُ المساءْ
وتقفرُ الدروبْ
يَغربُ الأطفالُ
في خِدْرِ الحنانْ
طلباً لِلأمانْ
تَسَّاقَطُ النجومُ كأنَّها المطرْ.
تَفيض الألحادُ بالأشباحْ
بغلةُ القبورِ
تُسابقُ الرياحْ
قِيلَ بَيضاءُ كالكفَنِ
قيلَ شوْهاءُ  كالشَّطَنِِ
قيلَ امرأةٌ ملعونةٌ
بلا وشاحْ.
تَطرق أبواب الحُلمِ
تُوزِّعُ رَسَائِلَ الأَرْواحْ
الرسالة الأولى :
نَبِيٌّ يَتَوكَّأُ على عَصاهْ
يَتأبَّطُ وَصَايَاهْ
يَصيحُ  مِلْءَ السَّماءْ
يا خاتِمَ الأنبياءْ
أنا لم آمُرهُمْ بِقتلِ الأنبياءْ
أنا لم آمُرهُم بقتلِ الأبريَاءْ
الرسالة الثانية
المسيح في أعياد الميلادْ
يلتحف لون الحِدادْ
يرفع عقيرته بالنداءْ
يا خاتم الأنبياءْ
الصمت خطيئة نكراءْ
أنا أوَّلُ الضَّحايَا
الصَّامتُونَ غَسَلوا بيَ الخطايَا
كلُّهم في خطايَاهُمو سواءْ
خطايا الصمتِ كخطايا القتلِ
لا تكنِسُها الرياحْ
شَبيهي ما زالت تنوحُ به الجِراحْ


الرسالة الثالثة
قُلتُ لكُمْ وأَنَا بَيْنَكمْ
غُثاءٌ كغُثاءِ السَّيلِ هذا الغُثاءْ
غثاء كغثاء السيل هذا البكاءْ
يا أبابيل السماءْ
سَوِّي قِمَمَ الأرضِ بِسطحِ الماءْ
كلهم في غُثائهمُو سواءْ...
كلهم في غثائهمو سواءْ...
 تعليقات على هامش القصيدة  نشرت بملتقى  الأدباء والمبدعين
أناهيد عبد الله


الشاعر الراقي /علي المتقي
دلالات و رموز و فكر يتأرجح بالصور
عميق و قوي
سلم اليراع
للتثبيت
عيسى عماد الدين عيسى
أخي علي جميلةٌ هذه الرسائل
و جميلة معانيها ، و جميلةٌ من ثبتتها

لك عميق شكري تنقلت من عرض واقع مرير إلى مرور على الأنبياء و تذكرنا بوصايا كل منهم لبني اسرائيل ، ثم مصلت إلى نبي الرحمة صلى الله عليه وآله وسلم ، و ذكرتنا بقوله إنا كغثاء السيل
و هذه والله مصيبتنا اليوم

لك تحيتي على هذه اللوحة الرائعة التي اشكرك عليها ، وأشكر من ثبتتهاعني مرة أخرى

مودتي
عبد الرحمان المتقي
أحب الكلمة الجميلة لأني مولع بالبلاغةالعربية،عاشق لهذا الفن الرفيع. و أحب من يهيم بها قارئا و متذوقا. غير أنها تختلط أحيانا برائحة الموت وأشلاء البشر.فما العمل؟ أمامي خياران: إما الكفر بالجمَل وما حَمَل،و دسُّ الأنف في منديل يحتوي روائح اصطناعية،و إيهام الذات بأن كل شيء على ما يرام ما دمت لا أراه، و إما رؤية الأشياء كما هي، و محاولة التكيف مع هذا الواقع بآماله وآلامه، و النظر إلى الكأس كاملة بنصفيها المملوء والفارغ،والبحث عن الجمال و لو بين الرميم. فقد جرت عادة بعض الذواقين أن يبحثوا عن الورود بين الأشواك، و عن الأزهار حتي بين ثنايا الشر.و ما اسم بودلير عنا ببعيد.
ليس الخيار الأول من طبعي كالعديد من الناس. وأعتبر أن الثاني أهون على النفس، و أليق بالطبع رغم شدة الوقع. خاصة إذا كانت مسوغاته قائمة كما هو واقع الحال اليوم. فأزمة غزة أحدثت في النفس هزة. والطبيعي أن تحضر في القول كما هي في الواقع، بتضحيات أبنائها وجثامين شهدائها، بعويل نسائها و صبر رجالها، بكلام صبيانها الذين لم يعرفوا للطفولة طعما،و لا لكلامها معنى،بإيمان سكانها وصمود هياكلها أمام الجبروت.
أبحث عن الكلمة الطيبة الجميلة و لو تغشتها رائحة الموت. هذا قدر هذا الجيل. و عسى الله أن يجعل بعد العسر يسرا. فنحن في زمن الاستكبار لا نملك إلا المكابرة، في انتظار الفجر الموعود. أطوف في مواقع معلومة بين عشاق الكلمة، فأعثر على قصيدة بريد العالم السفلي( رسالة من عالم الأموات).و عهدي بالأستاذ عباس ارحيلة صاحب الموقع يتذوق قبل أن يبث.
مليء واقعنا العربي بصور الموت، و شواهد القبور تستعصي على العد. فكان طبيعيا أن يحضر الأموات على ألسنة الأحياء. فلأقرأ:

تمدَّدَ الحزْنُ
كفَّنَ لونُهُ جلْسَةَ السَّمَرْ.
****
أسَبْعٌ عِجَافٌ
تَزُورُ البِلادَ
أمِ البومُ نادَى
فَجفَّ الشَّجَرْ.

أي و الله! و كيف لا يفعل و له في ديارنا متسع؟بل و في صدورنا فضاء.و أتابع القراءة لتستوقفني فكرة:بأي ثقافة نقرأ النصوص؟هل يكفي أننا نتكلم لسانا واحدا ليفهم المتلقي منا كلام المبدع ويتذوقه؟ أو لا بد من شيء آخر مشترك بين المرسل والمتلقي ليكون فهمه أقرب إلى ما جال في ذهن المبدع لحظة الإبداع، ويتشكل الفهم المنسجم بين المبدع ومتلقيه؟و بالتالي، نستطبع أن ننتج معرفة بالنص، منسجمة لإغنائه، و للكشف عن وجوهه المحتملة. لا نشك أن امتلاك اللسان يسهل مامورية التواصل. و لكن ذلك لا يكفي لتحقيق الهدف المنشود. فتمام الفهم من تمام التواصل. و تمام التواصل يفترض مرجعية ثقافية مشتركة بين طرفي العملية ليتحقق. وأفترض أن القصيدة التي أقرأ تحتاج إلى تلك الثقافة لينعم قارئها بها. وواهم من تصور أنه بلغ من قراءتها مبلغا، اللهم إلا المشترك الفعلي بين أبناء اللسان الواحد و الذوق المتقد. و هو شيء يهون أمام ما سأكشفه للاستدلال على صحة ما ذهبت إليه، و إن كان له اعتبار وازن في تاريخ ذوقنا الفني.
دعوا النعشَ هناكْ
فلم يبْقَ بِأرضِ الجنائِزِ
مَا تقتاتُ بِه السَّبعُ العَجفواتْ


تحيل الصورة على معتقد اجتماعي محلي: فكلما استحر الموت،اشتاق الناس إلى ما يوقف جنونه. وليس في ثقافتهم غير ترك النعش في المقبرة إيحاء للموت بضرورة الاكتفاء بآخر محمول إلى مدينة الأموات.فالسبع العجاف أكلت اللحم، و مشت العظم. وأرض الجنائز لم يبق بها ما يشبع هذا النهم.
فوظيفة الترك إذن هناك تصبح إجرائية و لصالح المعتقدين. وبذلك تكون الصورة أقرب إلى إدراك وتصور المتلقي/ القارئ.

سالتِ البطاحُ
بصمتِ البياضِ
وعويلِ السَّوادِ


أتصور البطحاء التي تجول في الذهن لحظة الإبداع منبسطا أرضيا خلف الدوار الذي شهد الميلاد. يغضب أحيانا فيتجلل بالزبد لحظة البروق و الرعود، و يقبل على السكان متوعدا مزمجرا، ترقب الأعين بصمت عبابه مستعدة للمواجهة، و الصبية به فرحون. أتساءل: من أين للقارئ الذي لا يستحضر الصورة أن يفهم إلا ما توحي به كلمة البطاح الخفيفة على اللسان، الجميلة الوقع على الآذان؟ و ماذا يزن هذا الفهم أمام فهم من يعرف الصورة وقد عاشها؟ ثم إنها ليست بطحاء كما هي في الواقع، ولكنها بطاح تسيل بصمت البياض لينطمس المعنى، و لا تبقى إلا الخيالات الباهتة. و هل لقارئ خارج هذه الر قعة الجغرافية أن يفهم من البياض عمائم الرجال، ومن السواد ملاحف النساء؟ ثم إن الصمت عندنا مكابرة وصبر وانتظار، و العويل تخوف واحتجاج و تهوين.
أصابعُ الأطفالِ بوصلةٌ
شَمالُهَا مدينةُ الأمواتْ
شواهدُ المَوْتَى فيها كَتِيبَةٌ
تُحيِّي مَنْ حَضَرْ
فَيبلَعُ الأطفالُ سبْعًا مِن الحَجَرْ
مَخَافةَ القَدَرْ.
كم هو بعيد ما تستقصى منه هذه الصورة في عمق المجتمع؟و أنى لأي قارئ أن يفهم معنى أن تصبح الأصابع الصغيرة بوصلة موجهة إلى الشمال كما تفعل كل البوصلات؟ و هل يدرك أن المقبرة عندنا تسمى مدينة ؟وأن إضافتها إلى الأموات ليس إلا اجتهادا من المبدع لتقريب معانيه إلى قارئ يجهل هذا المعنى؟ و أنها تقع فعلا شمال الدوار؟و ما عادة الأطفال إذا أشار أحدهم إلى المقبرة بأصبعه؟ألا يصبحون ساعتها مهددين بقدر غيبي يقتضي تخلصهم منه أن يبتلع المشير سبعا من الحصيات الصغيرة؟ومن أين للمتلقي العربي أن يفهم هذه الأبعاد؟ ألا يمثل هذا الغياب مدعاة انحراف لقراءة الصورة بما يجعلها بعيدة كل البعد عن حقيقة مرجعها الاجتماعي؟ وكيف ينسجم أي فهم آخر محتمل لها مع المعنى الذي تمتح منه هذه الشواهد؟
وحينَ يُقبلُ المساءْ
وتقفرُ الدروبْ
يَغربُ الأطفالُ
في خِدْرِ الحنانْ
تَسَّاقَطُ النجومُ كأنَّها المطرْ.

ها هنا استحضار لذاكرة الطفولة التي تسترجل ما دامت الشمس في كبد السماء، و كلما اقتربت من مغربها كلما اقترب الرعب من الصغار، خاصة عندما يستجد قبر في المدينة،فتراهم يغربون مع الشمس إلى خدور الأمهات و في ثنايا حنانهن يلتمسون الأمن من هذا الشر المتطاير على الشرفات.خاصة و الدنيا ظلام في ظلام في ظلام. لا يضيء بعض جوانبها إلا نيران المواقد أو قناديل الكربون أو الشمعات المتهالكة بفعل الحر، والدروب الضيقة الملتوية مقفرة إلا من عابري سبيل مستعجلين الوصول إلى دورهم أو إلى المسجد . و من أين لقارئنا أن يعلم أن مما ترسخ في الأذهان أن لكل شخص نجمة في السماء، و أن هذه النجمة تزول من السماء بزواله من الدنيا؟و أن الصغار يعلمون جيدا أن النجوم الهوالك تساقط ليلا كقطيرات ماء تخلصت منها السحاب؟و إذن،فتساقط النجوم كأنها المطر تفهم في سياق كثرة الموت، وسقوط النجوم له صلة بانطفاء الأمل، له صلة بتمدد الحزن، له صلة بالسطر الثالث (لا نجم يكون الدليل ولا قمر).
أشفق على من سيقرأ هذه القصيدة فيعود مرتبطا بواقع الحال لتتراءى له نجوم القنابل الفوسفورية تساقط كالمطر في سماء غزة الشاهدة،و أشفق عليه أكثر إن علم مني هذه المرجعية الاجتماعية، فعاد إلى النص يحاول فهم جمع النجوم المتساقطة كالمطر على ضوئها، لأن المكان/ المنبع دوار سكانه عشرات، وموتاه آحاد على بعد، و بالتالي، لن ترى العين إلا نجمة واحدة تخلى مكانها بين الفبنة و الأخرى. فمن أين لهذا المبدع هذا الجمع الزؤام؟و أنا أسهل المامورية اعتبارا للخلفية وارتباطا بالواقع العربي المرير: فالمكان غير المكان. والحدث هو هو، والثابت في الذهن لا يتغير. و بالنظر إلى كثرة الشهداء هناك، تكثر النجوم المتساقطة فتصبح الصورة أمطارا تذكر بتساقط نجوم الفوسفور فوق رؤوس الناس، ولتحصد أرواحا وأجسادا لإرواء هذا التعطش المقيت إلى الدم البشري، تحقيقا لنبوة الفساد في الأرض.

تَفيض القبور بالأشباحْ
بغلةُ القبورِ
تُسابقُ الرياحْ
قِيلَ بَيضاءُ كالكفَنِ
قيلَ شوْهاءُ كالشَّطَنِ
قيلَ امرأةٌ ملعونةٌ
بلا وشاحْ.
تَطرق أبواب الحلم
توزع رسائل الأرواح
الوقت مساء. والشمس واجبة لتخلي المكان للنجوم سيرا على السنن. فتتساقط على الأرض تلك التي رحل أصحابها، و ترتفع نجمة جديدة لكل مولود جديد. والأطفال في أحضان أمهاتهم بعرفون جيدا ما يجري خارجا: فالمدينة تتحرك، وتفيض القبور بالأشباح. ومنها بغلة القبور، هذا الكائن الذي يملأ الفضاءات والأذهان، ويخشاه الأطفال جهرا كما يخشاه الكبار سرا. و ما عرفه الصغار إلا من خلال حكايات الكبار. وصفتها أنها تقضي الليل كله تسابق الرياح. والويل كل الويل لمن ساقه القدر إلى طريقها أو ساقها إلى طريقه. ثم، ما عساها تكون؟ ظاهر من السياق أنه اسم محلي لشبح متخيل على شكل بغلة، كل ما يعرفه الصغار والكبار عنه مرتبط بالقيل والقال، لينكشف الوهم الهلامي عن شيء كلا شيء، يجمع بين البياض و التشوه و اللعنة و السفور. (قيل و قيل و قيل)، و هذا التعدد في القول يؤكد تعدد التمثلات والوظائف. غير أن لها لدى المبدع اليوم وظيفة أخرى هي توزيع الرسائل الواردة من العالم الآخر.
الرسالة الأولى :
نبي يتوكأ على عصاه
يتأبط وصاياه
يصيح ملء السماء
يا خاتم الأنبياء
أنا لم آمرهم بقتل الأنبياء
أنا لم آمرهم بقتل الأبرياء

من تراه يكون هذا النبي صاحب العصا و الوصايا؟ نخرج هنا من زاوية الثقافة الخاصة إلى العامة العالمة. ونستطيع أن نتبين صورة نبي الله موسى و هو ينادي محمدا (ص):أنا لم آمرهم بقتل الأنبياء(ماضيا)،أنا لم آمرهم بقتل الأبرياء(حاضرا). وكذب إذن من توهم الحرب دينية و هي تحصد اليوم أرواح الأبرياء كما فعلت بالأمس بأرواح الأنبياء. إنه التبرؤ من أفعالهم و لو نسبوها إلى نبيهم. فيكون الفعل عصيانا و كذبا لا يزيد أصحابه إلا لعنة.
الرسالة الثانية
المسيح في أعياد الميلاد
يلتحف لون الحداد
يرفع عقيرته بالنداء
يا خاتم الأنبياء
الصمت خطيئة نكراء
أنا أول الضحايا
الصَّامتُونَ غَسَلوا بيَ الخطايا
كلهم في خطايَاهُمو سواء
خطايا الصمت كخطايا القتل
لا تكنسها الرياحْ
شبيهي ما زالت تنوح به الجراحْ


أما مصدر الرسالة الثانية فيفصح عن نفسه منذ البدء، متشحا بلباس الحداد مؤشرا عن عدم الرضا. الرسالة الثانية تحمل تناقضا هو لبس الحداد في أعياد الميلاد. المفروض أن يكون المسيح على شاكلة الرهبان لا بسا الأبيض، فإذا به يلبس ثوب الحداد، ويتنكر هو الآخر لموقف أنصاره وحوارييه الذين اكتفوا بالصمت. و ها إن المنادى لا يتغير: خاتم الأنبياء.أما الموضوع: فهذا الصمت الذي يلف الحواريين كلما تحركت شعرة في مفرق هؤلاء، و كشفوا رغبة في إشفاء الغليل من جثث الصبية العرب. و لم تفت الرجل الاشارة إلى ما فعلوا به ظنا، و ما قتلوه يقينا، و لكن شبه لهم. فما زال شبيهه تنوء به الجراح.

الرسالة الثالثة
قُلتُ لكُمْ وأنا بينكم
غُثاءٌ كغُثاءِ السَّيلِ هذا الغُثاءْ
غثاء كغثاء السيل هذا البكاءْ
يا أبابيل السماءْ
سَوِّي قِمَمَ الأرض بسطح الماءْ
كلهم في غثائهمو سواءْ...
كلهم في غثائهمو سواءْ...

و هذا ثالث الأنبياء و خاتمهم يغير مجرى الحديث، و يتوجه باللوم وجهته الطبيعية.يخاطب القوم، ويذكرهم بما نسوا من أقواله: يوشك أن تتداعى عليكم الأمم...قالوا: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، و لكن تكونون غثاء كغثاء السيل، ينتزع الله مهابتكم من قلوب عدوكم، و يجعل في قلوبكم الوهن. قالوا و ما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهة الموت. صدق رسول الله. و كل الدنيا على ذلك شهود. فلم تبق إلا الطير الأبابيل مسومة عند ربك، تسوي القمم بالماء، و تكنس شمس الأخ القاتل وتعلن الميلاد من جديد. فنحن على كل حال أمة الأمل.
نجلاء الرسول
بريد العالم السفلي


تمدَّدَ الحزْنُ
كفَّنَ لونُهُ جلْسَةَ السَّمَرْ.
لاَ نجمَ يكونُ الدليلَ ولا قمَرْ.
الريحُ قطارٌ بِلاَ رُكَّابٍ
يَستعجلُ السَّفرْ.
أسَبْعٌ عِجَافٌ
تَزُورُ البِلادَ
أمِ البومُ نادَى
فَجفَّ الشَّجَرْ.
تلك المآذن حين قسمت قامتها كان يسكنها دمع يبكي يتساءل !
ما جدوى اللا جدوى ... إن سكن عينيها الموت قبل أن تموت .
وهل في صراخ العمر إن قضى بحناجرها دليل لنا ؟
دعوا النعشَ هناكْ
فلم يبْقَ بِأرضِ الجنائِزِ
مَا تقتاتُ بِه السَّبعُ العَجْفَواتْ
محمَّدٌ ماتْ
وفاطمَ خلفَ شُجيْراتِ الصُّبَّارِ
تلتحفُ الحِدادْ.
سالتِ البطاحُ
بصمتِ البياضِ
وعويلِ السَّوادِ
محمَّدٌ ماتْ....
محمَّدٌ ماتْ....
أصابعُ الأطفالِ بوصلةٌ
شَمالُهَا مدينةُ الأمواتْ
شواهدُ المَوْتَى فيها كَتِيبَةٌ
تُحيِّي مَنْ حَضَرْ
فَيبلَعُ الأطفالُ سبْعًا مِن الحَجَرْ
مَخَافةَ القَدَرْ.


ها هي الوخزة التي انشطرت إلى كون أسود.
تبيع الحوانيت جلودنا المجففة على حبل حلم قد اكتسح المدار.
من ذا يصلي ... إن علا الغناء في ليلة موت أبدية
كان في قافيتنا كل القبائل الماهجرة إلى وطن.


وحينَ يُقبلُ المساءْ
وتقفرُ الدروبْ
يَغربُ الأطفالُ
في خِدْرِ الحنانْ
تَسَّاقَطُ النجومُ كأنَّها المطرْ.
تَفيض اللحودُ بالأشباحْ
بغلةُ القبورِ
تُسابقُ الرياحْ
قِيلَ بَيضاءُ كالكفَنِ
قيلَ شوْهاءُ كالشَّطَنِِ
قيلَ امرأةٌ ملعونةٌ
بلا وشاحْ.
تَطرق أبواب الحُلمِ
تُوزِّعُ رَسَائِلَ الأَرْواحْ:



لازال في وسع الموت أن يضاجع التراب حينا
وحينا يبكي على ظل المدافن ...لازال في طريق الغمام سرب شرر مجنون ...
ها نحن في جسد التاريخ نتأهب للصعود من تحت أنقاض حرف عليل!

الرسالة الأولى :

نَبِيٌّ يَتَوكَّأُ على عَصاهْ
يَتأبَّطُ وَصَايَاهْ
يَصيحُ مِلْءَ السَّماءْ
يا خاتِمَ الأنبياءْ
أنا لم آمُرهُمْ بِقتلِ الأنبياءْ
أنا لم آمُرهُم بقتلِ الأبريَاءْ.

وأنا حين اصلي أعلم أن صلاتي مذباح لي ...حين أصلي اهيّج
العالم كي يخفت ضوءه ...حين أصلي ارتجع جوفي حروفا
نتنة ..كم سميضغها الوقت حين أصبح كجيفة الدواب ...وأنا من
ذاك الذي وأد النبوة ...كي يكون نبيا لقافلة حرفه.

الرسالة الثانية

المسيح في أعياد الميلادْ
يلتحف لون الحِدادْ.
يَرفعُ صَوْتَهُ بالنداءْ
يا خاتم الأنبياءْ
الصمت خطيئة نكراءْ
أنا أوَّلُ الضَّحايَا
الصَّامتُونَ غَسَلوا بيَ الخطايَا.
كلُّهم في خطايَاهُمو سواءْ
خطايا الصمتِ كخطايا القتلِ
لا تكنِسُها الرياحْ
شَبيهي ما زالت تنوحُ به الجِراحْ.

ها أنا أبعث ظلي ليحكي مأساة المدينة الضائعة ...
ليسرد ما خلف الروايات حين اكتظت السجون بقلبي ...حين هوت ذفرات التاريخ
تبكي حول الضريح. ما أنا سوى المترنح شوقا للموت لفجائي ..
ما أنا سوى العتيق من ذنب الساقطين في فوهة النرد الذي ارتمى
بطوالة المقصلات.


الرسالة الثالثة

قُلتُ لكُمْ وأَنَا بَيْنَكمْ:
غُثاءٌ كغُثاءِ السَّيلِ هذا الغُثاءْ...
غثاء كغثاء السيل هذا البكاءْ...
يا أبابيل السماءْ...
سَوِّي قِمَمَ الأرضِ بِسطحِ الماءْ.
كلهم في غُثائهمُو سواءْ...
كلهم في غثائهمو سواءْ...


ستظل مدونة أنتَ يا أنا.
يا من يشتري لنفسه بضع احلام عرجاااء...
ليهرب في رحلة كم قصير ...
لينسج مأذنته من أعناق الميتين ...في فجواتهم المرة ستظل أنتَ يا أنا ...
كم التحفت المغيب لتسرد للغياب كيف هو الظل...
كيف هو الرجوع حيث رحم الحقيقة المسكرة ...
حيث كان أبي يعيد تخصيب حلمه ...حيث كانت أمي تنام على جذع مريم .

هنا حيث تبدأ الحقيقة في استشفاف الخطيئة التي بدأت بنا كي تنقض علينا افواه الدجالين الممحصين لأحلام قزحية الموت
هنا تنشر كل اوجاعنا على حبل ملتف حول اعناق الكبرياء لنقطة ملعونة على يسار الخارطة
هنا تبدأ الحكمة بلعق خوفها ولعن اطرافها المزندقة

كم ستنال منا الأوهام إن سجدنا لها

دمت قديراً
عبد الحفيظ بن الجلولي
استاذ علي المتقي المحترم:
تحية طيبة وبعد،،
ان القصيدة التي بين ايدينا تبني جمالية الغموض المنفتحة على القراءة التذوقية التي تحيل بدورها على القراءة النقدية، وتبيّن بعمق مرجعية الادراك اتجاه النص، فالقراءة بالشعور كما يقول بورخس عن قراءة الشعر، هي التي ترحِّل العقل في عملية حفر نصي تستعمق النسق لكشف مضمره،
ان قصيدة بريد العالم السفلي انطلاقا من عتبة العنوان، تقدم دلالة الخطاب، وهو ما يفيد مرسل ومرسل اليه، وكأن الناص من جهة يحدد قارئه، على اساس النص المفتوح الذي يتطلب قارئا نموذجيا ولكنه يبقى مجالا للتاويلات المتعددة، كما يرى ايكو، ومن جهة اخرى، فان الناص بتوظيفه هذه الدلالة يعقد اتفاقا مع القارىء على نسق مضمر يحدد مضمون المرسلة الخطابية، وباعتبار العنوان كثريا يعلق على سقف النص، كما يرى جاك دريدا، فانه بالضرورة يكتنز معنى النص الاجمالي، وبالتالي فان دلالة الخطاب تنساح على المتن، ويصبح النص متأرجحا بين لعبة الكتابة ولعبة القراءة ولعبة التبادل كما يقول فوكو عن الخطاب، لعبة التبادل التي تشرعن دورالقارىء في الحفر داخل النص.
ان المقطع الشعري الاول يؤسس لتيمة الانذار التي تشرب من لون الفضاء العام الذي تحيل عليه الصورة الشعرية المكثفة بالايحاء، والتي تقود المتلقي الى محيط الذات والواقع ليرصد حركتهما وفق مدلول الجملة الشعرية او محفل الخطاب كما يسميها اميل بنفنيست و يقول عنها ان معنى اللغة الحية يوجد فيها وليس في الدلالة المعجمية، وما يلف الواقع هونذر الموت، الذي يعج المقطع الشعري بحقله الدلالي، " الحزن، الكفن، البوم، جف الشجر".
ان المقطع الثاني يرسم عاملين للموت المجتمعي او الواقعي، يتحددان على حافة المعنى في فعل "يبق"، حيث ان البقية تتحدد كفضلة لكينونة سابقة، وبما ان الموت كان قد سبق الى الكينونة، فان ما تبقى لا تستفيد منه الهجمة الثانية، والتي يحددها النص في مفهوم"السبع العجاف"، وهي حقل دلالي للطبيعة، والدلالة العميقة التي قد يحتملها المنطوق النصي، تتجاوز الموت كخطاب رمزي تفضحه اللغة الى بنية لا تستبين الا من خلال ما يسميه ايكو بالتعاون النصي القائم على اساس الحوار بين الناص والقارىء، حيث ياتي النص في سياق الفجيعة القومية التي مُني بها الجسد العربي، من خلال العدوان على غزة الاخير الذي يندرج ضمن سلسلة تاريخية من الفجائع لامحالة يختزنها عقل الناص، ومن خلال تثبيت حقل الدلالة الطبيعي في مفهوم السبع العجاف، يرمي النص الى همجية وقساوة الفعل العدواني عند الصهاينة، بما يفوق كثيرا فعل الطبيعة.
ثم يغور النص في انتاج الدلالات الراهنة لسياقات حدثية لا يمكن فك شفراتها الا عن طريق الربط بين مسار المعنى في القرائن النصية والتقريب المحتمل المجاور له في الواقع، والرسالتين المتضمنتين في معمار القصيدة، يحملان دلالة رمزية تمتح من المرتب التاريخي، المبني على العداوة للانبياء، وهو ما افصحت عنه بنية الهزء من الديانتين الاسلامية والمسيحية مؤخرا في اسرائيل، ويمكن ان يحتمل مضمون الجملة الشعرية التالية هذا المعنى:
يا خاتِمَ الأنبياءْ
أنا لم آمُرهُمْ بِقتلِ الأنبياءْ
أنا لم آمُرهُم بقتلِ الأبريَاءْ.
والدلالة لاتحتاج الى تدليل في مفهوم " انا لم آمرهم بقتل الانبياء"
الا ان الدلالة في الجملة الشعرية " انا لم آمرهم بقتل الابرياء"
تؤكد ما مدلول الفجيعة القومية، ومسار الشعرية في تنصيص الفجيعة في مجال العدوان الاسرائيلي.
ان مفهوم خاتم الانبياء فيه اشارة دالة على النبي محمد (ص).
ومفهوم نداء المسيح في الرسالة الثانية على خاتم الانبياء يقوي من مفهوم الاعتداء عليهما في دائرة الديانة الثالة افتراضا، لان الاديان
حوارية في جوهرها وهو ما يفهم من الخطاب الندائي:
المسيح في أعياد الميلادْ
يلتحف لون الحِدادْ.
يَرفعُ صَوْتَهُ بالنداءْ
يا خاتم الأنبياءْ"
تمتح الرسالة الثالثة في مدلولها السياقي بعيدا عن اللفظي من فضاء النبي نوح عليه السلام الذي دعا على قومه، ولجوء الناص الى هذه التماثلية السياقية، يكشف عن مضمر اليأس الذي قد يعتري الذات بحكم طبيعتها البشرية، وايلولة هذا النص الرمزي الى اليأس في نهايته يفتح النص على سؤال الانسان ككيانية تغييرية في مدار السلوك المحكوم بتقلبات السيرورة، وهو ما يجعل مفهوم الخطاب في جوهر النص يؤول الى حوار الانسان مع ذاته والواقع المحيط به كمحاولة للانفلات من الراهن المأزوم، وبهذا لا تركب موضوعة اليأس مجالها الاحباطي.
كم هي جميلة هذه النصوص الابحارية في مراتع الرمز.
دمت رائعا في محراب النص اخي علي.
اخوك عبد الحفيظ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق