هذه القراءة مداخلة قدمتها في الأمسية الثقافية التي نظمها الفرع الجهوي لاتحاد كتاب المغرب بتعاون مع الأكاديمية الجهوية للتربية والتعليم بجهة مراكش احتفاء بصدور ديواني الشاعر المغربي عبد الرفيع جواهري الرابسوديا الزرقاء و كأنني أفيق .
عبد الرفيع جواهري شاعر من شعراء ستينيات القرن الماضي امتد إنتاجه في الزمان إلى الألفية الثالثة، لكن في امتداداته حافظ على خصوصيات الجيل الذي ينتمي إليه، وعلى نظرة هذا الجيل إلى الشعرية العربية. لذا، لن أقرأ قصيدته بوصفها قصيدة من قصائد الألفية الثالثة بما تتميز به من خصوصيات جيل جديد، بقدر ما سأقرأها بوصفها قصيدة تقرأ المرحلة السابقة من منطلق المرحلة الراهنة.
وسأنطلق من الأسئلة الآتية: كيف يعيش الجيل الستيني العقد الأول من الألفية الثالثة،و كيف ينظر إلى المراحل السابقة بنجاحاتها وانكساراتها؟
سأحاول أن أجيب عن هذين السؤالين انطلاقا من ديوان الرابسوديا الزرقاء الذي أتيحت لي فرصة قراءته، موظفا مفهوم المفارقة بوصفها مفهوما أسلوبيا بلاغيا يرفع درجة الوعي بالتناقض بين المأمول والمتحقق بين الكائن و ما ينبغي أن يكون.
ديوان الرابسوديا الزرقاء ديوان من الحجم المتوسط صدر خلال هذه السنة 2010 . يضم بين دفتيه 25 قصيدة غير مؤرخة بتاريخ. قد تكون هذه القصائد قيلت في فترات متباعدة نسبيا وقد تكون متقاربة, لكنها كلها صادرة عن ذات شاعرة تقرأ الماضي والحاضر بعيون اليوم وتتخذ موقفا منه ،
يمكن أن نميز في الشعر بصفة عامة بين أسلوبين بلاغيين يميزان اللغة الشعرية و يكثفان دلالتها.
الأسلوب الأول: التكثيف المجازي القائم على علاقات التشابه. وهو أسلوب يفرغ اللغة من دلالاتها التواصلية لتؤدي وظيفة شعرية تنتج أساسا عن الغرابة وما ينتج عنها من تخييل و إعجاب وإبداع.
الأسلوب البلاغي الثاني: التكثيف الكنائي القائم على علاقات التجاور، وهو أسلوب يحافظ للغة على دلالاتها التواصلية، لكنه يكشف عن التناقضات بين المنتظر و المتحقق، فتتولد عن ذلك أيضا الغرابة و الدهشة والمفاجأة .
وقد اعتمد الشعر الحديث على الأسلوبين معا، لكن غالبا ما يهيمن على النص أسلوب من هذه الأسلوبين .
المفارقة أحد مفاهيم الأسلوب الثاني. إنه أسلوب بلاغي ينبني على إقامة علاقة تعارض وتضاد صادمين بين الكائن وبين ما يجب أن يكون، بين المأمول و بين المتحقق. فتنتج عن هذا التعارض غرابة تنقل التجربة المعيشة اليومية الروتينية إلى مستوى التجربة الشعرية المثيرة للدهشة مما ينتج عنه كثافة دلالية لا تقل جمالية عن الكثافة المجازية
1 ـ شعرية المفارقة في الديوان
إذا عدنا إلى الديوان "الرابسوديا الزرقاء" الذي بين أيدينا، نجد أن المفارقة تتجسد بشكل واضح في معظم نصوصه مثل (رأيت السيف في يد من أحب ـ رماد ـ كلاب لطيفة جدا ـ قطار السادسة مساء ـ باليما ـ كازا بلانكا ـ تحت قباب طائها ـ مخبر... )
في القصيدة الأولى يوحي العنوان بهذه المفارقة ، فعبارة "السيف في يد من أحب" تثير مفارقة بين السيف الذي يحيل على القتل والغدر و العداوة والموت و بين الحب الذي يفيد الحياة و الأمل و انمحاء المسافة بين الذات والموضوع . وتزداد المفارقة توترا وعمقا حينما يصدر فعل الحب عن الذات الشاعرة ممثلة في ضمير المتكلم ، ويصدر فعل حمل السيف عن موضوع هذه الذات .
في النص تتحقق المفارقة وتتجسد في فعلين متعارضين متضادين : فعل الذات وفعل الموضوع الذي ليس سوى الآخر الجمعي المشار إليه بضمير الهم
1 ـ فعل الذات :ذوبان الذات في الموضوع
ما كان لي إلا فؤادي
حين كنت هُمُ
ما كان لي غير قلبي
حينما نبتتْ في القلب وردتُنا
خبأتُها من هجير الوقت ما ذبلتْ
كف تغالب موج البحر نازفة
كف إذا سقطت لم يسقط العلَمُ
كانوا أنَا يا أنا وكنتُ هُمُ
ما كان لي غير قلبي
حين كنتُ هُمُ
هل يعرف الحبُّ حبًّا
قد سقاه دم ؟
في مقابل هذه الأفعال التي يفترض المنطق أن تقابلها أفعال من جنسها و طبيعتها ـ كأن يكونوا هم أنا اليوم ـ جاءت الأفعال الصادرة عن الآخر الهم مفارقة لأفعال الذات ومناقضة لها
حين انتبهت رأيت السيف في يد من أحب
رأيتهم يتقاسمون دمي و الثغر يبتسم
نزل الستار
أطفئ المصباح
ناموا كأهل الكهف نومتهم
لكنهم في غارهم هرموا
سرقوا سيفي.
ويزيد المفارقة عمقا وتوترا في القصيدة ظروف الفعلين :
ففعل الحب كان في زمن الجمر الذي يكون فيها الوفاء للحب كالقبض على الجمر
كانت مراكبنا
في مخلب االأنواء مبحرة
الصخر يمضغها
و الموج يلتطم
ياقوتة السيف تلمع
و الأجساد تلتحم
مادت بنا الفلك جانحة و الموت نسر
له مخلب وفم
كف تغالب موج البحر نازفة
كف إذا سقطت لم يسقط العلم
قد كان (فرسي) يركض و المنايا فوقنا شهب
يطوي الذرى و يحمحم
ما رد صيحتنا سيف
ولا الأنواء و الحمم
أما ظروف الفعل الثاني ، فظروف مخالفة لظروف الفعل الأول :
ـ يتقاسمون دمي والثغر يبتسم
ـ ناموا كأهل الكهف نومتهم
لكن في غارهم هرموا
فهذا الوصف لزمن الحب يزيد من تعميق المأساة ويعمق المفارقة بين الفعلين. كما يزيد من تعميقها توظيف الذاكرة الثقافية في القصيدة، و التي تتجسد في قصة يوسف النبي:
هذا دم فوق القميص
إن القميص قميصي
والذئب ذئبهم
ياحزن قلبي هل في البئر يوسف
أم ما في البئر غيرهم .
فالقصة المتناص معها تعمق أيضا هذه المفارقة إذ تجعل من الذات بريئة وضحية، ومن الآخر مجرما ظالما وكاذبا قاتلا .
تنتهي المفارقة في هذا النص بانتصار الذات على هذا الآخر مرتين : المرة الأولى توحي به العبارة الآتية
ما في البئر غيرهم،
فقد أوجدوا البئر ليرمى فيه يوسف فسقطوا فيه هم . والثانية وجود سلاح آخر غير السيف في يد الذات
إن يسرقوا سيفي
فما زال بين أصابعي يصرخ القلم .
المفارقة الثانية: تنبني القصيدة أيضا على مفارقة ثانية ، مفارقة بين أحبة اليوم وأحبة الأمس
غاب الأحبة
ما عادوا سوى صور على جدار البيت
ما عادوا سوى رسم
وفي حدقاتهم يجهش الألم
غاب الأحبة إن القصائد في فمي تتلعتم
صور الأحبة في الإطار
على الجدار من جرحها خرجت
كما لو أنها تتكلم
الشوق
الفرس يقتحم
في مقابل هذه الصورة الحميمية التي تربط الذات الشاعرة بأحبة الماضي نجد صورة أخرى قاتمة لعلاقته بأحبة الحاضر
أن المراكب ما عادت سوى ذكرى
والورد حاصره الدم
القلب الكسير
السذاجة ـ الوهم ـ الندم ـ الفرس يكبو
ـ أين الصحب ؟
أسلوبيا تتجسد المفارقة بين ضميرين ضمير الذات الذي يجمع بين ضمير المتكلم المفرد عندما يرتبط بفعل الحلم و الانكسار ( ما كان إلا فؤادي ـ يا حزن قلبي ـ إن القميص قميصي ـ ما كان لي غير قلبي ـ كنت الذي في حبهم يتوهم ـ يا لسذاجتي حين انتبهت ٍرأيت السيف في يد من أحب رأيتهم يتقاسمون دمي ـ هل يا فؤادي كبا من يأسه فرسي أني هنا و في يدي الأحلام لا تتفحم إن يسرقوا سيفي ،) وبين ضمير الجمع الذي تذوب فيه الذات الجماعة ليصير نحن حين يرتبط بفعل القوة و الانتصار .
(نبتت في القلب وردتنا ما ذبلت ـ و العصف من حولنا ـ كانت مراكبنا في مخلب الأنواء مبحرةـ مادت بنا الفلك جانحة ـ ما رد صيحتنا سيف ولا الأنواء و الحمم ـ كانوا أن يا أنا وكنت هم)
لكن الذات الشاعرة تقاوم الانكسار والإحباط بالمقاومة الفردية المجسدة أساسا في مقاومة القلم :
إن يسرقوا سيفي
فما زال بين أصابعي يصرخ القلم .
في مقابل ضمير المتكلم نجد ضمير الغياب الجمع الذي ينبني أيضا على المفارقة بين الاسم الظاهر عندما يتعلق بمرحلة الأمس
غاب الأحبة
ما عادوا سوى صور على جدار البيت
ما عادوا سوى رسم
وفي حدقاتهم يجهش الألم
غاب الأحبة
إن القصائد في فمي تتلعثم
صور الأحبة في الإطار على الجدار
من جرحها خرجت
كما لو أنها تتكلم
ففي أسطر قليلة تكررت كلمة الأحبة مرات ثلاث ( غاب الأحبة غاب الأحبة صور الأحبة ) في مقابل الاسم الظاهر نجد ضمير الغياب هم الذي لا يحيل على اسم ظاهر لكنه يتحدد بصفاته و مواصفاته التي تدل على أحبة اليوم:
الذئب ذئبهم
ما في البئر غيرهم
كنت الذي ف حبهم يتوهم
رأيتهم يتقاسمون دمي
ناموا كأهل الكهف نومتهم
لكنهم في غارهم هرموا
يا ليت لو علموا
إن يسرقوا سيفي
إن ضمير الغياب الجمع هو ضمير القطيع و الغوغاء و الإنسان المعمم الذي ينبغي تجاهله و إعلان القطيعة معه من إجل إثبات الذات وتميزها ، في حين أن الاسم الظاهر هو اسم متميز له حضور وله وجود .من هنا تتوزع الذات الشاعرة بين الشوق إلى الأحبة وبين الندم على حب هم
يأيها القلب الكسير
هل تسعف الأشواق
أم هل يسعف الندم ؟
أسلوبيا دائما تنتج عن المفارقة حيرة الذات الذي تتجسد أسلوبيا في هيمنة أسلوب الاستفهام و التمني عندما يكون الحديث عن الزمن الحاضر :
هل في البئر يوسف أم ما في البئر غيرهم؟
هل يعرف الحب حبا قد سقاه دم ؟
هل تسعف الأشواق أم هل يسعف الندم؟
كانوا أنا أم أنني كنت الذي في حبهم يتوهم ؟
هل يا فؤادي كبا
من يأسه فرسي
من بعد ما كان يقتحم؟
و الملاحظ أن كل الأسئلة مرهونة بالاختيار بين حالتين الذي يجسده حرف أم مما يدل على التيه و الحيرة و الاغتراب في الحاضر .
في مقابل هذا التيه و الحيرة و القلق نجد حديثا سرديا يقينيا بلا استفهامات ولا تساؤلات عندما يتعلق الأمر بعلاقة الذات بأحبة الأمس . ويؤكد أسلوب التمني ميل الذات الشاعرة و ارتباطها و حنينها إلى مرحلة الأمس الذي يجسد القوة و الإرادة :
ياليت لو علموا
أن المراكب ما عادت سوى ذكرى
و الورد حاصره الدم
يا ليت لو علموا أني هنا فوق الجواد
وفي يدي الأحلام لا تتفحم .
خلاصة القول : تنبني القصيدة على المفارقة بين علاقة الذات بأحبة الأمس وعلاقتها بأحبة اليوم بين ورد الأمس الذي يسقيه الدم وبين ورد اليوم الذي يحاصره الدم بين حب الأمس وسيف اليوم بين نجاحات الأمس وسط العواصف وانكسارات اليوم والثغر مبتسم . بين نضالات الأمس التي يحققها ضمير النحن وبين صراخ القلم المرتبط بالذات الفردية .
وتكمن أهمية بناء النص عل هذه المفارقة في الرفع من درجة الوعي بتناقضات الواقع واغتراب الذات الستينية في الألفية الثالثة .
في مقابل هذه القصيدة التي تنبني على المفارقة بين مرحلتين من وجهة نظر الذات الشاعرة المناضلة . نجد قصيدة أخرى تنبني على المفارقة نفسها بين المرحلتين ، لكن هذه المرة من وجهة نظر مغايرة هي وجهة نظر مخبر .
تقول القصيدة :
لم يعد للنميمة ذاك الألق
الوسادة محشوة بالأرق
لم تعد تستقي الأذن
في عتبات الشقق
ما يسد الرمق
وغدا
الجرائد تأكل ما في الطبق
قالت الأذن للأنف في سرها
كل شيء عل صفحات الورق
لم يعد في البلاد مرق .
والمفارقة واضحة جلية بين ألق الماضي و أرق الحاضر بين مخبر الأمس و جرائد اليوم و الخلاصة لم يعد في البلاد مرق .
والمفارقة الأسلوبية بين القصيدتين تتجسد أسلوبيا في معجم القصيدتين ، ففي حديث الذات الشاعرة عن الأمس يهيمن معجم الفروسية و التضحية والعواصف . في حين أن الأمس بالنسبة للمخبر ألق ورمق ومرق وفرق بين من يقتات من الأمس مرقا، وبين من يقتات منه ألما و أملا .
يتحقق هذا النوع من المفارقة قي قصائد أخرى من الديوان ترتبط بالمكان ( باليما ، وتطوان ) وهي مفارقة أساسا تؤسس لشعرية الذكرى.
ففي قصيدة باليما المقهى الشهيرة بمدينة الرباط التي لها تاريخ ولها ذكريات مع الذات الشاعرة
تبدأ القصيدة بعرض جزء من المناظر الروتينية اليومية التي تمر أمام الجالس بهذه المقهى ، لكن في السطر السابع عشر يفاجئنا الشاعر بعبارة آه يا زمن التي تفيد أن الصور اليومية المتحدث عنها ليست صور اليوم، بل صور الأمس. هذه الصور لم تتغير لكن الشاعر لا يراها بعين الألفية الثالثة اليومية الروتينية بل بعين الأمس عين الشباب و الذكرى و الحنين الذي تفصح عنه عبارة : آه يا زمنا مر في خلسة وعبر.
يستحضر الشاعر هذه الصور لتقرأه ويقرأها ، تقرأ من خلاله فعل الزمن وما يفعله في الإنسان :
ها هنا فوق هذا الشجر ذكرياتي تحدق في شيب رأسي، تعاتبني، هاهنا ذكرياتي مشت فوق هذا الحجر ،و الذي قد قضى صار ذكرى سفر.
ويقرأها لتتحول القهوة إلى بقايا صور. إن الشاعر يأبى إلا أن يحن إلى الماضي، و يحن الماضي إليه. وبذلك يخرج الشاعر جواهري من صورة المدينة المغتربة التي تسحق الإنسان إلى صورة المدينة الدفء و الحنان و الحب التي يحن إليها .إن الشاعر يعيش غربته في القرن الواحد والعشرين إنه يبحث عن قيم أصيلة في زمن لم تعد توجد به تلك القيم.
تتولد المفارقة في هذه القصيدة بين نظرة الشاعر إلى المكان باليما الأمس و باليما اليوم .المكان هو هو ، لكن الشاعر تغير فتغيرت نظرته إلى المكان وحن إلى فضاءت الشباب والقيم الأصيلة .
لا تخرج باقي القصائد عن هذه المفارقات مع فارق يتجسد في أن مفارقات القصيدتين أعلاه مفارقة بين زمنين زمن ولى وزمن معيش. في حين مفارقات القصائد الأخرى مفارقات تكشف تناقضات الواقع المعيش بالدرجة الأولى
تنبني قصيدةرماد على المفارقة بين حقيقة الإنسان وبين أقنعته المتعددة:
السن تضحك
والأصابع على الزناد .
وهي مفارقة تعمق الهوة بين حالة الذات في الأمس تلك الذات التي يتحد فيها الأحبة بلا أقنعة والذي يعبر عنها فعل كنا ، وبين الواقع الحالي بكل مآسيه .
كنا نوارس بحرنا
كنا أغاريد الصبابة في قلوب العاشقين
كنا البلاد واحر قلبي
حين تسألني البلاد
و على خلاف القصيدة الأولى التي تتحلل فيها المفارقة إلى أطروحة لصالح الذات الشاعرة ، فإن الأطروحة في قصيدة رماد تنتهي لغير صالحها، اللهم إذا استثنينا بصيص الأمل في عبارة : هل يا ترى العنقاء تبعث من رماد؟ الذي جاءت في صيغة الاستفهام بما يحمله من شك و تردد الذي تزكيه الصور المتتابعة القاتمة في نهاية القصيدة . حن الرماد إلى الرماد، السيف في يد شهريار، و الصبح أدرك شهرزاد .
المفارقة في القصيدة الثالثة تتوسل بالمثل المغربي يقتل الميت ويمش في جنازته . وهي أيضا مفارقة غريبة وعميقة تعكس مأساة الذات وغربتها في الألفية الثالثة بعد ما لم يتبق من الماضي إلا بقايا ذكريات وصور تحن إليها حنينا .
في قصيدة كلاب لطيفة جدا : لا يوحي العنوان بأي مفارقة مستقلا عن النص، لكن من خلال النص تتضح المفارقة بالمقارنة بين لطف الكلاب وخسة الإنسان ، تنساب القصيدة في مقاطعها أولى موظفة تقنية السرد و الوصف لعلاقة لبنى وصديقات لبنى بكلابهن ,وما تتميز به هذه الكلاب من أناقة ووفاء . وفي آخر المقطع الثاني تبدأ المفارقة حينما تقارن أحاسيس الكلاب الصادقة بأحاسيس الرجال المزيفة.
أحاسيس غير مزيفه ،مثل زيف الرجال ، رجال كمثل الدمى ، رجال بدون رومانسية ، كما لو أتوا من عصور سحيقة .
تعود القصيدة في المقاطع الموالية إلى السرد الذي يهيمن عليه علاقة لبنى وصويحباتها بكلابهن إلى المقطع السابع الذي يعود فيه الحديث عن غدر المحبين :
يثرثرن في حسرة
عن حكايا محبين
تبدأ بالشعر
ينشده رجل كالأمير
تذوب بحضرته امرأة
وتمنحه قلبها
ولكنه يهشمه في الأخير .
و تصل المفارقة إلى أقصى توترها حينما تحل الكلاب محل الرجال في المقطع الأخير
يغادرن
يدخلن في خفة
لمقهى ظلال
ويمشين نحو الحديقه
كمشي الغزال
وفي يد كل صويحبة كلبها .
ويجلسن
يطلبن شايا
وقطعة حلوى
يثرثرن في حسرة
عن حكايا المحبين
عن إليسا
وعن لست آسفة
عن وفاء الكلاب وغدر الرجال
فالكلاب هي المصاحبة للنساء في التجوال وفي المقهي وفي كل مكان. وتتولد مفارقة أخرى عن كلمة في حسرة التي تتكرر في النص كلما بدا الحديث عن وفاء الكلاب وغدر الرجال ، بين ما تطمح إيه هؤلاء النسوة وبين ما هو متحقق في الواقع .
في قصيدة قطار السادسة مساء ،مفارقة لفظية تنم عن السخرية وما يترتب عليها من شرخ عميق.
من مميزات هذه القصيدة أنها تنحو مثل قصيدة كلاب لطيفة جدا نحو قصيدة التفاصيل التي تلتقط اليومي والعابر و روتينية الحياة اليومية وميكانيكيتها لتحولها إلى نص شعري متميز يعكس عبثية الحياة اليومية و غثيانها وتشيؤ الإنسان الذي يعيشها .
لنتأمل القصيدة لنجد أن السيدة تقوم بأفعال متعددة لاقيمة لها إلا تضييع الوقت في انتظار وصول قطار السادسة .
على الرصيف في محطة القطار
سيدة في الانتظار
سيدة بمعطف وقبعه
سيدة تسأل عن قطار السادسة
تدخل المقهي
تزيل القبعه
تطلب شايا
وتراقب الرصيف
تشرب شايها
تخرج من مقهى محطة القطار
تحدج كل لحظة بنظرة ساعتها
في الانتظار
تمشي إلى نهاية الرصيف
ترجع للبدايه
كأنها على الرصيف في حصار
يمر الوقت في تثاقل
يمضي قطار
ويجيء بعده قطار
وفي الرصيف
في محطة الطار
سيدة في الانتظار
سيدة وموعدمؤجل
يحمله قطار
تدخل مرة أخرى إلى مقهى محطة القطار
تطلب قهوة مكسره
تسأل نادل المقهى
ترى تأخر القطار
قطار السادسه ؟
سيدتي إن قطار السادسه
سوف يجيء في تمام التاسعه .
على الرصيف
في محطة القطار
سيدة بمعطف وقبعه
تدس بين راحتيها رأسها
ثم تنام .
إن الأفعال المتكررة و المتواترة تعكس درجة السأم والضجر والقلق الناتج عن ميكانيكية الحياة المعاصرة ورتابتها التي تسحق الإنسان المعاصر .
و الملاحظ أن القصيدة تسير في تناغم وانسجام تام في التقاطها لهذا الضجر و السأم الذي تعيشه هذه السيدة ، مؤجلة المفارقة إلى النهاية التي لا تتحقق إلا في العبارة الأخيرة : سيدتي إن قطار السادسه سوف يجيء في تمام التاسعه . ففي هذه النهاية تكون الكثافة والتوهج والتركيز, ولا قيمة للقصيدة بدون هذه العبارة التي تقتل ما تبقى من أمل وصبر وحيوية في هذه المرأة ، فما كان إلا أن تدس بين راحتيها رأسها ثم تنام كناية عن الإحباط و الغثيان و العبث ومجانية الوقت الذي يمر في تثاقل ، ويحول انتظارها إلى حصار على الرصيف الذي لم يخفف من مأساويته التشبيه .
خلاصة القول : إن ديوان الرابسوديا الزرقاء يغلب عليه أسلوب قصيدة التفاصيل التي تلتقط اليومي و العابر فترتقي به إلى مستوى التجربة الشعرية موظفا أسلوب المفارقة الذي يطبع الحياة المعاصرة ، ويفجر شعرية الحنين إلى الزمن الجميل الذي صار مجرد ذكرى و مجرد صور على الجدار و مجرد حنين فردي.
و إن كانت من وظيفة لأسلوب المفارقة الذي أصبح يميز القصيدة المعاصرة هو القدرة على تجسيد الوعي بالتناقضات التي تهيمن على حياتنا المعاصرة ، هذه الحياة المعاصرة التي تحولت إلى تيار جارف حولت الجيل السابق المتمسك بقيمه الأصيلة إلى بطل إشكالي يبحث عن قيم أصيلة في زمن لم يعد يؤمن بتلك القيم .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق