الجمعة، 18 أغسطس 2017

أشواق درعية أخرى



      زرت درعة في السنوات الأخيرة بعد غياب  قارب نصف قرن من الزمن متشوقا إلى ظل ظليل تفيأته في حقول قطوفها دانية، وماء عذب زلال رشفته من آبار عيونها جارية، وعشب  أخضر رعيته في بطحاء أطرافها مترامية، وسمفونية أصوات تنشدها طيور صداحة، وحشرات طنانة، ما زال يتمثلها ذهني، فأصغي لها سمعي،  ويخشع لها قلبي، وأتراب يتسامرون  في دروب  تتكيف حرارتها مع أحوال الطقس المتقلبة.

    جئت يسبقني هواي إلى ألعاب الطفولة ومواسم الرجولةِ، باحثا عن درعة التي في ذاكرتي: نهر رقراق يتوسط واحة شاسعة تسع ساكنتها ومن يحط  بها الرحال، قصور وقصبات بسيطة بساطة أهلها تطل من أعلى الربوات على غابات نخيل يميل اخضرارها إلى السواد، مقابر صغيرة هنا وهناك في فضاءات مفتوحة لا تحدها حدود، مسجد ومدرسة وساحة رحبة للاحتفال وسط أسوار تحضن بيوتا طينية يرص بعضها بعضا  لمواجهة  طوفان الزمان  وأحوال الطقس المتقلبة، لم يكن لأهلها همّ يشغلهم عن سعادتهم في شقاوتهم، فما أن يملك الرجل منهم قوت يومه في بيته، ودريهمات معدودات في جيبه، حتى يتلألأ وجهه، فتسمع غناءه من بعيد حامدا شاكرا رب العباد. طرقاتهم رسمتها نعالهم وحوافر بهائمهم في كل الاتجاهات، وحواسهم تقودهم  ليلا إلى حيث يوجد الأتراب دون حاجة إلى أضواء.
    يحل فصل الخريف  فتسبح في سماء البطحاء غيمات متفرقة، تعكس الشمس ظلها على الأرض، فيسير كل مناـ نحن الأطفال ـ  في ظل غيمة لا يفارقها، تحيط بنا الشمس ونحن نسير في ظل سماوي رباني وكأننا أنبياء. أما الكبار، فتتطلع أفئدتهم إلى السماء منتظرة قدوم الغيوم الممطرة. وقد يطول الانتظار، فيخرج النساء و الأطفال متوجهين  نحو الوادي  مستسقين رب السماء، طالبين غفران ذنوب اقترفها الكبار، ويتحمل عواقبها الصغار، فتردد جنبات الوادي صدى دعائهن،"ها احنا صبيانْ صغارْ، لا تواخذنا بكْبارْ، غيثنا يا مولانا، راه  السبولا عطشانا." فتتمايل أشجار النخيل طربا، و تردد الكائنات الحية آمين. وقد يستجيب القدر للدعاء فورا، فلايعود الجمع من الوادي إلا وقد تبللت ثيابه بالقطرات الأولى.
       في ليالي نهاية فصل الخريف وبداية فصل الشتاء،  تتلبد السماء بالغيوم الأولى، فتهتز جنبات القصر وجدرانه بما يحدثه الرعد من أصوات مدوية، فنختفي نحن الصغار في أحضان أمهاتنا اللواتي يصلين علي النبي المختار.  وقد يتتابع نزول الغيث لأيام ويصير طوفانا، فتسيل الأباطح بالسيل العرم، و يتحول القصر إلى جزيرة يحيط  بها الماء من كل جانب، فنجلس الساعات وربما الأيام  بباب القصر ننتظر هدوء غضب الطبيعة متقربين إلى الله ببركة الأولياء. وعندما يطول الحصار، يقرأ الشيوخ اللطيف، فيتراجع مستوى الماء يوما بعد يوم ليتحول السيل إلى جداول رقراقة، وتتحول البطحاء إلى فضاء للعب، وتتحول البرك المائية النهرية زوالا إلى مسابح تضج بقهقهات الأطفال اليافعين عراة كما ولدتهم أمهاتهم دون أن ينظر الواحد منهم إلى عورة الآخر. و تملأ سماء القصر صباحا ومساء أسراب القطا باحثة عن حبات زرع بقيت هنا وهناك بعد جني المحصول السنوي.
    أتذكر أنني كنت أقف مخاطبا أسرابها ببيت شعر حفظته، فتمنيت أن يعيد الزمن دورته، وأقف الموقف نفسه بعدما فهمت معناه، و احتجت فعلا إلى جناح الطير ألبسه لأطير إلى درعة الخير دون المرور من مسالك تيشكا.
     أسرب القطا هل من يعير جناحه **** لعلي إلى من قد هويت أطير.
    أتذكر أنني قرأت في أحد كتبنا المدرسية نصا جميلا يحكي قصة طفل تمارض لكي لا يتوجه إلى المدرسة، فلم يجد من يلعب معه، العصافير مشغولة ببناء أعشاشها، و الحشرات منهمكة في جمع قوت شتائها، فقررت أن أتكاسل مثله ذات صباح ربيعي  فخرجت من البيت إلى ساحة القصر باحثا عمن يجالسني ويشاركني كسلي، فلم أجد أحدا، لا طفلا ولا شابا ولا كهلا ولا امرأة. تأملت الأرض والسماء باحثا عن كسول مثلي فلم يتجاوب معي كائن حي، لأن حقولنا تسع سواعد كل أحياء القصر وتطلب المزيد. أحسست بالملل فعدت إلى البيت وحملت محفظتي وتوجهت نحو مدرستي طالبا عفو معلمي.
    جئت درعة متشوقا إلى كل هذا، فوجدت يا لهول ما وجدت، نهر جاف لم يعد يكتنز حلمنا الطفولي الذي تغنينا به في مراعي البطحاء، وغابات نخيل تُحتضر، فهجرتها الطيور المغردة، والحشرات الطنانة. ودور مشتتة لا تقي برد الشتاء ولا حر الصيف تنتشر عشوائيا  خارج الأسوار، و أعمدة كهربائية لا تقل عشوائية عن هذه الدور تتقاطع أسلاكها خارج القصر، فتلوث البصر. و شباب عاطل يبحث عن ظل يتمدد فيه طول النهار منتظرا وظيفة في المؤسسات العمومية.
     يحل المساء فيحل معه صمت كئيب، لم تعد تسمع حناجر تصدح بالغناء، ولا نقيق الضفادع أو أزيز الجنادب تغازل ضوء القمر. سألت عن أترابي، قيل لي رحلوا بحثا عن الرزق المتاح في مدن الغرب، سألت عن شيوخ  تمسح ضحكاتهم صمت المساء بين المغرب والعشاء ، قيل لي هناك في مدينة الصمت يرقدون. جلست قرب قبورهم، تخيلت ضجيج المساء  يصم أذني، وأصواتهم تتعالى مرحبة بعودتي، وحناجر الشباب تصدح :
      سيدي يارب لا تعاود علينا ما فـــات كل غايب يرجع لمكانــــــــــــــو
       ونحرثو حرثة انشاع الله و اكتوبر ما مات والتمر طايب في زيوانو
       ونقيمو البنات بالدمالج و الخـلالات انعايم الله علينا بانـــــــــــــــــــــــــو
       تحفظ يا رب الشابات المعنويـات فين ما كان اللعب يبانـــــــــــــــــــــــــو
   تساءلت تساؤل الحيران : أيعود القصر إلى سالف عهده، وتعود الطيور المهاجرة إلى حقولها، فـأعود أنا أيضا مع المغتربين إلى عشي الأول لأقضي ما تبقى من أيامي قبل أن أسكن مدينة الصمت قرب من سبقني إلى هناك.
     غادرت القصر أرمي الطريق ورائي خطوة خطوة، تراكمت الخطى، صارت ركاما يحجب الرؤية. تخيلت القصر الذي غادرته وهو في أوج شبابه وحيويته وسعادته يجلس الشيوخ في مدخله الرسمي بلباسهم الأبيض الناصع متصافين و كأنهم أسنان بيضاء، ضحكاتهم تملأ الفضاء، تصورته شاخ كما شاخ سكانه، مدخله مهشم كأنه فم بلا أسنان، نسجت العنكبوت في دواخله خيوطها فساد الصمت، جدرانه مترهلة كعضلات عجوز جاوز الثمانين، لافرق بين مدينة الأموات وقصر الأحياء، فراغ وصمت وكآبة. أسير كأنني أسير في جنازة، مثقلا بنعش حاضري. فاضت الصحراء  بسيل من الذكريات، تشابهت في عيني  كل الجهات. تساءلت : إلى أين تقودني الطريق وقد سرت في جنازة القصر؟
    - عن أي طريق تسأل يا أنا؟ طريق الأمس الجميل البسيط بساطة الحياة لم أر لها من باقية، و طريق الحاضر ضائعة وسط جنائز  الذكريات؟
    أقدم رجلا و أؤخر أخرى، أتساءل تساؤل الحائر التائه في طرقات متشابهة، أي زلزال عنيف هذا الذي يهز كياني، يهدم ما تبقى من ذكريات طفولتي، و يخلط أوراق أفق انتظاري المستقبلية.
       انتظرت كهولتي عقودا لأعود إلى القصر و أعيش طفولتي من جديد، فوجدت عواصف الزمن الهوجاء فعلت فعلها في الأرض والبشر،لا ماء ولا شجر، استوت المقابر بسطح الأرض واتحد أديم الأرض بعظام سكانها، صار جذر الصّلاّح ِ( سبع نخلات في الصحراء بعيدا عن الواحة تستظل بظلها الكائنات الحية) أعجاز نخل خاوية، لا ظل له يحكي عن ماضيه، عن القوافل والحيوانات التي استظلت بظله في صحراء لا ظل فيها إلا ظله.  
      زمن مضى وزمن يأتي، وما بينهما حاضري يا أنا، الزمن غير الزمن، والشيب غير الشباب، لا أكاد أرى غير أطلال ذكريات كنستها رياح خريف.
        أيها النهر العظيم: شكرا على ماضيك الجميل، شكرا على حضنك الدافئ الذي منح الطفل الذي كنتُه الأمن والظل والرزق الرغيد، فواكهُ الجِنان فيك قطفتها، تين وعنب ورمان، وغابات نخيل أطعمتنا رطبا جنيا دون أن نهز بجذوع أشجارها. لن نهجرك أيها الوادي العظيم، فلسنا ممن ينكر الجميل، سنظل نتعبد في محراب الترقب حتى يستجيب القدر، فيرحل فصل الخريف الطويل، و يحل فصل الشتاء، وتعود معه يا نهرنا العظيم، ومعك الخير كل الخير العميم، فيك ولدنا وفيك نلقى ربنا، فقد كنت جنة، والجنة لاتصير جحيما، لكن النار قد تصير بأمر ربها بردا  وسلاما، فبردا وسلاما عليك أيها النهر العظيم يوم كنت، ويوم صرت، ويوم تعود كما كنت.
    قال صاحبي لما زار القصر أخيرا باحثا عن درعة التي كنت أحدثه عنها:  "فضاء لا يبوح   بأسراره  للغريب...، للزمان شكل  الصمت، ولون الصبر، للمكان غربة الموت،.... تبحث عيناي عن ظل أستظل به، لا أرى غير ظلي يستظل بي، في ظهيرة الحر، و سرابا يتموج كأوهام حلمي، يرقص على أنغام يأسي."
    قلت: هي الصحراء، بلاغة تفوح،  تكبر في ذاكرتي الطفولة، فيسري في خلايا أطلالها نسغ الحياة، أنيخ ناقتي، ألقي عمامتي، و أستسلم لذاكرة  تبوح.
   يحدثني الفضاء الواسع أمام القصر عن أطفال صغار، يخلعون أوزار الكبار،  يستسقون رب السماء، فتملأ الفضاء خطاطيف لاتخلف موعد المطر، يجرون وراءها بلا ضجر، فتفيض البطحاء بطوفان يكنس بقايا فصول، ليست لنا جارية تقلنا، ولا جبل قربنا يعصمنا من الماء. وحده سور القصر  يقاوم الطوفان، ويقف في وجه الطغيان. 
     في المساء، شغب الطفولة يقلق الكبار، وماشية  ظلت الطريق في متاهات الأزقة لا تكف عن الثغاء، والخطاطيف تخط السماء، وزغاريد عرس تمسح صمت الليل البهيم.....مشاهد وأصوات وروائح تحسها حواسي فتتدافع في ذاكرتي لتملأ المكان الفارغ إلا من الصمت المطبق. حتى الموتى من الناس عادوا في مخيلتي إلى أماكنهم التي اعتادوا الجلوس فيها كل مساء وهم أحياء، يرحبون بقدومي ، ويبتسمون في وجهي، و يعرضون علي ضيافتهم في بيوتهم الطينية البسيطة .
    يحدثني حيز آخر ما بين القصر و المدينة (المقبرة) عن ثلة من الناس يتمددون فيه مساء وكأنهم أموات بعد عودتهم من حقولهم، يلقون على الرمل عبأهم اليومي الثقيل، يصغون لنقيق الضفادع، أزيز الجنادب الرتيب، يتحدثون في أمور الدنيا و الدين دون أن يكلفوا أنفسهم النظر إلى بعضهم، فيخيل إليك أنهم من سكان القبور، وأن الموتى يرهفون السمع للتنصت إلى ما يدور من أحاديث قربهم. وحينما يستسلم هؤلاء الأحياء للنوم، تتحرك أطياف الموتى لتطرق أبواب الحلم، فتبث أحاديثها إليهم بلغة صريحة تارة وميمية أخرى. و في اليوم الموالي يقضي الأحياء ساعات سمرهم بجوار موتاهم وهم يفسرون هذه الأحلام ويؤولونها.
     اعتاد الناس أن يزور ملك الموت القصر مرة واحدة كل بضع سنين. لينقل واحدا منهم من القصر إلى المدينة، فيحتفلون بذلك في جو جنائزي رهيب تسيل معه الأباطح والدروب بصمت البياض و عويل السواد. ويحجم الصغار عن الإشارة بأصابعهم إلى جهة المقبرة، و إذا حدث أن قام الواحد منهم بذلك، يبلع سبع حصوات صغيرة حتى لا يكون قصير الأجل.  وقد يحدث في فترة وجيزة أن تتعدد الزيارة غير المرحب بها، فيترك النعش مقلوبا في المدينة، ولا يعاد به إلى القصر، حتى يُحد من نزيف الموت. وقد يستجيب القدر لرغبة الناس، فيغيب عنهم ملك الموت سنوات ليؤدي مهمته في قصور أخرى.
    أي حنين هذا الذي يشدني إلى ذلك المكان، حنين لم  تطفئه  أربعة عقود ونيف من الغربة بين الرباط ومراكش، ولم تنسني علاقاتي الواسعة مع أساتذتي و زملائي و طلبتي  أهله البسطاء الذين لا تفارق البسمة وجوههم. لا ولا أغاني ناس الغيوان والشيخ إمام ومحمد عبد الوهاب.... أغاني رجالهم الجماعية و أهازيج نسائهم في الليالي المقمرة.
     أزور المدينة (المقبرة) كلما سمحت لي الظروف بزيارة القصر. أجلس قرب قبر الوالد طويلا  فيتولد لدي أحساس بدفء الأبوة وحنانها، وكأنه ما زال بيننا حي يرزق. أحدثه عن مستجدات مسار حياتي، ثم أسأله :
  -  أتراني  صرتُ رجلا يا أبتي في عينيك، أم مازلتُ "شماته " كما كنت تنعتني وأنا أجري وراءك - وعمري لم يقفل سنته الخامسة- في الطريق الرملية المؤدية إلى الحقول، أسقط، فلا أكاد أنهض حتى أسقط مرة أخرى، فتمد إلي يدك و أنت تضحك وتقول:" نوض آ الشماته."
      وكثيرا ما يغلبني النوم و أنا قرب قبره، أستسلم لنوم عميق، فأرى في ما يرى النائم أنه ما زال يسير بالسرعة نفسها التي كان يسير بها في طريق الحقول الخضراء، و أنا أجري وراءه، فلا أستطيع اللحاق به، يلتفت إلي مبتسما وهو يحثني على بذل جهد أكبر، فأدرك بحدسي أنني لم أغادر بعد منطقة "الشماتة" لأصير ذلك الرجل الذي يريدني أن أكونه.
      إن المكان الوحيد الذي أستسلم فيه لذاتي و أتفرغ  إلى دواخلي دون أن يشغلني شاغل دنيوي كيفما كان هو تلك المدينة العامرة بأهلها، المستسلمة لقدرها، البسيطة بساطة الدور المتراصة داخل القصر المجاور لها، فأختار لنفسي مكانا بين سكانها ضيفا قبل أن أصير قاطنا، أضع رأسي على التراب و أسرح بعيني في الفضاء الرحب، فأحس براحة نفسية تعاش ولا توصف، و لاينغص علي صفاء اللحظة  سوى غياب قبر الوالدة بين القبور، أتحسس قبور الوالد و العم والخال و الخالة و الجدة. فيتحول الأنس فجأة إلى غربة قاتلة لا يطفئها وجودي بين باقي أفراد العائلة. تكبر في الطفولة، فأبكي يتمي، أحس برغبة في أن أرتمي بين أحضان قبرها فلا أجده، فأغادر فرارا من وحشة المكان. فكل مكان لا يضم قبرها موحش موحش موحش.
    هل سبق لك يا قارئ هذه السطور أن اخترت لنفسك مكانا بين الأموات، فزرته كلما ضقت درعا بوسط الأحياء ومشاغلهم، ونمت فيه ساعات طوالا؟  فتصورت نفسك واحدا من هؤلاء البسطاء الدراويش الذي قضوا حياتهم يسبحون باسم الخالق بكرة و أصيلا.  فقد وصلت بي الفتنة - أنا المهووس بعالم الموت -  أن طلبت من حفار القبور الذي يعد قبر إحدى الجنائز أن أنام فيه لدقائق معدودات و أن يغطيني بالأحجار حتى أعيش الوحشة و الغربة و الغمة التي يتحدث عنها أهل القصر.
    موحش هو القبر بعد هذه التجربة في عمقه، موحش في ظلمته، موحش في وحدته. موحش في ما ينسج حوله من دقائق الأخبار و تفاصيلها. موحش في توسلات الفقهاء و المنشدين إلى الله أن يخفف عنهم غمته، ويوسع ضيقه و أن يصيره روضة من رياض الجنة. ولأن الجميع يحسن الظن بالله، وصفوا المدينة بالروضة. ورأوا موتاهم في أحلامهم في مروج خضراء يشع النور من وجوههم.
       إن علاقة المجاورة التي تجمع الأحياء بالأموات هناك في اليقظة و الحلم تضفي على العالم السفلي نوعا من الألفة، وتنزع عنه ذلك الغموض الموسوم بالرعب، فالأحياء يتسامرون بجوار موتاهم، و أشباح الأموات تزور القصور ليلا، و تقطع الدروب جيئة وذهابا، والأطياف تحاور الأرواح النائمة ساعة النوم. و بذلك يصير عالم الموت عالما قريبا من عالم الأحياء، فينسجون عنه الخيالات و الأساطير التي سرعان ما تصير حقائق. وحين ينتقلون إليه محمولين على النعش، يحملون إلى مكان مألوف، فالموت ليس سوى الانتقال من القصر إلى المدينة، ومن العيش وسط الأبناء و الأحفاد إلى العيش وسط الآباء و الأجداد.
     في درعة الخير، لا ننسى موتانا ما حيينا. نمر قرب قبورهم كل يوم، ونوزع عليهم دعوات الرحمة، فما إن يراك أحد من الناس حتى يبادر بالدعاء: الله يرحم اللي مات وخلّى. ومن عادتنا في كلامنا على خلاف أهل المدن، أننا لا نٌؤمِّنُ بقول "آمين" ، بل نقسم رحمة الله على الجميع بقولنا، الله يرحم والدينا ووالديك ووالدين المسلمين أجمعين. فرحمة الله واسعة، لذا لانقصر الدعاء على واحد دون باقي الموتى.
      كما أن موتانا لا يفارقوننا أبدا ، ففي كل يوم تسمع هنا وهناك أن أبا أو أما أو ابنا زار قريبا له في الحلم، فتحدث إليه أو أومأ إلى بشيء، فيمر اليوم كله والجميع يتحدث عن هذه الزيارة، ويجتهد في تأويل كلامها أو إشاراتها، فيقوم الأهل بالإطعام وقراءة القرآن وزيارة القبور و الإكثار من الدعاء.
      يحدثني سور القصر عن شمس صافية تشرق كل صباح شتائي بارد، فيخرج الناس إليها و عيونهم شبه مغمضة من شدة لمعانها، يتركون الحبل على الغارب لبهائمهم لتتمرغ قليلا في المراغة قبل التوجه إلى الحقول، فيجري بعضها وراء بعض، و يتمرغ بعضها الآخر ليطرد عن أجساده ما علق بها من حشرات مزعجة، فتتشكل لوحة صباحية تحتاج إلى حواسك كلها للاستمتاع بجمالها. أنواع من البهائم تتجاور فيما بينها، إبل و أغنام و حمير وبغال وكلاب. رغاء وثغاء ونهيق ونباح. روائح بدوية تستلذها الأنوف لايستطيع أمهر الكيماويين أن يركبها في معامله.
   يجلس الناس صفوفا متكئين على السور الذي يجمع أشعة الشمس مستلذين دفئها، يتبادلون أحاديث الصباح، وكلما وقف شخص خرج متأخرا أمام الجالسين فغطى عنهم أشعة الشمس الدافئة إلا وسئل سؤالا يتكرر عشرات المرات في اليوم الواحد: لماذا قتل الحداد ابنه؟ فيتزحزح الواقف من مكانه ليسمح للشمس بالوصول إلى الأجساد الساكنة.
     لم أعرف هذا الحداد الذي يذكر طيلة فصل الشتاء، لا ولا في أي قصر يوجد و في أي زمن عاش. ليس مهما كل هذا، ولا يسأل عنه. المهم هو الحدث الذي لا يراد له أن يتكرر، لقد رمى ابنه الذي حجب عنه أشعة الشمس بمطرقة هشمت رأسه فسقط ميتا. لذلك يفهم الجميع أن السؤال لا يراد به الاستفهام، وإنما أمر بالتزحزح قليلا من مكان الوقوف متضمن معنى التهديد والوعيد بتكرار مأساة الحداد و ابنه. وحينما يبدأ المبكرون بالتسلل إلى أعمالهم يرفع صوت هنا أو هناك مخاطبا أحدهم: " وا فلان و الله يسهل." كلام لا يفهمه إلا أهل درعة أو من عاشرهم أربعين يوما.  لأنه يحمل معنيين: معنى الدعاء ومعنى السؤال عن مكان القصد. وللمسؤول أن يختار المعنى الذي يريد. فإن أراد الإخبار عن وجهته فهم معنى السؤال و أجاب، و إن لم يرد، فهم معنى الدعاء رد : "علينا وعليك" أي سهل الله علينا وعليك". ولن تمر ساعة واحدة حتى يتسلل الجميع، و لا تسمع في المكان إلا أصوات طيور صغيرة بنت أعشاشها في سور القصر تكسر صمت الضحى المطبق على المكان.
    جادك الغيث يا زمن البطاح، رعاة هنا و ماشية هناك ، وأشعار وقواف و غناء يملأ السمع، ورقصات تؤثث الفضاء.
      في كل صباح، يقف الزمان مشدوها أمام أحلامنا تبني ضد طوفانه السدود، ننسج أحلام المجنون، كل ينحت  ليلاه  من الرمل المبلل، ليعيش ليلة العمر في عز الظهر. 
 "دعاني الهوى من أهلِ وُدِّي وصُحْبَتِي
 ببطحاءِ رَعْيٍ فالتفتت ورائيَا
أجبت الهَوَى لمَّا دعانِي بزفْرَةٍ 
تَقنَّعتُ منْهَا أنْ ألامَ رِدَائِيا." 
                 رحم الله مالك بن الريب.


هناك تعليق واحد:

  1. شعرية المكان/شعرية اللغة / بين المقامين المنيفين ينتقل القارئ جيئة وذهابا.وفي الحدين كليهما تضوع العوالم شعرا شفيفا صافيا

    ردحذف