احتفت جمعية أبعاد يوم الجمعة 27 ماي 2011 بالمسرح الملكي بمراكش، ومعها جمهور متميز بالأستاذ الدكتور محمد زهير إنسانا و أستاذا لما يزيد عن أربعين سنة وناقدا ومبدعا قاصا متميزا.
شارك في هذا الاحتفاء زملاؤه بالمركز التربوي الجهوي بمراكش، و طلبته و أساتذة من كليتي الأداب واللغة العربية ، وعدد من أصدقائه القدامي .
وقد ألقيت في هذه الجلسة الحميمية مجموعة من العروض شاركت في إلقائها إلى جانب الزملاء الدكتور عبد الواحد ابن ياسر الأستاذ والناقد المسرحي المعروف و الأستاذ أحمد طليمات القاص المبدع ،و الأستاذ عبد اللطيف السخيري أحد طلبة محمد زهير . وقام بتنشيط الجلسة الفنان عبد العزيز باعلي الذي أتحف الجمهور بمقاطع موسيقية من أغاني السبعينيات الملتزمة لمجموعة ألوان المغربية .
وقد قدم الأستاذ عبد الواحد ابن ياسر عرضا مفصلا تحدث فيه عن محمد زهبر الأستاذ العصامي الذي أغني الساحة الثقافية المراكشية في صمت ، وبشكل خاص الساحة المسرحية بوصفه ناقدا مسرحيا ومواكبا لكل الأنشطة المسرحية . كما تحدث عن زهير الناقد الذي قدم بحثا متميزا في الأدب المغربي الحديث والمعاصر .
الأستاذ طليمات الذي تربطه بزهير علاقة صداقة قديمة، واهتمام مشترك بالفن القصصي تحدث عن زهير الإنسان من خلال علاقته بزملائه على امتداد أربعين سنة من العلاقات الإنسانية المتميزة ، هذه العلاقة التي تجلت بوضوح في علاقة الكاتب محمد زهير بشخصياته القصصية ، فمحمد زهير هو نفسه الراوي وقد دخل عالم القصة . وقد تتبع الأستاذ طليمات الراوي / الكاتب متلبسا بإنسانيته في مجموعته القصصية .
الأستاذ عبد الطيف السخيري تحدث أيضا عن زهير القاص لا في مجموعته القصصية فقط، بل من خلال أربعين سنة من الكتابة ، فتتبع زهير في الملاحق الثقافية المغربية ، لينهي حديثه عن زهير الأستاذ والمربي الذي يطبع طلبته بطابع خاص يظل يلازمهم على امتداد حياتهم المهنية .
وقد أعطى الأستاذ عبد اللطيف عادل عضو جمعية أبعاد المكلف بتسيير الجلسة الكلمة لزملاء الأستاذ زهير و أصدقائه ليدلوا بشهادتهم ، فأجمعوا على الصفة الإنسانية المتميزة التي لازمت زميلهم المحتفى به على امتداد حياته المهنية ، ونكران الذات ، والاشتغال في صمت بعيدا عن الأضواء وتضارب المصالح . كما أخذ الكلمة طلبته الذين نوهوا بعمل الأستاذ محمد زهير بكلية اللغة العربية في سلك الماستر و المركز التربوي الجهوي بمراكش .
وقد ختمت الجلسة بكلمة الأستاذ محمد زهير التي كان لها الأثر البليغ في جمهوره الحاضر .
وقفة مع محمد زهير
في أصوات لم أسمعها
لما عرضت علي المشاركة في هذه الوقفة مع محمد زهير الأستاذ والقاص والإنسان، لم أتردد في القبول فورا، لأنني أمام إنسان لا يمكنني إلا أن أكون حاضرا في وقفاته، بل ومشاركا فاعلا في هذه الوقفات. استجبت لأن العلاقة بيني وبين زهير ليست علاقة زميل بزميل فقط ، بل علاقة سمكة بماء، داخله تتنفس بعمق وتنساب بيسر، وتعيش حياتها طولا وعرضا.
ذات صباح حملت مجموعة قصص زهير وخرجت، توجهت نحو المقهى ولم أعد إلا وقد أنهيت الاستماع إلى "أصوات لم يسمعها زهير ذات زمن" . فقررت أن يكون حديثي عن زهير المبدع المثقف. أما زهير الإنسان ، فالقلوب عند بعضها، "فما تأتي به عقولنا قد يكون خاطئا ، لكن ما تأتي به قلوبنا أو دماؤنا لا يكون خاطئا أبدا " .
بعدما أنهيت قراءة قصص هذه المجموعة، أحسست أن الكاتب حولني وبدون وعي مني إلى إحدى شخصياته الفريدة التي تقتحم عالمه في أغلب الحالات دون إذن منه، أعجبت بهذه الشخصيات، بعد ما أصبحت واحدا منها، فتتبعتها مستمتعا بعلاقاتها مع الراوي .
لن أقرأ هذه العلاقات قراءة منهجية أكاديمية، فذاك يتطلب وقتا ومسافة بيني وبينها، وآليات وأدوات يحتاج العمل إلى ضبطها، و إنما سأنقل إحساساتي و انطباعاتي وأسئلتي الأولى التي تبادرت إلى ذهني وأنا أدخل عالم زهير القصصي .
دخلت عالم القص الزهيري ، وأنا أعلم علم اليقين أن هذه المجموعة ليست وليدة اليوم أو السنة التي نشرت فيها، بل وليدة تجربة دامت أكثر من أربعين سنة بتجاربها المتراكمة، وخبرتها النقدية، وثقافتها الموسوعية. لذا لم يكن غريبا أن أجد فيها، السرد و الشعر والمسرح والنقد والفلسفة و الثقافة الشعبية والأسطورة والفنون التشكيلية والقرآن و البلاغة و فن الخط المغربي، وما لا أعلم من الحقول المعرفية الأخرى، كل هذا التراكم المعرفي أحسن زهير القاص المبدع نسجه في تناغم تام ليضع أمامنا كتابة إبداعية سردية متميزة ذات نفس شعري تشد إليها من دخلها بعتباتها التي تفتح شهية القراءة ولغتها الشعرية المتميزة، وصورها الشعرية النادرة، وشخصياتها ذات العلاقات الإنسانية التي تأسر من اقترب منها ودخل عالمها الحميمي، فلا يتوقف عن اللهث وراءها حتى ينتهي من التهامها، وكلما حاول الإمساك بخيط من خيوطها ،إلا وانفلتت منه خيوط كثيرة متداخلة ومتشابكة.
ذلك أن النص الإبداعي يأتيك مستقلا بذاته، منغلقا على نفسه، يتكلم لغة لا يحكمها عمود شعر أو عمود سرد ، تكون لديك رغبة في اقتحامه لتستظل بظله، فيتطلب منك الأمر اكتشاف مدخل من مداخله المتعددة، وامتلاك مفاتيحه النقدية، إذ لا يجيب إلا بمقدار ما تطرح عليه من أسئلة. وبقدر ما يكون القارئ محترفا في طرح الأسئلة بقدر ما ينضح النص بما فيه.
ترى كيف أتعامل مع هذا النص الذي بين يدي " أصوات لم أسمعها ؟ هل أملك من الحرفية ومن الذوق والطبع ما يؤهلني للجلوس في محرابه، والإنصات إليه ومحاورته، حتى إذا لان و استأنس، راودته عن نفسه ؟
ارتأيت دخول النص من عتباته، لأن العتبات تلقى من المؤلف اهتماما بالغا كما يقول النقد القديم، فهي اللوحة الإشهارية التي تفتح شهية القراءة. فكان الانطلاق من العنوان ومن الإهداء.
"أصوات لم أسمعها" ، عنوان أثار دهشتي واستغرابي بمجرد الاطلاع عليه ،فتناسلت الأسئلة، كيف للإنسان أن يحكي عن أصوات لم يسمعها، من أخبره بوجودها ؟ تأملت العنوان قليلا، فتناسلت الافتراضات :
1 ـ قد تكون هذه الأصوات أصوات أشخاص ينتظر الكاتب سماعها فلم يسمعها، وبذلك تكون الأصوات كناية عن أصحابها، ويكون المجاز في الأصوات ذاتها. ويؤكد هذا الافتراض الإهداء الذي لا يهدى إلا إلى أشخاص: إلى كل الأصوات التي لم أسمعها والتي سمعتها.
2 ـ قد يكون مصدر الغرابة في السماع، إذ ليس القصد من السماع الجانب الفيزيائي الفيزيولوجي الذي يستطيعه كل الناس، وإنما الإنصات و التأمل وتدبر المعاني. فكما أن الشعر صوت إنسان يتكلم، بالمفهوم الوجودي للكلام كما يرى عبد الصبور، فكذلك الإنصات سماع إنسان يحسن الإصغاء.
3 ـ قد تكون الغرابة في ضمير المتكلم، فالأصوات صارخة، والآذان سامعة، لكن رأي ضمير المتكلم الراوي رأي دبري لا يحسن الإصغاء إلا بعد فوات الأوان .
فتحت المجموعة القصصية باحثا عن هذه الأصوات التي لم تسمع،متشوقا إلى سماعها بعدما أثار العنوان فضولي، فوجدت أن هناك قصة في آخر المجموعة تحمل العنوان نفسه:" أصوات لم أسمعها"، فتساءلت ما الذي يجعل القاص يسمي مجموعته باسم القصة الأخيرة؟ لماذا لا يجعلها الأولى في المجموعة كما نجد في القرآن الكريم الذي يسمي الكثير من سوره باسم الكلمة الأولى فيها؟ أو كما نجد عند محمود درويش الذي يسمي قصائده في ديوان "ورد أقل" باسم الجملة الأولى في القصيدة ؟ هل يتعلق الأمر بالتكفير عن خطإ عدم الاستماع؟ إذ افتتح الكاتب مجموعته بهذه الأصوات) العنوان( وأهداها إليها مناصفة مع الأصوات المسموعة، وختم المجموعة بها.فهيمنت على المجموعة كلها ، هل هذه الأصوات غير المسموعة محصورة في هذه القصة التي تحمل اسمها، أم أنها مبثوثة بين سطور قصص المجموعة كلها؟
إن الإهداء يوحي بأن المجموعة القصصية عبارة عن أصوات بعضها لم يسمعه الكاتب الذي يتقمص شخصية الراوي، وبعضها سمعه. ولا يتحدث العنوان ولا الإهداء ربما عن وجود أصوات ثالثة كان الراوي ينتظر أن تسمعه، فلم تفعل. لتصبح المجموعة أصوات لم أسمعها وأصوات لم تسمعني ; وبينهما أصوات سمعتها وسمعتني.
وعلى غير العادة قررت أن أفتتح قراءتي للمجموعة بالقصة الأخيرة، "أصوات لم أسمعها" مادامت المجموعة تحمل عنوان هذه القصة، فقد تكون بؤرتها.ولا شيء يلزمني أن أبدأ المجموعة من أولها. ومن الفقرة الأولى يفصح الراوي أنه لم يسمع الأصوات إلا بعد فوات الأوان ." لو أمكنني أن أستعيد الزمن الذي انفلت من زمني ، لأحضرت لك ما طلبت ، ولأضفت إليك باقة ورد ، وكلمة اعتذار رقيقة .. ولكن الذي مضى قد مضى ، والذي كان قد كان ، فكل اعتذاراتي الآن ليست سوى كتابة على صفحة الريح ".
1 ـ علاقة الراوي بصفية : صفية صوت من الأصوات التي لم يسمعها الكاتب. وتضم :
1- صوت الشعر عندما كان الماء يتدفق ." كنت أرى الماء ولا أنتبه إلى الشعر . وحين أدركت أن الشعر خدين الماء ، لم يعد في إمكاني أن أرى تدفق ماء النبع ،فحزنت كثيرا ".
2 - أصوات صفية المتكررة والملحة عندما كانت صفية بجانبه، هذه الفتاة التي يجمع بينها و بين الماء أكثر من جامع " عذبة شفيفة كماء النبع الذي يسكن وجداني" يقول الراوي. وصفة الصفاء، فهي صفية والماء صاف ، وصوتها كالشعر يومئ ولا يقول ، وشعرها البني متدفق كالشلال الذي تستقي منه . فكانت نتيجة عدم الإصغاء الخسارة .
تأتي هذه الأصوات على الشكل الآتي:
ـ" أخي أحمد يحبك "صوت شعري لم يسمعه الراوي بدليل قوله بعد فوات الأوان : هكذا أجبت صفية كمغفل راسخ . كأنما البنت أرادت أن تسمع من معلم أخيها هذا الكلام البارد المسكوك ."
ـ هل ترى زهر اللوز " صوت آخر لم يسمعه الراوي، بدليل قول صفية : كأنك لا تراه.
ـ نعم أريد أن تشتري من المدينة قلادة وعطرا ومشبك شعر " صوت شعري ثالث لم يسمعه الراوي ، فلم يحمل إلى القرية ما وعد به .
3 ـ أصوات الحياة ، عندما كانت الطبيعة تفتح دراعيها ، " ذاهلا عن سموق الشجر في القرية واخضراره وجريان الماء وصفائه و انفتاح الطبيعة و أصوات الحياة التي تدعوني إليها وأنا متصامم عنها، كأنما تمنحني بمقابل.
إن أصوا ت صفية تتقاطع وصوت الحياة وصوت الطبيعة و صوت الماء وصوت الشعر ، فشكلت مجتمعة سمفونية طبيعية لم يحسن الراوي الإصغاء إليها إلا في زمن القص ، لذلك جمع النص بين صوتين: صوت الكاتب الذي يتكلم بحرقة ولوعة، لأنه عاجز على أن يعيد الزمن إلى الوراء بعد أن تعلم فن الإصغاء، وصوت الراوي الذي بيده مفاتيح الزمن وعاد ليعيش القصة من جديد ، ليحكيها إلينا كقراء.
ـ علاقة الراوي بإلهام في قصة تنازع ، إلهام صوت نسائي آخر ارتبط اسمه بالإبداع كما ارتبط اسم صفية بالماء ، إنها رسامة كما صفية شاعرة ، الماء نبع الحياة، و الرسم يهب الوجود ويهب الحياة : يقول الراوي : تضع برأس السبابة نقطة أولى كالنطفة .... ثم تشكل تقاطعات وتداخلات كالأمشاج ، من رحمها تخرج كائنات على هيئة أجنحة تطير أسرابا ملونة ، في حقل مترع بسمفونية التكاوين اللونية المدهشة . "
في " أصوات لم اسمعها " كانت المدينة حاجزا بين الراوي وصفية ، وفي تنازع كانت كتلة الذات تحجب ما على الذات أن تراه .
الطبيعة والمرأة واحد في أصوات ، و اللوحة و المرأة واحد في تنازع ، تقول إلهام : "اللوحة كالمرأة المتهيئة يقتلها الانتظار.
في أصوات نبع ماء يتدفق، وفي تنازع رغبة تتدفق ، " حالة كالنهر يتدفق متماسكا متمازجا في انسياب تلقائي .
في أصوات لم يحقق الراوي التواصل بينه وبين صفية، وفي تنازع اللوحة صحراء قاحلة بدون إلهام .
أحيت صفية الراوي في المتخيل لما عاش القصة مرة ثانية عبر الحكي، وحركت إلهام الدفء في جسد الفرشاة بخطابها من وراء ضباب أبيض . فحققت الذات المبدعة في تنازع ما لم تحققه في أصوات بأن أكلت من شجرة الحياة .
إن العلاقة بين القصة الأخيرة أصوات وبين القصة الأولى تنازع هي علاقة بين الطبيعي والثقافي، بين الواقع الذي عاشه الكاتب ذات أصيل عند نبع الماء، و الحلم الذي عاشه الشاعر في غرفته المغلقة،" وخلال غفوتي، أو شرودي رأيت إلهام ترسم بأصابعها البليغة الوسيمة تكاوينها الباهرة على القماش ذاته . بين زمن الرأي الدبري وزمن الرأي السديد. لنقل إن قصة تنازع هي تتمة قصة أصوات لم أسمعها.إنها علاقة بين صوت لم يسمعه وصوت سمعه، و أصغى إليه وأدركه، فأينعت فاكهة الحياة.وقد وظف الكاتب الصورة لاستحضار كل مكونات الطبيعة التي تفيض بالحياة في قصة تنازع :
ـ تضع برأس السبابة نقطة أولى كالنطفة ، والنطفة ماء من أمواه الحياة .
ثم تشكل تقاطعات وتداخلات كالأمشاج. و الأمشاج أمواه مختلطة ذات ألوان . ومرحلة من مراحل تكون الحياة .
ـ إلهام منكبة على الرسم، وقد صارت تغطس جسدها المتعطف في جداول الألوان،وتمطر إيقاع الروح، ترفع يدها لتشكل الأفق ألوانا وخطوطا ...
ـ اللوحة كالمرأة المتهيئة يقتلها الانتظار .
ـ الحالة كالنهر يتدفق متماسكا متمازجا في انسياب تلقائي كما أرسم الآن نداء واستجابة عفوية
ـ تساجلني وهي تشكل الرموز و تفجر ينابيع الحياة .
ـ علاقة الراوي بالشمس وامرأة القطار الشابة
كما تتقاطع قصتا أصوات لم أسمعها و تنازع ، تتقاطع قصة ألوان الطيف مع قصة السفر. الشخصيات ثلاثة هنا و ثلاثة هناك . في "ألوان الطيف" هناك البحر و الشمس وعباد الشمس، و في السفر هناك الرجل المتعجرف و المرأة الشابة والراوي .
أي علاقة تجمع بين هذه الشخصيات ؟ المرأة في السفر تقابل الشمس في ألوان الطيف ، والرجل المتعجرف يماثل البحر و الراوي يماثل عباد الشمس .
عباد الشمس يضحك نهارا كالأبله، وينكمش ليلا على كمده. وكذلك الراوي في السفر يقول: في النهار يمكنك أن ترمي بصرك وتشاهد من خلف الزجاج ، وتصغي إلى مواجدك الداخلية ، أما في الليل فالبصر كليل ، لذلك تلود بزمنك الثاوي في الأعماق ، فيض من المشاعر و الذكريات و الصور والخيالات، تتلاطم في نفسك ولا ترسو على مرفأ .
عباد الشمس يعشق الشمس و يتتبع حركتها في كبد السماء، والراوي يرى في ابتسامة المرأة النسمة الخفيفة التي تلطف وحشة نفسه. يتأمل الراوي المرأة الشابة فيرسمها شمسا، كما رسم عباد الشمس نفسه على صورة الشمس ، وفي ص 83 نقرأ: تشعر المرأة بضوء شمسي بنظري الخاطف ، فتترك لي مساحة اختلاس ، أحرص خلالها ألا أضبط متلبسا ، وإلا أسأت تصريف الحوار ، هكذا يمكنك أن تضيء عتمة ليلك . يقول الراوي أيضا: للرؤية الجانبية لوجه امرأة سحر خاص كطلعة شروق.
ولأن زمن الطبيعة(تناوب بين الليل و النهار )ليس كزمن السفر ، فقد أضاء الراوي ليله بتلك المرأة الشبيهة بالشمس .
الرجل المتعجرف أيضا كالبحر يشترك معه في الكثير من خصائصه، ويحمل بعض مواصفاته، حتى إن الراوي شبهه بالبحر: فغر المتعجرف فمه كالمعتوه وجمد كالبحر ...
يقول البحر : لماذا تصيبني تلك الرجفة العابرة حين أرى عباد الشمس ؟ هل أغار منه؟ أنا البحر الممتد الجارف العاتي هل أغار من زهر هش متنرجس ؟ لكن الشمس تظل تضاحكه، ويظل هو مقتفيا أثرها طول النهار ....يبقى علي أن أتجاهل هذا المتنرجس الهش .
يقول الراوي عن الرجل المتعجرف ، تزحزح ببطء متشنج كأني أنا الذي تطاولت على حقه ، فسح لي فجوة ضيقة ورمي بصره من النافذة متجاهلا وجودي .
والعلاقة بين المتعجرف و بين الراوي كالعلاقة بين عباد الشمس والبحر: تثاءب المتعجرف وتناوم، عيناه نصف مغمضتين ، لا تميلان عن المرأة ، والصمت بيننا متوتر ، وكلما تثاءب المتعجرف أحس أن العبارة التي ابحث عنها تنسل بعيدا، ويتمطط الزمن كليل الوحدة . البحر يأخذ الشمس ليلا من عباد الشمس ، و الرجل المتعجرف كلما تثاءب تنسل العبارة التي يكتبها الراوي للشمس من الراوي .
وكما انتصر عباد الشمس على البحر: تقول الشمس في ص 36: عباد الشمس، الولد الشقي الجميل الهش، أنت الذي ترج مواجد البحر إذ تصدم قوته بهشاشتك ، فترج مشاعره العاتية ... هل لذلك يرغي ويزبد ؟ فليفعل ، فاسمك مقترن باسمي ، وعلى البحر أن يدرك مغزى ذلك ..
انتصر الراوي على الرجل المتعجرف يقول في ص 85 ، يقول الراوي: فطوت الكتاب ونهضت ، وقبل أن تخرج امتدت يدها إلى ورقة رسمي ، أخذتها وقالت :
ـ سأكمل أنا العبارة ... مع السلامة ,,,,
خرجت أنا أيضا وتركته ... المحطة شحيحة الأضواء ، لكن وهجا في نفسي بدد سحابة الحزن التي لابستني .
الإحساس نفسه نجده عند عباد الشمس: أما البحر فغيور جائر، يهزمني بجبروته، و أهزمه بعشقي، وفي سريره لا يضاجع من الشمس سوى صورتها، له الجسد و لي اللذة، له المادة ولي الجوهر، له الوهم و لي الحقيقة . فأنا الذي أحصده وهو يتوهم حصدي ..منازلة غير متكافئة بيننا ، هو الخاسر فيها .
العلاقة بين ألوان الطيف وبين السفر علاقة بين الواقع والمتخيل، فالأحداث هي هي و العلاقات هي هي ، من هنا يمكن الحديث عن انسجام الكون ووحدة وجوده ، فما يجري في مكان صغير مغلق كمخدع القطار، هو ما يجري في الكون الفسيح بين أكبر الأشياء في الكون الشمس والبحر وبين أصغر الأشياء نبتة عباد الشمس.
علاقة الراوي بللاحليمة ومنى
في قصتي شرفة على الماء ، ووليمة نجد علاقة ثالثة . ويمكن القول : إن قصة "وليمة" هي الجزء الثاني لقصة : شرفة على الماء ، ففي "شرفة على الماء" هناك علاقة بين محسن الطفل وبين للاحليمة عوينتي ، هذه العلاقة قد تكون علاقة أمومة لكنها مغلفة بنوع من الحب و الغيرة ، فمحسن لم يستسغ وجود سيدي أحمد زوج للاحليمة الذي يصفها الطفل بصفة الجميلة، يتحايل ليحقق رغبة النوم في بيتها، يتدخل الحلم لتحقيق ما لم يتحقق في الواقع،في ص 26 يقول محسن: رأيتها في الحلم مرارا تأخذ بيدي وتداعبني وتحضنني وتعطيني الليمون و الكعك والرمان ....رأيتها تحت شجرة ظليلة تدعوني .. ورأيت سعيد يسرع إليها قبلي، فتأخذه و أجري خلفهما ... سمية تبتسم لسعيد ، وأنا أسأله أين عوينتي للاحليمة ، فيمضي ولا يلتفت إلي.سمية تبتسم لسعيد .
محسن يتساءل عن عروسه: و أنا فين عروستي ؟
ستأتي لك بها عوينتك للاحليمة ، إوى اجمع راسك حتى أنت..
يكبر محسن ويتوظف ، ويتحول من مكري إلى مكتري ومن وسط المدينة إلى أقاصيها، وتحول اسمه من محسن إلى سعيد الفرحان، الذي ليس له من السعادة والفرح إلا ليلة واحدة في حياته، رأى محسن للاحليمة ذات صباح ، ورأت منى سعيد الفرحان يوم عطلة ، فكانت عروسه التي كان يسأل عنها .
يعيش أزمة ، لكنه يصر على أن يعيش السعادة التي كان محسن يعيشها في طفولته، ولو لليلة واحدة ، وكما ذهبت لللا حليمة في الحلم ولم تلتفت إليه، رحلت منى دون أن تسمع حتى كلامه. وكما انتهت قصة " شرفة على الماء" بالاستماع إلى غناء للاحليمة صباحا زمن الأمل الذي يطل عليه من شرفة الماء، انتهت قصة "وليمة" بالاستماع في عمق الليل زمن نهاية الأمل إلى الغناء الشجي لمدمن الكحول الشريد الذي يلاحق سرابا .. فينسل طيف منى من الأحلام كما انسل طيف للاحليمة في الحلم أيضا.
علاقة الراوي بشموس الأنوار و العبارة اللغز
نجد علاقة رؤياوية رابعة بين قصة شموس الأنوار وقصة خفق الغيم : في شموس الأنوار هناك رحلة كتاب شموس الأنوار من سعيد الطائي إلى خالد الكتبي إلى سليمان الراوي إلى الطالب الشاب الخطاط بسيد الزوين. وفي خفق الغيم، نجد عبارة تقوم بالرحلة نفسها من الراوي إلى يوسف الطيفي إلى جمال الخطاط لتعود إلى الراوي محمود الشاعري وقد أخذت صورتها الخطية النهائية كما أخذ شموس الأنوار صورته النهائية على يد الخطاط الشاب . والفرق بين القصتين أن شموس الأنوار تجري في مكان حقيقي يمتد من السمارين إلى رحبة الدلالة جوار مسجد ابن يوسف إلى جامع الفنا تتحرك فيه شخصيات من لحم ودم ، بينما فضاء خفق الغيم فضاء حلم أهم شخصياته يوسف الطيفي الذي يوحي لقبه بأنه مجرد طيف، كما يرتبط اسمه بيوسف الرائي عليه السلام .
علاقة الراوي برديفه ، وبفاضل المطري .
لنتأمل الآن "الرديفان" و "إيكاروس": في القصتين معا هناك الراوي المتمثل في ضمير المتكلم، في علاقته بشخصيتين إشكاليتين، شخصية الرديف السكير المتقمص لشخصية ابن زريق البغدادي وشخصية فاضل المطري الشاعر الإشكالي الذي يكتب الشعر ليحرقه ويحتفظ برماده . وعلى الرغم من اختلاف القصتين في الزمان و المكان و الأحداث فهناك ما يجمع بينهما ، فالراوي في القصتين معا هو هو ، شخص يعاني العزلة و الوحدة يعيش أحلامه و أوهامه ، فيخرجه صوت الرديف وهو يقرأ شعر ابن زريق من هذه الأحلام ، ليدخل في حوار معه حول الشعر ، فيقرأ عليه من مدونة سفره شعرا ، ويريه صورة المرأة التي غادرته ، والتي ليست سوى مريم ملهمة الراوي .
أما في قصة إيكاروس فقد كان الراوي أيضا غريبا وحيدا في مكان موحش ، يعيش زمنا ليليا كما الراوي في قصة الرديفان ، وكما أخرج الرديف الراوي في القصة الأولى من وحشته، كان فاضل المطري هو أنيسه في الغربة ، يأتي إليه كما أتى الرديف ، يكون في حاجة إلى الحوار والحديث ، لكن فاضل المطري كالرديف لا يشبع نهمه .
ولا يختلف الرديف عن فاضل المطري في طبيعته الإشكالية الغريبة ، يعيش وحيدا في سفر دائم كما فاضل في سفر مع الكتب دائما ، يقول شعره ليلا بصوت مسموع كما فاضل المطري يقرأه ، سفره كتابة على الماء ، وهي كناية عن الضياع الذي يلحقه ، كما فاضل المطري يقرأ شعره ليلا بصوت مسموع ثم يحرق قصائده. و يعلل إحراقه بقوله:حتى أشعر نفسي بأني دائم البحث عن الماء المنفلت مني ، فلا يتلامح لي إلا كلمع سراب ....
إن هذا التقاطع بين الماء والنار نجده أيضا عند الرديف: نفسي تجيش والعبارة برق، وندائي نار تحت الرماد أسافر لألقاك، ولا ألقاك إلا مودعا ... كأنني كائن خرافي يبحث عن اسمه المخبأ في نداوة روح، ولا يدرك أن الماء يسكن صلبه. فالرديف إذن ينفلت منه الشعر انفلاتا ، وهو دائم الترحال باحثا عن قلادة تليق قصيدة تليق بمقام مريم ، والقصيدة عقد يكفي منه ما يحيط بجيدها الأروع. وكذلك فاضل المطري الذي ينفلت منه الشعر بالإحراق باحثا عن الماء الذي ينفلت انفلاتا.
الرديف يقرأ شعره على الراوي، وكذلك فاضل المطري، ويرحل دون أن يشفي غليل الراوي ، وكذلك فاضل المطري .
الرديف يهدي بامرأة رحلت وتركته، وكذلك فاضل المطري الذي شبهها بشجرة شمع .
إن العلاقة بين القصتين علاقة بين رؤيا واقعية مع شخصية واقعية في إيكاروس ورؤيا تجعل من الذات شخصية أخرى تحاورها وتشاركها همومها وحميميتها، فالمرأة واحدة تجمع بين الراوي والرديف . ولهيب الشعر والكتابة يجمع بين الراوي وفاضل المطري في إيكاروس.
الراوي وأنا : قلت في بداية حديثي إنني أصبحت شخصية من شخصيات الكاتب ، أتلصص على حياة الراوي الشخصية والحميمية. ألازمه كظله باحثا عن علاقاته النسائية و الرجالية التي شدتني إليها بإنسانيتها، أسجل في مذكرتي كأي مخبر ما يقوم به في سره وعلانيته، في ليله ونهاره، هل هو زهير الذي أعرفه، الرجل الهادئ المتزن، أم شخص آخر لا يختلف عن شخصياته الإشكالية؟ لا أدري لكنني أدمنت البحث في ثنايا كلامه باحثا عما يرضي فضولي، لأذيعه في الناس يوم يجتمع من يجد لذة في الاستماع .
أحمد السباعي
ردحذفما اسعدني بوجودي بين أستاذيَّ محمد زهير و علي المتقي و إبداعهما الرائع.أهنئ القاص المتميز و أشكر المدون الفاضل.