الأحد، 22 مايو 2011

النص الغنائي الشعبي بين العرض الاحتفالي والعرض الفولكلوري



                                         علي المتقي



تقديـــم:
تعرضت أساليب الحياة التقليدية في معظم البلدان النامية ـ ومنها المغرب لهزات عنيفة من جراء الوضع العالمي الحالي، وهيمنة الطابع السياحي على الاقتصاديات الوطنية ، وانتشار وسائل الإعلام وتمركزها في الغرب. و قد انتبهت اليونسكو منذ الخمسينيات من القرن الماضي إلى هذه الوضعية وحذرت منها، ففي سنة 1951

أصدر مجموعة من خبرائها بيانا يعبرون فيه عن اهتمام الفكر المعاصر بمصير التراث الشعبي، " فعادات ومعتقدات الشعوب التي كانت تعيش كأسلافها تتغير تغيرا سريعا تحت تأثير ما يقع في ظروف الحياة المادية من تعديلات وتغييرات نتيجة للتأثيرات القادمة من خارج حدودها".
وسنخصص هذه المداخلة للحديث عن مسألتين، الأولى: التحولات التي تطرأ على النصوص الغنائية الشعبية حينما يتم نقلها من أماكنها الأصلية إلى أماكن سياحية. و الثانية ما يمكن أن يقترح كبديل للحفاظ على هوية هذا النص و أصالته، وفي الآن نفسه وضعه في خدمة التنمية السياحية والاجتماعية .
إن النص الغنائي الشعبي في المغرب نص متعدد الأنساق ، يميزه ما يلي:
1- فيما يخص القول الشعري:
يعد النص الشعري المغنى في العرض الاحتفالي الذي يقام في الأماكن الأصلية أقل مكونات النص الغنائي الشعبي ثباتا إذ يخضع في كل لحظة من لحظات استهلاكه لعدة التحولات، فالجماعة تغير وتعدل وتحول كلمات و تراكيب وعبارات حتى يتلاءم النص ومتطلبات اللحظة المعيشة الجديدة ، إنه نص مفتوح يتحول إلى عملية إنتاج مستمرة، إذ يستقل عن صاحبه بمجرد ما يتشكل قولا شعريا لتتبناه الجماعة فتعمل على تفضيئه وتجسيده في عرض احتفالي غنائي. و إذ ذاك فقط ينكشف بوصفه نصا فنيا متكاملا و منفتحا قابلا لأن يخضع في أي لحظة من لحظات استهلاكه لعمليتي الهدم والبناء وفق تقنيات يحكمها الإيقاع واللحظة المعيشة الجديدة. إنه نهر دائم متجدد ماؤه باستمرار وفي جريانه يتخلص من بعض حمولاته ، ويتزود بحمولات جديدة من البقاع التي يمر منها. إذ يعلن موت مؤلفه الفردي وحتى الجماعي، ويمتطي ذاكرة الحاضرين من القبائل المجاورة المتعددة التي تحضر الاحتفال ليعاد إنتاجه واستهلاكه في قبائل أخرى، فيتم تعديله و تغييره ليلائم المكان ـ القبلي الجديد .
إن هذا النص الدينامي المتجدد باستمرار، يتحول في العرض السياحي إلى مجموعة من الأصوات غير المفهومة، وإلى نص ثابت ومحفوظ تعيد اجتراره وليس إنتاجه الجماعة المحترفة أمام كل متفرج جديد لا يهمه القول الشعري و لا يسمعه، ولا يهتم بمعانيه السامية، وفي مقابل هذا النص الثابت يتغير المتفرج باستمرار، ولا يهم إن كان عربيا أو أوروبيا أو آسيويا، لأن التركيز يكون على اللغة المشتركة بين هؤلاء جميعا لغة الإيماءة والحركة والرقص التي تدغدغ العواطف، وتشد الأنظار.
في العرض الاحتفالي الأصلي يفهم القول الشعري في علاقته بباقي مكونات النص الغنائي، الزمان و المكان و المغنون و الراقصون والفضاء والرقص. و أي فهم جزئي مبتسر لهذا المكون أو ذاك في استقلال عن باقي المكونات الأخرى سيغير من دلالاته ووظائفه، إن لم يفقده معناه. وهذا ما يحصل فعلا في العرض السياحي إذ يمحق القول الشعري ليختزل العرض في الحركة والرقص، و ينظر إليه بوصفه لقطة بهلوانية بينها وبين المتفرج مسافة زمنية و لغوية وحضارية، المتفرج يعيش عصره الموسوم بالتقدم الحضاري، و النص الغنائي نص تراثي ينتمي إلى الماضي. و حينما نسترجعه و نستحضره، فإنما نسترجع مادة بينها وبين الحاضر مسافة زمنية. والواقع غير ذلك، فالنص الغنائي ليس نصا بدائيا عجيبا كما يقدم في الأماكن السياحية، و إنما هو نص معاصر لأصحابه يعيشونه ويفكرون من خلاله .
2- الاحتفالية:
أهم خصوصيات النص الغنائي الشعبي كونه يعاش جماعيا في الساحة العمومية ، الرحبة . ولا وجود لأي مسافة بين المتفرج والمغني ، وإنما يحل الواحد في الآخر . في الساحة العمومية يعاش الاحتفال ولا يشاهد أو يسمع أو يفكر فيه. إنه فرجة الذات على نفسها، وعيش حالة كونية شمولية تمس كل الأشياء، الكل يعيش الاحتفال الليلي. من هنا، فالغناء و الرقص ليس شكلا مسرحيا للفرجة أو استراحة من الأعمال اليومية كما ذهب إلى ذلك الكثير من الدارسين. بل هو شكل ملموس للحياة اليومية نفسها يعاش في شكل طقوسي في زمان ومكان محددين سلفا .
وحينما يهاجر النص إلى مكان وزمان سياحيين، تخلق مسافة فاصلة بين المتفرج والمغني، فهناك خشبة خاصة بالغناء، وهناك مدرج خاص بالمتفرجين، ومسافة زمنية ومكانية بينهما. المغنون يغنون لأنهم يتقاضون أجرا ، و المتفرج يتفرج لأنه دفع أجر هذه الفرجة. المغني يمتلك الفرجة ويبيعها، والمتفرج يمتلك العملة الصعبة ويشتريها ولن يقدم المغني إلا بقدر ما يأخذ .
في العرض الاحتفالي يتولد إحساس لا يقاوم بالمشاركة، يشارك الكل في الغناء والرقص ولا غاية له إلا المشاركة في ذاتها، و إثبات الذات أمام أناها الجماعية و أمام موضوعها. أما في العرض السياحي، فيتحول الغناء إلى وظيفة من أجل إرضاء متفرج أجنبي عن الجماعة و عن اللعبة لا يهمه ما يقال بقدر ما تهمه تشكلات الجسد.
في العرض الاحتفالي يتوالى كل أفراد القبيلة على الساحة بدون استثناء، لهذا قلنا إنها فرجة الذات على نفسها. و في العرض السياحي تنحصر المشاركة في ثلة من الأشخاص يعيدون الرقصة نفسها والكلمات نفسها .
3 ـ الفضاء: إذا كان الغناء يمنح النص بنيته الزمنية فإن الرقص يمنحه فضاءه البصري ، دائرة نسائية في وسطها رجال .
هذا الشكل الفضائي ليس وليد الخيال الإبداعي الشعبي فحسب، و إنما استجابة لضرورة حملت خصوصيات الظرف التاريخي والاجتماعي الذي أنتجه. من هنا يمكن القول إنه علامة قابلة لأن تدرك بصريا في استقلال عن القول الشعري المغنى.
فإذا نظرنا إليها باعتبار خصائصها الذاتية ، فهي علامة مفردة ، كما يمكن التعامل معها بوصفها علامة قانون تتكرر في كل عرض احتفالي غنائي ، أما باعتبار موضوعها، فتربطها بموضوعها علاقة مماثلة ، ولن يتحدد موضوعها إلا عبر مؤول دينامي لأنه يوجد خارج العلامة بالضرورة هو المجال السوسيوتاريخي للمنطقة. ويتجسد في ما يلي:
المكان : في كل مجتمع قبلي هناك نوعان من الأمكنة، القبيلة كمكان اقتطعته القبيلة من المكان الخارجي المفتوح. إنه مكان منظم ومستوعب ثقافيا ومحاط بأربعة أسوار عالية تفصله عن الخارج .
الساحة العمومية" الرحبة" ، مكان متضمن في المكان الأول محاط هو الأخر بأسوار تفصله عن باقي الأمكنة .
إن فضاء العرض الاحتفالي علامة أيقونية تماثل هذا المجال، فالدائرة كالقبيلة كل مغلق على ذاته . وقد يكون أيقونا لموضوعات أخرى مفترضة . فهناك خاصية الانغلاق وخاصية الانسجام .وهي كلها خصائص ترتبط بالقبيلة التي أنتجت النص واستهلكته.
إذا ما تأملنا العرض السياحي نجده يحطم هذه الأيقونات ليختزل الفضاء في صف من النساء مواجه للجمهور المتفرج وهذا الصف الطويل ليس علامة جديدة لموضوع مباشر أو دينامي، و إنما هو علامة اقتضتها ضرورة الإخراج حتى يتمكن المتفرج من تأمل الوجوه المحترفة. وبتحطيم هذه الأيقونات تنحل قيم المجتمع القبلي ككل، ويصبح للرقص فضاء جديد أخرجه المخرج على مزاجه، وبذلك يضيع الفضاء كما ضاع القول الشعري وينتصر الزمن على الذاكرة ولا غالب إلا الله .


إن الفرق بين النص الاحتفالي والنص الفولكلوري إذن هو الفرق بين نص معيش مفكر من خلاله ونص مشاهد مفكر فيه ، وراءه مخرج ومهندسون و ممثلون. وشتان بين أن نعيش الحالة ونفكر من خلالها، وتستولي على إحساساتنا وشعورنا، وبين أن نجعل بيننا وبينها مسافة زمنية ومكانية حتى نشاهدها ونفكر فيها .
السؤال المطروح الآن، كيف نتعامل مع الوضعية الحالية: هل نقول مع الكثير من جمعيات المجتمع المدني الغيورة على هذا التراث: يجب أن نمنع استثماره في خدمة القطاع السياحي خاصة ؟ إذا ما رفعنا أصواتنا بذلك، فسيظل نداؤنا صيحة في واد سحيق لا يسمعها أحد، لأن العولمة جارفة ، وتعتبر كل من لا يجاريها مجرد زبد يجب أن يذهب جفاء، لأنه لا يفيد في شيء .أم نفكر في استثمار عقلاني لهذا التراث يسمح بالحفاظ على هويته و أصالته ، وفي الآن نفسه يعد منتوجا ثقافيا قابلا لأن يستثمر بشكل إيجابي في قاطرة التنمية السياحية والاجتماعية ؟.
إن الثقافة الشعبية ليست طرفة أو لعب لتمضية الوقت ، وإنما هي في الحقيقة كما يرى اكرامشي ثقافة جادة جدا ، وتقتضي التعامل معها تعاملا جديا . إنها تصور للعالم و للحياة متعدد ومتنوع بتعدد وتنوع فئات المجتمع و أعراقه وطوائفه ، من هنا يمكن فهم الثقافة الشعبية باعتبارها انعكاسا لشروط حياة المجتمع الثقافية. وكل استثمار لها في أي قطاع أو مجال يجب أن يراعي هذه الخصوصية. ولن يتحقق ذلك في اعتقادنا إلا بما يلي:
 إن الانتقال بالنص الغنائي الشعبي إلى فضاء جديد مع الحفاظ على هويته الأصلية يجب أن يتم من رؤية مخرج واع وعارف بالنص المنقول، يعيشه وفي الآن نفسه يفكر فيه، ويؤول كل مكوناته. وهذا ما لا يتوفر في معظم الحالات إن لم نقل في كل الأحوال، إذ يتم إخراج اللوحات الفولكلورية من طرف مخرجين عادة لا علاقة لهم بهذا التراث ،و لم يعيشوه يوما . ولا يثير لديهم الأسئلة التي يثيرها لدى العارف به.
 الحفاظ على احتفالية النص الغنائي الشعبي ، وهذا يقتضي:
أ ـ خلق المناسبة التي يعاش في طقسها الاحتفالي من أعراس ومواسم وحفلات دينية.
ب ـ الحفاظ على فضائه ، لأن الفضاء الاحتفالي التي يعاش فيه الاحتفال جزء لا يتجزأ من النص، وكل انتقال للنص من هذا الفضاء إلى فضاء يختلف عنه، يفقد النص جزءا من دلالته ويحوله إلى فضاء اعتباطي.
ج ـ محو المسافة الفاصلة بين المغني و المتفرج ليعيشا معا الاحتفال. فليست هناك فرقة محترفة في الموروث الثقافي القبلي المغربي، إذ يتناوب كل أبناء القبيلة على ساحة الغناء، فيتحول المغني إلى متفرج والمتفرج إلى مغني. و هذا ما أطلقنا عليه فرجة الذات على نفسها أو احتفال الذات بنفسها . فالراقصون و الراقصات أشخاص واقعيون أساسا يحملون أسماءهم ويلبسون لباسهم ، ولا يجب التعامل معهم كممثلين أو كشخصيات متخيلة وإن كانوا يتقمصون الشخصية القبلية النموذجية التي يجب أن تكون عليها المرأة القبلية والرجل القبلي .
 إدماج المتفرج في الفضاء القبلي والغناء ليعيش الاحتفال بدلا من أن يسمعه ويشاهده. و ذلك عبر تقديم موجز للرقصة الغنائية بلغات متعددة، واستثمار الوسائل السمعية البصرية المتوفرة اليوم من أجل ترجمة النصوص المغناة وعرضها في شاشات كبرى مع الرقص حتى يجمع المتفرج بين الرقص والنص المغنى الذي لا يقل قيمة عن النصوص العالمية الخالدة إن لم يفق الكثير منها.
 السعي إلى تطوير هذا التراث الشفوي وإخراجه من انغلاقيته، فكل المهتمين بهذا التراث يتحدثون عن أحواش ورزازات ، والواقع أنه ليس كذلك ، إنه أحواش تاوريرت أو سيدي داود أو غيرهما . بعبارة أخرى إنه أحواش القبيلة وليس أحواش المدينة. ويحتاج هذا النوع من التراث مادام يحمل رؤيا للعالم و للحياة أن يتطور بتطور المجتمع، وذلك بإبداع أشكال جديدة متطورة عن الشكل الأصلي. وهذا لن يتأتى بالاعتماد على مغنين ومبدعين وشيوخ يفكرون من خلال هذا التراث ولا يفكرون فيه، لأنهم أولا: لا يمتلكون الآليات التي تؤهلهم للقيام بهذا الدور، ثانيا: لأن لقيام بهذا الدور يتطلب هضم و استيعاب ما هو موجود، والوعي بخصوصياته والتفكير في خلق أشكال جديدة . وهذا يتطلب فئة أخرى من المبدعين والمغنين متخصصين، وقادرين على الإبداع. لقد انتهت المرحلة التي كان النص فيها عفويا وارتجاليا ومفكرا من خلاله، و أصبح الظرف يتطلب نصا مفكرا فيه ومتطورا باستمرار. وهذا بالفعل ما حصل في مجال اللباس التقليدي المغربي، إذ نلاحظ اليوم التطور الكبير الذي عرفه القفطان المغربي لما لم تعد خياطته مقتصرة على الحرفيين التقليديين، واهتم بهم مصمموا الأزياء، وكذلك الرياض المغربي الذي أصبح ذا أشكال جديدة بدخول مهندسين واعين بخصوصيته، ويمكن أن نسجل ما قامت به الفرق الغنائية في السبعينات أمازيغية وعربية من توظيف لهذا التراث وكيف تفاعل معها الشعب المغربي .
إن هذه الدعوة لا تعني أبدا تجاوز الأشكال القائمة التي يجب الحفاظ عليها،باعتبارها حاملة لرؤيا مرحلة تاريخية من مراحل تطور مجتمعنا المغربي، وإنما إغناؤها بأشكال جديدة تكون مواكبة لعصرها، وموضوعات جديدة مخالفة للموضوعات القديمة ، وإذ ذاك فقط يمكن أن نتحدث عن أحواش المدينة المفتوحة المخالف لأحواش القبيلة المنغلق على ذاته انغلاق القبيلة على ذاتها. وسيسمح لنا هذا الشكل بتجاوز موضوعات القبيلة إلى موضوعات المدينة والدولة والأمة، واستثمارها في الوعي الثقافي للمجتمع فتتغير نظرته إلى العلاقة بين الرجل و المرأة وإلى العلاقات الأسرية وتعدد الأعراق وتعايشها، والحفاظ على البيئة وغيرها من القضايا التي أصبحت اليوم الشغل الشاغل للمجتمع المغربي. وسيسمح لنا هذا الاهتمام أيضا بالجمع بين الثقافي والتنمية إذ من غير المجدي "تنمية مجتمع محلي ما، يحكمه إطار مرجعي (ثقافي – اجتماعي) خاص، دون معرفة عميقة بأنساق القيم والثقافة التي يتبناها. والتي تتبدى في جملة معتقداته وعاداته وتقاليده وسلوكه ومأثوراته الشفهية وإنتاجه المادي والرمزي، إلى آخر ملامح حياته الشعبية اليومية. "إن المعرفة العميقة بهذا الإطار المرجعي الخاص هو الذي يسمح بالتنمية البشرية التي هي أساس كل تنمية اجتماعية واقتصادية. ولن يتأتى ذلك إلا باستهداف مشاركة الفاعلين المحليين في عملية تنمية مجتمعهم المحلي التي تجسد ما يسمى في الأدبيات التنموية المعاصرة بالاعتماد على الذات، والتعامل الواعي الرشيد مع الموارد المتاحة في البيئة المحلية. وينتج عن كل هذا التصالح مع الحياة،وضمان الاستمرار والتجدد، ومواجهة المشكلات مواجهة مبدعة، رغم أنف الظروف المحيطة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق