الاثنين، 26 يونيو 2017

قناع المتداول المألوف و عري الاستعاره: قراءة في قصيدة زهور لأمل دنقل

1 وسلالٌ منَ الورِد,
2 ألمحُها بينَ إغفاءةٍ وإفاقه
3 وعلى كلِّ باقه
4 اسمُ حامِلِها في بِطاقه
        ***
5 تَتَحدثُ لي الزَهراتُ الجميلهْ
6 أن أَعيُنَها اتَّسَعَتْ - دهشةً -
7 لحظةَ القَطْف,
8 لحظةَ القَصْف,
9 لحظة إعدامها في الخميلهْ!
10 تَتَحدثُ لي..
11 أَنها سَقَطتْ منْ على عرشِها في البسَاتين
12 ثم أَفَاقَتْ على عَرْضِها في زُجاجِ الدكاكينِ, أو بينَ أيدي المُنادين,
13 حتى اشترَتْها اليدُ المتَفضِّلةُ العابِرهْ
14 تَتَحدثُ لي..
15 كيف جاءتْ إليّ..
16 (وأحزانُها الملَكيةُ ترفع أعناقَها الخضْرَ)
17 كي تَتَمني ليَ العُمرَ!
18 وهي تجودُ بأنفاسِها الآخرهْ!!
       ***
19 كلُّ باقهْ..
20 بينَ إغماءة وإفاقهْ
21 تتنفسُ مِثلِىَ - بالكادِ - ثانيةً.. ثانيهْ
22 وعلى صدرِها حمَلتْ - راضيهْ...
23 اسمَ قاتِلها في بطاقهْ!

















































       
      يسعى الشاعر أمل دنقل في ديوانه الأخير أوراق الغرفة رقم 8 إلى رؤية الأشياء المحيطة به من زاوية فريدة، رؤية يحكمها مقام المستشفى والمرض و الاقتراب أكثر من عالم الموت، فأقام  حوارا مع  هذه الأشياء و عبر على لسانها عن رؤيته لعلاقة الإنسان الوجودية بالطبيعة. هذه العلاقة التي يتداخل فيها الواقع بالمتخيل. وتعتبر قصيدة  زهور من بين القصائد التي عبرت عن رؤيا مخالفة لهذه العلاقات،  تبلورت وتطورت  عبر حديث الزهرات مع الشاعر التي غيرت من رؤيته للفعل الإنساني في تعامله مع الطبيعة .
     يفتتح الشاعر القصيدة بمقطع سردي ينحو نحو الوصف بلغة مباشرة لحدث مألوف يتكرر كل يوم في المستشفيات. باقات ورد في غرفة مريض على كل منها بطاقة تحمل اسم صاحبها التي أتى بها. ووصف حالة الشاعر المريض المتأرجحة بين إغفاءة و إفاقة . وقد حد من رتابة السرد و استرساله قافية موصولة بهاء ساكنة قسمت الوحدة التي تتكون من جملتين اسميتين إلى ثلاثة مقاطع شعرية يحتل الإيقاع فيها أمامية القول،و يتراجع المعنى هي:
·       وسلال من الورد ألمحها بين إغفاءة و إفاقه.
·       وعلى كل باقه
·       اسم حاملها في بطاقه.
    فالسطر الثاني غير مستقل بذاته  تركيبيا و دلاليا، فهو خبر للمبتدإ الذي يوجد في السطر الثالث، لكن القافية المرفله بزيادة سبب خفيف تستوجب الوقف لتجاوبها إيقاعيا مع السطر الأول، و حينما ننتقل إلى السطر الثالث يكتمل البناء بالوقفة الثلاثية الإيقاعية و التركيبية و الدلالية. وبذلك يتولد لدينا الإحساس أننا أمام مقطع شعري يوظف السرد لغاية شعرية.
    في المقطع الثاني يوظف الشاعر تقنيات سردية حاضرة في ذاكرة المتلقي هي الأسلوب غير المباشر في الحكي، "تتحدث  لي  الزهرات الجميلة" . و يفصل بين حكي و حكي بتكرار هذه الجملة ثلاث مرات
5 - تتحدث لي الزهرات الجميلة ...
10 - تتحدث لي....
14 - تتحدث لي ....
     إن تكرار هذه الجملة يحد من استرسال الحكي، و يقسم الأحداث إلى وحدات إيقاعية حسب تواليها في الزمن. فالحكي الأول مرتبط بزمن القطف، و الحكي الثاني مرتبط  بزمن العرض في الدكاكين، و الحكي الثالث مرتبط بزمن الموت البطيء  في غرفة المريض.
      إن الحكي المرتبط أساسا بالسرد يدخل عالم الشعر، وقد تلبس ببعض خصائصه التي تميزه عن خصائصه السردية ، وأهمها :
·       الإيجاز المكثف، فعلى خلاف السرد القصصي الذي يطنب في وصف التفاصيل والجزئيات، والتقاط اليومي، يسعى السرد الشعري إلى الاكتفاء بالومضة أو اللمحة في عبارة قصيرة توحي أكثر مما تقول.
·       حذف حروف العطف، فقد سقطت في بداية الأسطر الشعرية لتصير الجمل متتابعة دون رابط لفظي مكتفية بالرابط الدلالي على خلاف الحكي السردي الذي يوظف حروف العطف للتعبير عن نمو الأحداث وتطورها.
                        لحظة القطف 
                        لحظة القصف
                        لحظة إعدامها في الخميلة.
·       التسوير بواسطة القافية : ختم الشاعر الحكي بقفل القافية الذي ابتدأ بها، لتشكل كلا إيقاعيا مستقلا يحد من استرسال الحكي .
       إلى جانب هذه السمات الشعرية  التي وسمت الحكي ، وظف الشاعر التخييل ليزيد من كثافة لغة القصيدة، إذ أنسن الزهرات الجميلة وخلق معها حوارا للتعبير عن المفارقة الوجودية بين الرغبة الملحة في الحياة التي يتشبث بها الإنسان  وممارسة فعل الإعدام في حق الطبيعة، فالزهرات اتسعت أعينها لحظة القطف دهشة ، كناية عن الاستنكار والتعجب و تناقض الفعل الإنساني، فهو يريد الحياة، لكنه يمارس القتل في حق الزهرات الجميلة، وهذا التناقض عبر عنه الشاعر بالمفارقات بين الفكر والواقع ، فاللغة تسمي الفعل الإنساني قطفا، وهي كلمة لا تثير فينا أي إحساس بالذنب، لكن الزهرات في حكيها نقلت الفعل من كلمة محايدة إلى كلمات تعبر عن الفعل الحقيقي "القصف والإعدام" وهما كلمتان تثير فينا الرعب  والرفض والاستنكار.    
     إن الكلمة الأولى كلمة عادية، تجعل من الفعل الإنساني فعلا عاديا غير مستنكر إن لم يكن محبوبا، لكن الفعل الثاني "القصف" يثير الرعب فينا لما يتصف به من عشوائية في القتل الجماعي، ودمار في الطبيعة، أما الفعل الثالث، فيثير الشفقة لما يتصف به من قتل إرادي مخطط له قبلا.
      لقد انتقل الشاعر من التعبير بلسان الإنسان الممارس للفعل – الجرم إلى التعبير بلسان الورد الضحية فرأى في ما نسميه قطفا قصفا  وإعداما.
      إن اللغة لا تعكس الواقع، و إنما تعكس تصورنا للواقع ، فما نتصوره قطفا يتصوره الشاعر على لسان الزهرات قصفا و إعداما. وبذلك يعري لغة الإنسان الفاعل ليسمي الأشياء بمسمياتها. 
      في الحديث الثاني تحكي الزهرات لحظة أخرى تختلف عن اللحظة الأولى.  لحظة السقوط من عرشها الملكي إلى البيع في الدكاكين و أيدي المنادين لتنتهي في اليد المتفضلة العابره .
      فعند الإنسان تتماثل الأمكنة صوتيا ودلاليا : بساتين – دكاكين – منادين ، لكن الزهرات الجميلة عبرت عن هذا الانتقال بالسقوط من العرش بما يعنيه من نبل و سمو إلى سوق العرض والبيع  المناقض للعرش. وهي لحظة قصف آخر عبرت عنها الزهرات الجميلة بالسقوط و الإغماء والإفاقه.
    في الحديث الثالث، تحكي الزهرات عن اللحظة الثالثة، لحظة الموت البطيء وتمني الحياة لغيرها، وهي تجود بأنفاسها الأخيره.
      إن الحكي هنا لا يسترسل، ولا يتناوب، وإنما يعبر عن لحظات ثلاث تعكس المفارقات الوجودية  بين النظر إلى الحياة من زاوية الإنسان القوي الممارس للفعل، وبين النظر إليها من زاوية الورد الضعيف الذي يمارس عليه الفعل، فالإنسان يقتل ليس من أجل أن يعيش، بل لمجرد تمني أن يعيش.
      كما يعبر المقطع أيضا عن وحدة الوجود في فلسفة الشاعر، فالورد كائن حي، يعيش في مكانه الطبيعي كما الإنسان، فلماذا نريد له الموت في الوقت الذي نريد لنا الحياة.
    في المقطع الثالث الأخير يصمت الورد ليتحدث الشاعر بلغة غير لغته في المقطع الأول، وتغيير اللغة دليل على تغيير الفكر وتغيير نظرته إلى الواقع، ما دامت اللغة هي التي تصنع الواقع و تعبر عنه. إن حكي الورد فَعَلَ فِعلَه في ذهن الشاعر ومخيلته ورؤياه، فالزهر مثل الشاعر يتنفس بالكاد ثانية فثانية، ويتأرجح مثله بين إغماءة وإفاقة،  ويبرز الإقناع أكثر بتغيير كلمة صاحب في المقطع الأول بكلمة قاتل في المقطع الأخير.
و كلمة راضية الواردة اعتراضا في السطر ما قبل الأخير ذات معنى إيجابي، لأنها تشهر بقاتلها وتندد بجرمه، بعد أن اعترف لها الشاعر بحقها في الحياة .
    إن قصيدة زهور رحلة وعي من الخطاب الاستعاري المقنع بالاستعارة الانطلوجية، إلى الخطاب الواقعي العاري إلا من الحقيقة. وتعبر عن فلسفة ترفض الفعل الإنساني ذي النظرة الأحادية للأشياء و النظر إليها من زاوية الفاعل وحده، فالإنسان هو الذي يسمي الأشياء كما أراد لها أن تسمى، فنتداول الفعل بالاسم الذي سماه به، لكن حينما نصغي بلغة العقل والقلب المؤاخيين للحق والخير تسقط الأقنعة ويسفر الخطاب عن وجه بشع يحمله الإنسان في حق باقي الموجودات الحية الأخرى .فشتان بين القطف والقصف والإعدام ، بين صاحب الورد وقاتل الورد.




  




















ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق