الاثنين، 26 يونيو 2017

قراءة في كتاب نظريات الاستعارة في البلاغة الغربية لعبد العزيز لحويدق


 



    لا يهدي النقاد والكتاب كتبهم وعصارة أفكارهم إلى غيرهم لتوضع في رفوف المكتبات أو لتزين بها الصالات، وإنما لتقرأ وتضيف إلى معارفنا قيمة مضافة. ومن عادتي أن أهتم بهدايا زملائي وأصدقائي العلمية و الأدبية. وخير رد على هدية كتاب يهدى إليك قراءته وإنتاج معرفة به. و بدل من أن يوضع في الرف يوضع في سياقه الثقافي والمعرفي . وقد أهداني الزميل العزيز و الباحث المثابر السي عبد العزيز لحويدق مشكورا كتابه القيم هذا الذي نحتفي به اليوم "نظريات الاستعارة في البلاغة الغربية من أرسطو إلى لايكوف وجونسون" منذ صدوره. وأشكر جزيل الشكر المسؤولين في وزارة الثقافة الذين أتاحوا لي هذه الفرصة للاحتفاء بهذا الكتاب وإثارة النقاش حول قضاياه .
     لن أكتفي بوصف الكتاب وتلخيصه لاعتبارين: الاعتبار الأول، لأن أي تلخيص مهما كان مفصلا ودقيقا لا يغني عن قراءة الكتاب سواء بالنسبة للطالب الباحث أو الأستاذ المتخصص. والاعتبار الثاني، لأن تلخيص كتاب لا ينتج معرفة به. لذا، سأحاول أن أفتح شهية قراءة هذا الكتاب، وذلك  بإبراز قيمته العلمية المضافة في الثقافة المغربية من جهة، ومن جهة ثانية  إبداء  جملة ملاحظات عنت لي وأنا أقرأه، و أطرح أسئلة تبادرت إلى ذهني،لأشرككم و أشرك الكاتب السي عبد العزيز في مناقشتها .
     القيمة العلمية الأولى للكتاب تكمن في تتبع مفهوم بلاغي واحد ،هو مفهوم الاستعارة، تتبعه تعريفا وبنية ووظيفة و إنتاجا وتأويلا في حقول معرفية عدة. فقد أرق هذا المفهوم  الباحثين من مختلف الحقول المعرفية علم النفس و علم الاجتماع و الانتربلوجيا و المنطق و السينما و التشكيل و الفلسفة و النقد الأدبي  بل و العلوم الحقة.   مما يدل على أن له قدرة إجرائية على مقاربة مواضيع مختلفة  تهتم بها هذه الحقول المعرفية. كما يدل أيضا على قيمة الكتاب الذي خصص ليحيط به، ويقدم  معرفة مفصلة ودقيقة لا مناص منها للباحثين طلابا وأساتذة، معرفة  تضع معرفتنا المدرسية الضيقة موضع تساؤل. هذه المعرفة التي تشكل أس ثقافتنا، بل إنها الثقافة الوحيدة خارج التخصص عند جل القراء. فمنذ السلك الثانوي التأهيلي مرورا بالمعرفة الجامعية حصرت الاستعارة في تعريف السكاكي الذي كرسه الكتاب المدرسي "الاستعارة تشبيه حذف أحد طرفيه" . وصار هذا التعريف  المعرفة المسكوكة الذي لا يتسرب  إليها الشك ولا تقبل المساءلة. لكن هذا النوع من البحوث الذي يشتغل على المفاهيم يسمح لنا بإعادة النظر في معارفنا من أجل نقدها وتصحيحها وتدقيقها. وقد أكد الباحث في خاتمة بحثه أنه همه الأساس الذي وفق فيه إلى أبعد حد "هو رسم خطاطة ذهنية و خارطة طريق يسيرة تمكن من تبين الأنساق الكبرى المهيمنة على النظر في الاستعارة بوصفها موضوعا إشكاليا يتجاوز تجلياته اللغوية والسيميائية و يرتبط ارتباطا وثيقا بكينونة الإنسان ووجوده. "و لا يخفى أن الإمساك بهذه الأنساق و فهمها يمر عبر فهم خلفياتها المعرفية النظرية وضبط مفاهيمها الإجرائية. وأضع هنا خطا على قول الباحث بوصفها موضوعا إشكاليا يتجاوز تجلياته اللغوية والسيميائية ويرتبط ارتباطا وثيقا بكينونة الإنسان ووجوده. إن الكتاب إذن يخلخل التصور  القبلي الثابت التي يتصور البلاغة مجموعة قواعد ثابتة ويؤسس لتصور جديد يتصورها علما إنسانيا إشكاليا  يتطور بتطور المعرفة  الإنسانية ، وتتعدد مقارباته بتعدد زوايا النظر.وحينما نقول إنه علم إشكالي فإننا نقصد أنه لا يمكن أن نصل فيه إلى معرفة يقينية مطلقة.
     القيمة العلمية الثانية  لهذا الكتاب هو بعده التربوي ، فالأستاذ عبد العزيز رجل تربية قبل أن يكون أستاذا باحثا، وما كان ليغيب عن ذهنه هذا البعد في التأليف، فقدم معرفة مفصلة في ثنايا فصول كتابه، معرفة نظرية واصفة تحكمها أسئلة  متسلسلة في حلقات يرتبط لاحقها بسابقها، لكنها في الآن نفسه مقترنة بأمثلة وشواهد توضح وتقرب ما استغلق من لغة تجريدية. وكثيرة هي الخلاصات التي استخلصها  الباحثون ومنهم الزميل لحويدق من هذه الشواهد والأمثلة أكثر مما استخلصوها من لغة الوصف العلمية. وقد أنهى الكاتب كل فصل من فصوله العشرة بخلاصات تركيبية تغني في الكثير من الأحيان من العودة إلى قراءة الكتاب كله مرة ثانية . لذا فهو مرجع لطالب الإجازة وطالب الماستر والدكتوراه بل وللأستاذ الباحث أيضا وعموم القراء.
     القيمة العلمية الثالثة للكتاب هو ما يثيره في ذهن القارئ من أسئلة . فقيمة الكتاب عادة ليس في ما يقدمه من معرفة، و إن كانت هذه المعرفة مهمة، فهي في كل الأحوال مطروحة في الطريق، و مفصلة في كتب عدة. و إنما  في ما يثيره من أسئلة تسمح بإغناء النقاش وتطوير المعرفة. وقد أثار هذا الكتاب في ذهني حزمة لا يستهان بها من الأسئلة قد أذكر بعضها مما يسمح به المقام، وسيكون ما تبقى موضوع حوار بيننا في بنية البحث الذي ننتمي إليها معا.
     قبل الدخول في تفاصيل الكتاب استوقفني عنوانه نظريات الاستعارة فتساءلت مع نفسي قبل أن أتساءل مع السي عبد العزيز ومعكم، هل تشكل المقاربات التي قاربت الاستعارة منذ أرسطو إلى اليوم نظريات مكتفية بذاتها مستقلة عن بعضها، أم أن كلا منها مجرد مقاربة مكون ضمن مقاربات لمكونات أخرى تشكل مجتمعة نظرية واحدة . فقد فرض علي هذا التساؤل أن أضع معرفتي المشتركة حول مفهوم النظرية جانبا، لأعود إلى المعاجم المختصة للتدقيق في المصطلح و الخروج بتصور  دقيق للمفهوم . و بالعودة إلى بعض هذه المعاجم والموسوعات  تبين أن النظرية بناء نسقي كلي شمولي قابل للتعميم  تفسر به الظواهر، يربط المسلمات بالنتائج ويرتكز على مبدأ السببية والحتمية . فهل يتحقق هذا في المقاربات الغربية للاستعارة حتى نطلق على كل منها مصطلح نظرية أم هي مجرد مقاربات لظاهرة جزئية تربطها مع ظواهر أخرى علاقات تحكمها نظرية أشمل وأوسع[1] . فإذا أخذنا مثلا نموذج ياكوبسن ، فإن تصوره للاستعارة لا يخرج عن تصوره للشعرية اللسانية أو ما اصطلح عليه بنحو الشعر، وهذا الأخير يندرج ضمن النموذج التواصلي اللساني المحدد لوظائف اللغة التي تعد الوظيفة الشعرية إحداها بل إن هذا النموذج يندرج ضمن دوائر أخرى كدائرة السيميائيات و دائرة التواصل الأنتربلوجي و دائرة علم التواصل البيولوجي. والملاحظ أن مقاربة الاستعارة لا تشكل ضمن هذا النموذج الكلي الشمولي إلا حلقة صغيرة ضمن حلقات متعددة يحكمها القانون نفسه . وبالتالي لا يمكنني أن أتحدث عن نظرية الاستعارة عند ياكوبسن إلا إذا كانت الاستعارة هي القانون المفسر لكل الظواهر موضوع الدراسة ، والعكس هو الصحيح، فالنموذج التواصل هو القانون الذي يحكم الاستعارة كما يحكم باقي الظواهر البلاغية الأخرى ، بل ويحكم لغة الحديث اليومي وليس العكس . وكأنني بالزميل السي عبد العزيز أحس بشيء من هذا، فهجر مصطلح النظرية في الكثير من عناوينه الفرعية  التي وردت كالآتي :
مفهوم الاستعارة عند أرسطو - مفهوم الاستعارة عند فونطانيي- الاستعارة عند رومان جاكوبسن - مفهوم الاستعارة عند جان كوهن - مفهوم الاستعارة عند جماعة مو- مفهوم الاستعارة في ضوء النظرية التفاعلية - المقاربة التداولية للاستعارة - المقاربة الحجاجية للاستعارة - مفهوم الاستعارة في ضوء المقاربة التجريبية المعرفية التفاعلية.
      والملاحظ أن الكاتب لم يستعمل مصطلح النظرية إلا في عنوان الفصل السادس النظرية التفاعلية بينما استعمل في باقي الفصول كلمتي مفهوم ومقاربة. فهل يفهم من هذا أن ما يقصده السي عبد العزيز هنا وجود نظريتين ، النظرية الأولى أشار إليها في ثنايا حديثه عن ارسطو و إن لم ترد في العنوان وهي النظرية الاستبدالية و التي يحكمها قانون النقل والقائمة على مبدأ المشابهة ، و الثانية هي النظرية التفاعلية .أم أن الباحث يقصد الحديث عن الأنساق الكبرى التي يندرج ضمنها النسق الاستعاري مثل الشعرية اللسانية و الشعرية البلاغية و التداوليات و علم الدلالة المعرفي... 
     في اعتقادي الشخصي يمكن الحديث في مقاربتنا للاستعارة و غيرها من الظواهر البلاغية و مناهج التحليل عن نموذجين كبيرين وما تبقى مقاربات متعددة تمتح من هذين النموذجين . واقصد بالنموذج هنا المفهوم النظري  الذي يمكن أن يرادف مصطلح النظرية وهما النموذج اللساني  والنموذج الفلسفي. فالنموذج اللساني بكل مقارباته ياكوبسن و كوهن و جماعة مو و سورل.. له الخلفيات النظرية الفلسفية نفسها و المسلمات نفسها ، إذ لم تخرج أي مقاربة من هذه المقاربات عن مكونات النموذج التواصلي اللساني فقد اشتغلت بعض المقاربات على الرسالة نفسها ،  و بعضها الآخر توسع ليشمل مقصدية المتكلم و المخاطب و المقام. أما النموذج الفلسفي فقد قارب الاستعارة لا بوصفها ظاهرة لغوية ،و إنما بوصفها تفاعلا فكريا و بنية تصورية، وخطابا حجاجيا أي في علاقتها بالفكر.ويندرج ضمن هذا النموذج مقاربة ريتشاردز والمقاربة الحجاجية  و مقاربة لايكوف وجنسون.   والنموذجان معا مصدرهما الأول واحد هو دائرة البلاغة الأرسطية ببعديها الحجاجي و الشعري الأسلوبي. وقد انتبه سورل إلى هذا لما قال : لقد عرف تاريخ البلاغة منذ ارسطو إلى اليوم وصفين للاستعارة : الأول يقول بالمشابهة (...) والثاني يقول بالتفاعل الدلالي." وأكد عدم ملاءمتهما معا لوصف الاستعارة ،واقترح نموذجه التداولي الذي يميز بين معنى الكلمة أو الجملة الذي لا يكون استعاريا أبدا وبين معنى المتكلم الذي يمكن أن يكون استعاريا. والنماذج الثلاثة كما سبقت الإشارة تندرجان ضمن نسق أكبر هو النموذج التواصلي اللساني.
      السؤال الثاني الذي أثارته في نفسي  قراءتي لهذا الكتاب هو البحث عن قوانين تطور الدرس البلاغي  والعلاقة بين هذه المقاربات. هل الواحدة منها تلغي الأخرى وتتجاوزها و بالتالي لم تعد صالحة للتوظيف والاستعمال، أم أن هذه المقاربات تتكامل فيما بينها  لتشكل مجتمعة زوايا النظر في دائرة الاستعارة سواء في النموذج اللساني أو النموذج الفلسفي.
يجيب الباحث في ص223 بقوله "إن الاستعارة حمالة أوجه، ومن ثم فإن زوايا النظر المختلفة لها لا يلغي بعضها بعضا، و لا يسد أحدها مسد الآخر ، ولكنها تتضافر جميعا من أجل صياغة نظرية في الاستعارة تمتلك كفاية تفسيرية متكاملة وقادرة على صياغة قوانين لإنتاج الاستعارة وتأويلها. ذلك أن الاستعارة ظاهرة دلالية و تداولية تتجسد في بنى تركيبية متنوعة و يقتضي تأويلها مراعاة كل ذلك و عدم الاقتصار على ما هو لغوي محض، و إنما الإحاطة بمعرفة العالم و اعتقادات الذوات المتكلمة و ذلك حتى تمتلك فاعلية حجاجية قادرة على التأثير في سلوكات الناس ومواقفهم ." 
     ما أثارني في هذه الإجابة عند الكاتب هو قوله إن زوايا النظر تتظافر جميعا من أجل صياغة نظرية في الاستعارة تمتلك كفاية تفسيرية متكاملة وقادرة على صياغة قوانين لإنتاج الاستعارة و تأويلها .
يمكن وضع سؤالين اثنين انطلاقا من هذا القول :
  السؤال الأول فيما يخص إنتاج الاستعارة: هل يمكن صياغة قوانين لإنتاج الاستعارة، وهل تسعى هذه المقاربات العشر و الحديثة منها بشكل خاص إلى تحقيق ذلك، فالاستعارة إبداع و الإبداع يكون لا على مثال، أما إذا كان وفق قوانين مصاغة قبلا فسيفقد إبداعيته ليصير دربة وحرفة.
  السؤال الثاني  يخص تأويل الاستعارة، هل يمكن فعلا صياغة نظرية من كل هذه المقاربات، وتكون هذه النظرية قادرة على فك مغاليق التعبير الاستعاري إنتاجا و تأويلا؟
       في اعتقادي والله أعلم أن هذه النظرية لو قدر لها أن تكون و إن كنت أرى صعوبة تحقيق هذا الطموح الجميل، لن تكون ذات مردودية إلا على المستوى النظري فحسب،أي تكون بمثابة خطاطة تركيبية. و هذا ما سعى الكاتب إلى تحقيقه، أما عندما تمد الجسور بين النظري و التطبيقي، فسيكون هناك إشكال كبير، ذلك أن هذه المقاربات لم تكن كلها وليدة حقل معرفي واحد، بل حقول معرفية متعددة تتعارض أسئلتها و يتعدد المتن الذي تنطلق منه وتشتغل عليه. فأسئلة الانتربلوجيا أو علم الاجتماع ليست هي أسئلة التحليل النفسي ليست هي أسئلة علم الدلالة المعرفي ليست هي أسئلة النقد الأدبي أو اللسانيات ، فكيف يمكن لنظرية أن تتقاطع فيها كل هذه الحقول، ويكون لها الحل السحري لمقاربة إشكالات كل حقل على حدة .
    إذا كان الأمر كذلك أي استحالة تطبيق خطاطة تركيبية على أي نص كان، كيف نتعامل مع هذا الركام من المقاربات للأنساق الاستعارية ؟ وكيف نختار منه ما يمكن نقارن به نصا من حقل معرفي محدد؟  
  أعتقد أن هناك عوامل ثلاثة تساهم في تطور الدرس البلاغي وينتج عنها تعدد المقاربات الاستعارية التي فصل فيها  السي عبد العزيز القول :
        1)  نقد النموذج اللاحق للنموذج السابق، وكشف عجزه عن أن يكون نموذجا شموليا ومنسجما يجيب على كل الأسئلة المطروحة، ويصف كل الظواهر اللغوية الاستعارية الموجودة مما تتولد معه الحاجة الملحة للبحث عن نموذج آخر قادر على سد ثغرات النموذج السابق،وقد حرص الكاتب على إبراز الانتقادات التي وجهت لكل مقاربة وكيف تم تجاوز هذه الانتقادات من المقاربات اللاحقة.  فالمقاربة التداولية للاستعارة على سبيل المثال قامت على نقد التحليل البنيوي للدلالة لأنه أبان عن افتقاره في تفسير الاستعارة إلى معارف موسوعية لها علاقة بمقاصد المرسل و المتلقي وثقافته، والشعرية البنيوية عند كوهن و مولينو وتامين وكبيدي فاركا انتقدت اعتماد الشعرية اللسانية على نتائج البحث اللساني الذي لا يميز بين لغة الحديث اليومي واللغة الشعرية فانشغلت على ما يجعل من النص الشعري نصا شعريا فوجدته في الانزياح ....
    2 ) تطور البحث العلمي في الحقل المعرفي الذي تمتح منه المقاربات المذكورة. فالبحث اللساني لم ينفك يتطور ويقدم الجديد عبر تاريخه القصير الذي لا يتجاوز قرنا من الزمن. وكل مقاربة لسانية للغة تسعى لأن تكون شمولية تغطي كل الظواهر اللغوية، فتتسع أبحاثها لتغطي البلاغة عامة والاستعارة خاصة بوصفها نموذجا تواصليا سواء كان أدبا أو كلاما يوميا مشحون بالاستعارات . وهذا ما قامت به الشعرية اللسانية  وعلم الدلالة و علم التركيب  والنحو الوظيفي و التداوليات فكل الحقول المعرفية اللسانية قدمت مفاهيم لوصف اللغة  كما أوجدت مفاهيم لوصف الاستعارة .
     3 ) المتن موضوع الدراسة، فالمتن يتطور ويتجدد، وفي تطوره يقدم نماذج إبداعية واستعارات تخييلية غير مسبوقة، فتحتاج إلى آليات لوصفها ومقاربتها فيسعى النموذج البلاغي لتغطيتها. ففونطانيي وقف عند حدود وضع قواعد وقوانيين بلاغية قادرة على وصف المتن الشعري الكلاسيكي الذي تحكمه الرؤية الجوهرية للعالم التي تؤمن بأسبقية الماهية على الوجود. فالنص مكتمل، والاكتمال يقتضي البحث عن الأنساق والقوانين الذي تحكمه، ووضع القواعد الذي تساعد على وصفه . في حين أن المتن الذي اعتمده كوهن و من جاء بعده لم يكن محكوما بهذه الرؤيا و إنما بالرؤيا الوجودية التي ترى أسبقية الوجود على الماهية. فظهر متن استعاري جديد تعجز قواعد البلاغة التقليدية عن وصفه، فكانت الحاجة إلى تطور الدرس البلاغي ليمتلك القدرة على وصف المتن الجديد.
   انطلاقا من كل هذا أرى أن الأسئلة التي توجه البحث و الحقل المعرفي الذي ينتمي إليه و المتن موضوع الدراسة هو الذي يحدد طبيعة المقاربة التي يمكن توظيفها لمقاربة لغته الاستعارية. وليس كل المقاربات صالحة لمقاربة كل الأسئلة. من هنا صعوبة صياغة نظرية استعارية متكاملة تجمع بين مفاهيم كل المقاربات السابقة .


      لم يكن كتاب نظريات الاستعارة مجرد تلخيص للمقاربات موضوع الدراسة لا ولا جمع ما قيل حولها في دراسات سابقة، وإنما تجاوز ذلك إلى طرح إشكالات و إيجاد تفسير لها في ضوء البحث عن الانسجام الداخلي للتصور وكشف التناقض والتعارض الظاهر بين آرائها، وذلك من خلال التمييز بين الاستعارة وباقي المحسنات الأخرى وتأثير الوظيفة الذي  تشغلها الاستعارة في مختلف الأجناس الأدبية.
     ففي تصور أرسطو الذي يعد المرجع الأول و ما زال لكل المقاربات التي جاءت بعده إما بتطويره أو نقده وتجاوزه، سجل الباحث عدة إشكالات منها نقده للقراءات التي قرأت أرسطو من خلفيات نظرية متباينة لعمليات إنتاج المعنى وعلاقته بالفكر والواقع، فتعاملت مع تصور أرسطو للاستعارة وكأنه كل واحد في كتابيه "فن الشعر" و"الخطابة" ناسين أو متناسين تحت ضغط الرغبة في القبض عن سر تصور أرسطو للبلاغة و بناء كل منسجم النظر إلى تصور أرسطو في الكتابين في ضوء نسق كل منهما . وهو نقد دقيق  استنتج منه الأستاذ لحويدق أن وظيفة الاستعارة تتحكم في بنيتها. فالاستعارة في فن الشعر لها وظيفة ترتبط بالتراجيديا التي تتغيا المحاكاة وإحداث التطهير بإثارة مشاعر الخوف و الشفقة في المتلقي بينما في فن الخطابة تندرج في سياق و ظيفة البلاغة الإقناعية التي تقتضي أن يكون الأسلوب واضحا و بعيدا عن الابتذال. و قد نتج عن هذا شرط الابتعاد عن الغرابة والإفراط في الشعرية في حين أنها في الوظيفة الشعرية تبرز قدرة الشاعر على امتلاك علامة العبقرية التي تتجسد في إدراك التشابه في ما يبدو غير متشابه للعاديين من الناس .
     ويرى الباحث أيضا أنه على الرغم من الفرق بين تصور أرسطو للاستعارة في الكتابين فإنها تحتل فيهما خلفية القول أمام مكونات أخرى في الخطاب.فالاستعارة عند أرسطو وسيلة من وسائل المحاكاة في فن الشعر، و طريقة من طرائق الإقناع في الخطابة .
     النقطة الثانية الذي نبه إليها لحويدق هو أن تصور أرسطو لبنية الاستعارة في الخطاب  تحكمه  النظرية الاستبدالية  أو ما اصطلح عليه في البلاغة العربية بمفهوم النقل الذي يقيم الاستعارة على قاعدة الاسم المفرد ودلالته بمعزل عن السياق  و النظر إلى الاستعارة على أنها تقوم على الاستبدال و ثنائية الحقيقة و المجاز، إلا في الحالات التي تجري في كلمات لتؤدي معنى لا وجود للفظ يؤديه في اللغة العادية .
    و أريد أن استفز رغبة البحث عند السي عبد العزيز لأطرح عليه سؤالا طالما أرقني، وعمق هذا الأرقَ كلامُه عما يصطلح عليه بالنظرية الاستبدالية. وهو القول بأن هذه النظرية تقيم الاستعارة على قاعدة الاسم المفرد ودلالته بمعزل عن السياق .و أضع نقطة استفهام على قولكم وقول الكثير من البلاغيين بمعزل عن السياق لأتساءل هل في قول المتنبي :
      فلم أر قبلي من مشى البحر نحوه     ولا رجلا قامت تعانقه الأسد
يمكن أن نتعامل مع كلمة أسد وكلمة بحر بوصفهما استعارتين بمعزل عن سياقهما وقرينتهما؟ فكلمة الأسد لا تصير استعارة إلا بعد إسناد فعل تعانق إليها . و البحر ليس استعارة إلا بعد أن اسند إليه فعل مشى . إذن فهما استعارتان داخل سياقهما وليس بمعزل عن سياقهما . ولا يمكن تصور الاستعارة بمعزل عن سياقها . و أتساءل هل القدماء لهم تصور غير هذا ؟
يقول ارسطو في تعريف الاستعارة : الاستعارة هي نقل اسم شيء إلى شيء آخر " فهل ورد في تعريف ارسطو  أو عند أحد من القدماء عبارة: بمعزل عن السياق ، أم أن قراءهم هم الذين فهموا ذلك من التعريف وأضافوه إليه.
عدت أيضا إلى تعريف الجرجاني في الأسرار و حاولت أن أبحث فيه عما يدل على أن الاستعارة تكون في الاسم بمعزل عن السياق فلم أجد. يقول الجرجاني : اعلم أن الاستعارة في الجملة أن يكون للفظ أصل في الوضع اللغوي معروف تدل الشواهد على أنه اختص به حين وضع، ثم يستعمله الشاعر أو غير الشاعر في غير ذلك الأصل ونقله نقلا غير لازم فيكون هناك كالعارية . ما أفهمه في هذا القول أن القدماء يتحدثون عن نقل اللفظ  داخل السياق لا خارجه، وذلك من خلال توظيفه لعبارة  يستعمله الشاعر و الاستعمال يفيد التوظيف في سياق بيت شعري .  ثم قوله ينقله نقلا غير لازم و هذا القول يفيد انتفاء النقل بانتفاء السياق . و لو كان النقل بمعزل عن السياق لصار نقلا لازما وثابتا و ليس كالعارية كما قال الجرجاني.و  إذا لم يتحدث القدماء عن السياق و لم يشيروا إليه ، فلأنهم  يعدونه من باب البديهيات ولم يعتبروه حاسما في بناء الاستعارة كالمشابهة . لكن المشابهة لا تفهم إلا بوجود قرينة لفظية أو حالية ، مما يفيد مراعاة السياق . و حتى التعريف المدرسي المتداول للمجاز يتحدث عن الاستعمال، الذي يفيد توظيف الكلمة في جملة .  
   وختاما  يكفيني من هذا العمل أن أثار في ذهني هذه الأسئلة وغيرها ، ودفعني إلى التساؤل حول بعض الأحكام التي صارت مسلمة في دراساتنا البلاغية . أما بالنسبة لطلبتنا فإنه يقدم معرفة علمية هم أحوج إليها ، ومن لديه القدرة على العودة إلى مضانها الغربية ، فيكفي أن قدم له مصادر ومراجع تعب السي عبد العزيز ليالي و أياما كثيرة للوصول إليها.
                       
 




[1] ليس عبد العزيز لحويدق وحده من استعمل هذا المصطلح لوصف هذه المقاربات ، فقد استعمله  غيره قبله ، ومن حقه أن يوظفه . لكن هذا لا يمنع من إثارة السؤال.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق