الاثنين، 1 مايو 2017

المعتمد ومملكة الشعر مع قراءة في قصيدته قبر الغريب



      
                                  

       

 
       
جميل جدا أن نحتفل بالشعر، جميل جدا أن نبني مملكة لا تحدها حدود طبيعية أو عرقية أو عقدية، مبدأها الحرية في بعدها الوجودي، والإنسانية في بعدها الشمولي، والغنائية في بعده الإيقاعي.  مملكة تنتصر على الزمن، إذا أشرقت شمسها لا يلحقها الأفول كشموس باقي المماليك.

        قديما كان هناك ملكان أحدهما رجل حرب وجهاد، توسعت مملكته شرقا وغربا، حتى سمي ملك المغرب أبيضه وأسوده، وسيد حِمْيَرَةَ وملكها الأكبر، والثاني ملك من ملوك الطوائف السيئي السمعة. من حسن حظ هذا الأخير أنه كان شاعرا. الأول فاروق افريقيا يوسف بن تاشفين ملك مراكش، والثاني المعتمد بن عباد ملك اشبيلية.

       يحكي التاريخ أن يوسف بن تاشفين ضم الأندلس إليه، وقضى على ملوك الطوائف، وأتي بالمعتمد أسيرا إلى أغمات. سقطت مملكة اشبيلية، لكن مملكة الشعر ظلت قائمة، أُسِر الملك، لكن القيد لم يقو على أسر الفكر والخيال، فظل الشاعر حرا طليقا، يعبر عن مأساة المَلِك وضياع ملكه، يتردد صدى شعره مشرقا ومغربا، فتتوافد الوفود تلو الوفود لزيارة الشاعر في الأسر متعاطفين مع مأساة الملك. يموت الملك أسيرا، فيحيا في شعر الشاعر الذي لا يموت. أراد له يوسف أن يموت غريبا بئيسا، فظل بشعره صاحب صولة وصولجان. وكلما دار الزمن دورته، ازداد رعاياه وتكاثروا حتى ملك الدنيا وشغل الناس، وقامت حرب كلامية بين المشرق والمغرب من أجله لم تتوقف حتى اليوم، فقد تعاطف المشرق مع المعتمد لأنه الملك الشاعر الرقيق الإحساس الذي يخاطب اعتماد الرميكية  قائلا:

  تَـظُــــنُّ بِـنَــا أُمُّ الرَّبِيــــعِ سَآمَـــــــــةً **أَلاَ غَفَـــرَ الرَّحْمَــنُ ذَنْبـاً تُواقِعُـــــــهْ   

  أَأَهْجُــرُ ظَـبْياً فِي فُـؤَادِي كِناسُهُ**وَبـدْرَ تَمَامٍ في جُفُـوني مَطَالِعُـــــــــــهْ  

  وَرَوْضةَ حُسْنٍ أَجْتَنِيهَـا وَبَـــارِدًا**مِـنَ الظَّلْـمِ لم تُحْظَرْ عَـلي شَرَائعُهْ

  إذاً عَدِمَتْ كَفِّــي نـَوَالاً تُفِيـــضُهُ**عَلَى معتقيها أَوْ عَـدُوًّا تُقَارِعُـــــهْ

  ورأوا في يوسف بن تاشفين الملك الفض الغليظ الذي لا يفهم لغة الشعر والأحاسيس.

      وإذا نظرنا إلى حال الملكين بعد أن قضى الله بأمره، نرى المعتمد اليوم أكثر شهرة من ابن تاشفين، وأن عدد الذين يزورون قبر المعتمد في أغمات - على بعده من مراكش -أضعاف أضعاف من يزورون قبر يوسف على الرغم من وجوده في مراكش. ولم يحض المعتمد بكل هذه الشهرة وبهذه المكانة إلا بفضل مملكة الشعر التي لا يلحقها الأفول، فقد استطاع بواسطتها أن يحول مأساته الشخصية كملك سيء الذكر والفعل السياسيين إلى مأساة إنسانية، فأسر قلوب قرائه، و أنساهم أخطاءه السياسية الذي بسببها استحق عقوبة الأسر، ورأوا في شعره تجربة إنسانية تستحق التعاطف.

أليس القائل وهو في الأسر:

لما تمــــاسكت الدمــــــــوعُ وتنبـــــــه القلــــــبُ الصديـــــــــــــع

قالـــــوا الخضوع سياســـــــةٌ فليبـــــــدُ منـــــــك لهم خضـــوع

وألذ من طعـــــم الخضوع على فمـــــــي الســــــم النقيــــــع

إن يسلبِ القومُ العـــدا ملكــــــي وتُسلّمْــــني الجمــــــوع

فالقلــب بين ضلوعِـــــــــهِ لم تُسلّــــــــمِ القلــــبَ الضلـــــوع

لم أُستلــــــــبْ شرف الطبـــــــاعِ!أيسلــــب الشـــرف الرفيع

قد رمـــــتُ يــــــوم نزالهـــــــــمْ  ألا تحصــــــــنني الـــــــــــــــــــــدروع

وبرزتُ ليس سوى القميصِ على الحشا شيءٌ دَفـــــوع

وبذلــــت نفسي كــــــي تسيلَ إذا يسيلُ بــها النجيــــــــــــع

أجلــي تأخــر لم يكــنْ  بهــواي ذلـــــــــــــــــــــــــي والخضــــــــوع

ما ســرت قـــطّ إلى القتـــال وكان من أملـي الرجــــــــــــوع

شيـــــم الأولــــى، أنا منهــــمُ   والأصـــــلُ تتبعــــه الفــــــــروع

    من منا - ونحن مغاربة نفتخر بيوسف ونتعاطف معه - لم يقف مشدوها أمام قصائد المعتمد من قبيل 

      - فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا** فجاءك العيد في أغمات مأســــــورا

      - بكت أن رأت إلفين ضمهما وكر **مساء وقد أخنى على إلفها الدهر

      - قبر الغريب سقاك الرائح الغادي **حقا ظفرت بأشلاء ابن عبــــــــــــــــــاد

وغيرها كثير. ففي هذه القصيدة الأخيرة المعلقة على جدران ضريحه رثى ماضيه السياسي، لكنه لم يتحدث عن الشعر، لأن الشعر لا يموت بل يظل جوّابا تتناقله الأجيال عن الأجيال. لا يموت الشاعر ولا ينقطع إنشاد الشعر. وقد صدق حكيم الشعراء أبو الطيب:

وَمَا الدّهْرُ إلاّ مِنْ رُواةِ قَصائِــــدي      **

إذا قُلتُ شِعراً أصْبَحَ الدّهرُ مُنشِدَا

فَسَارَ بهِ مَنْ لا يَسيرُ مُشَمِّـــــــــــــــــــــراً     **

وَغَنّى بهِ مَنْ لا يُغَنـــــــّي مُغَـــــــــــــــــــــــرِّدَا

وَدَعْ كلّ صَوْتٍ غَيرَ صَوْتي فإنّـــــــــني    **

أنَا الطّائِرُ المَحْكِيُّ وَالآخَرُ الصّدَى

 

 

 

  فقد صار الدهر من رواة قصائد المعتمد. وما زال يردد قصائده الإنسانية.

      و الملاحظ أننا حينما نقرأ التاريخ الذي يخاطب عقولنا، نتعاطف مع يوسف بن تاشفين ونجيب شاعر الحمراء،" لن تبكي ذاك العظيم وفقده وحدك، سيبكيه معك المغاربة جميعا بل الشعوب العربية الإسلامية جميعا" ، لكن حينما نقرأ شعر الشاعر نتعاطف مع المعتمد الذي يخاطب فينا مشاعرنا وأحاسيسنا. ونقول:كان يوسف قاسيا مع المعتمد  ولم يرحم عزيز قوم ذل. 

      السؤال المطروح علينا جميعا، كيف استطاع المعتمد بواسطة القصيدة أن يحول مأساته السياسية إلى تجربة إنسانية، وأن ينتصر الشعر على التاريخ والسياسة، ويبقي على عرشه الشعري الدائم بعد موته و موت آسره، وانهيار مملكة المرابطين. ذلك هو السؤال الذي ينبغي أن ننشغل به كنقاد وكشعراء للقصيدة العمودية التي تتربع على عرش الإنشاد، وتقتسم الكتابة مع غيرها من القصائد الأخرى.

   أخلص بعد كل هذا إلى القول: أخطأ من يقول لسنا في حاجة إلى الآداب لأنها لا تنتج الثروة، فالشعر كان وما زال قيمة مضافة، يرفع أمما وينزل بأخرى، ويبني الإنسان بوصفه إنسانا. 

 

                            قراءة في قصيدة قبر الغريب 

                   قَبرَ الغَريب سَقاكَ الرائِحُ الغادي
                               حَقّـــاً ظَفَــــرتَ بِأَشــــلاء ابـــن عَبّــــادِ
                   بِالحِلمِ بالعِلمِ بِالنُعمى إِذِ اِتّصلَت
                              بِالخصبِ إِن أَجدَبوا بالري لِلصّادي
                   بالطاعِن الضّارِب الرّامي إِذا اِقتَتَلوا
                             بِالمَــــــــوتِ أَحمَــــرَ بالضرغمِ العادي
                   بالدّهر في نِقَم بِالبَحر في نِعَمٍ
                             بِالبَدرِ في ظُلمٍ بِالصَدرِ في النادي
                   نَعَم هُوَ الحَقُّ وَافاني بِهِ قَدَرٌ
                             مِــــــنَ السَمـــــاءِ فَوافانـــــي لِميعــــادِ
                  وَلَم أَكُن قَبلَ ذاكَ النَعشِ أَعلَمُهُ
                             أَنَّ الجِبــــال تَهـــــادى فَوقَ أَعـــــوادِ
                  كَفاكَ فارفُق بِما اِستودِعتَ مِن كَرَمٍ
                            رَوّاكَ كُــــــلُّ قَطـــــــوب البَرق رَعّـــــادِ
                  يَبكي أَخاهُ الَّذي غَيَّبتَ وابِلَهُ
                           تَحتَ الصَفيــــحِ بِدَمـــــعٍ رائِح غادي
                  حَتّى يَجودَكَ دَمعُ الطَلّ مُنهَمِراً
                           مِن أَعيُن الزَهرِ لم تَبخَل بِإِسعادِ
                  وَلا تَزالُ صَلاةُ اللَهِ دائِمَةً
                           عَلى دَفينـــــكَ لا تُحصـــــى بِتعدادِ

       هذه القصيدة قيلت في مراحل متأخرة من عمر المعتمد بن عباد، فقد فيها كل الأمل في فك أسره وعودته إلى الأندلس بعدما فقد زوجته اعتماد الرميكية، وأصبح في حكم اليقين أن نهايته ستكون بأرض أغمات، فكان هذا الخطاب الذي صار لوحة معلقة على قبره هناك يقرأه زواره على مر الدهور والأزمان. ويختزل مأساة الشاعر وغدر الزمان به، و إحساسه بالانكسار، و السقوط من عرش علم  على رأسه نار إلى قبر مجهول الهوية و الاسم. لكن ما لا يعلمه المعتمد أن بفضل مملكة الشعر الذي لا تسقط ولا تعرف شمسها الأفول صار قبره أشهر و أعلم من قبر يوسف بن تاشفين. بل إن قبر يوسف هو الآن قبر الغريب. لا يزوره العدد الهائل من الزوار الذين يزورون قبر الشاعر، بل لا يعرفه الكثير ممن يزورون مدينة مراكش.   

      عرّف الشاعر قبره بإضافته إلى صفة الغريب. وهي صفة على الرغم من معرفتها بالألف واللام لا تفيد تعريفا بل تزيد الموصوف بها تنكيرا وفقدان هوية. وهي صفة لقبر في وسط غير وسطه، وبين أهل غير أهله، وفي أرض غير أرض صاحبه.

 

        إن وصف القبر بهذه الصفة يعكس قمة النهاية المأساوية للملك الشاعر الذي لم يقهره الأسر الذي دام سنوات، إذ ظل دائما مقترنا بأمل العودة إلى الأندلس، فظل محافظا على رباطة جأشه، فارضا على الآخرين أنه كان ملكا وسليل ملوك آل عباد ولا يزال، لكن الموت سينهي كل شيء إلى أقصى درجة. فهل استسلم له الشاعر؟  

         إذا كان الموت /القبر يغيب جسد المرء و أشلاءه، أي الجزء الفاني منه، فإن الوسط الاجتماعي الذي يجمعه بالشاعر قاسم الولاء و الذاكرة المشتركة يخلده بالذكر الحسن . أو كما قال عروة بن الورد:

         أحاديث تبقى و الفتى غير خالد *****إذا هو أمسى هامة تحت صير .

    ويتنبأ المعتمد بما تصير عليه حاله بعد وفاته، إذ سينسى اسمه ويطوى ذكره الحسن، فوصف قبره بما توصف به القبور المجهولة، قبر الغريب.

قال الشاعر امرؤ القيس

                أجارتنا إنا غريبان ها هنا    وكل غريب للغريب نسيب

وبذلك سيموت مرتين: الموت الجسدي وهو موت حتمي، وموت النسيان والتجاهل، وهو الذي لم يتقبله الشاعر. لذلك فإن صفة الغريب هي الكلمة المفتاح في النص، فالملك العظيم الذي جالس الملوك وأذلهم في أرض أندلس يموت غريبا ويدفن غريبا ويعرف قبره بصفة تعرف بها قبور ذوي الهويات المجهولة ....

        لم يؤلم الشاعر ماضي الأسر الذي انتهى، فقد حافظ فيه على رباطة جأشه وكرامته، ولم يسمح لمن يتعامل معه أن ينسى ولو للحظة بأنه يتعامل مع ملك وسليل ملوك. فظل في سنوات سجنه له مهابة الملوك وعزتهم وكرامتهم، ولم يطأطئ الرأس في يوم من الايام لسجانه.

       لكن ما آلمه وحز في نفسه هو أن يصبح قبره كقبر أي غريب مجهول الهوية، لا يعرفه الناس ولا يزورونه، ويسمى بما تسمى به قبور الغرباء قبر الغريب. لذا سعى في هذا النص إلى التعريف بقبره  لعل من يأتي بعده  يعرف قيمة ماضيه ويستغرب كيفية ضم قبر لبحر، كيفية إخفاء قبر لعلم على رأسه نار، كيفية إخفاء ظلام قبر لنور بدر .   

       يقف الشاعر الملك على قبره المفترض ويناديه بما سيناديه به الناس بعد موته" قبر الغريب"  و يدعو له بالسقيا لأنه متيقن ألا أحد سيقف عليه بعد موته. والدعاء بالسقيا له صلة برمزية الماء أو الغيث، فهو رمز الحياة، والبعث والفرح، لذا دعت العرب للقبر بالسقيا السرمدية حتى يظل أخضر، والاخضرار لون رياض الجنة. وكلما أمطرت السماء إلا وانبعثت الحياة في الأرض، فكانت روضة خضراء وكان صاحب القبر في رياض تشبه رياض الجنة.

   ينتقل الشاعر من المجهول إلى المعلوم، فإن كان القبر قبر غري، فقد ظفر بالمعلوم الذي لا ينكره ولا يجهله إلا جاحد " أشلاء ابن عباد" وتوحي كلمة ظفرت بقيمة الشيء المظفور به.

     تستوقفنا في هذا البيت بالإضافة إلى كلمة " الغريب" كلمة "حقا" التي تفيد اليقين المطلق بأن قبر الشاعر صار قبر غريب، وكلمة "ظفرت" التي تفيد الصراع والمنافسة بمن يظفر بأشلاء ابن عباد، أرض الغربة أم أرض الولادة والمنشأ والألفة.. فالذات الشاعرة تطمح إلى العودة إلى أرض الأندلس لتدفن هناك، لكن البيت يوحي بالاستسلام للأمر الواقع المرفوض، فكانت العودة إلى الماضي على امتداد ثلاثة أبيات للتخلص من الحاضر المأساوي.

      واجه الشاعر الحاضر والمستقبل الموسومين بالغربة بماض حافل بالذكر الحسن، وهمّه القطع مع الحاضر وبناء الذكر المستقبلي انطلاقا من الماضي.

    عُرف الشاعر ابن عباد بصفات متعددة جمعت كل الفضائل المعلومة في الثقافة العربية الإسلامية حقيقة و مجازا، في السلم وفي الحرب، فهو العلم و الحلم و النعماء المتصلة، و هو الخصب للمجدب و الري للصادي، وهي صفات مجازية مرتبطة بالعطاء و الكرم في وقت الحاجة. وتترتب عن الصفات الذاتية الحلم والعلم والنعمى المتصلة، والمجموعتان معا صفات الذات في زمن السلم والأمن.

     في مقابل هذه الصفات، انتقل الشاعر في البيت الثالث لوصف وجه آخر من وجوه ذكره الحسن: الطاعن الضارب الرامي وهي صفات متعددة للشجاعة، وفي الشطر الثاني وصف نفسه بما يترتب على هذه الأفعال الموت الأحمر وآلته الضرغم العادي. وبذلك جمع الشاعر بين قيم زمن السلم وقيم زمن الحرب ليوحد بينها في البيت الرابع. الدهر في الحرب والبحر في السلم والبدر في الظلام والصدر في النادي. إن هذه الصفات جميعها تقابل دلالة الغريب في الحاضر.

    إن المفارقة الكبرى تكمن في اختزال قيم الماضي المتعددة التي لا يجهلها أحد في بلاد الأندلس في صفة واحدة هي صفة الغريب. ويأبى الشاعر إلا أن يعرف قبر الغريب ويمحو عنه صفة الغرابة، بل الغرابة كل الغرابة أن يكون غريبا.

       وقد زاد من تأكيد هذه الصفات وتثبيتها حذف الموصوف والاكتفاء بالصفة المعرفة بأل مما يدل على أن ابن عباد معروف بها دون غيره فهو الحلم والعلم ذو النعمة المتصلة والخصب والري، وهو الطاعن والضارب والرامي والموت الأحمر والضرغم العادي، وهو الدهر والبحر والبدر والصدر، فأي من هذه الصفات تصل بك إليه. فكيف تختزل كلها في صفة الغريب؟ تلك هي المفارقة التي بنيت عليها القصيدة.

    في البيت الخامس يعود الشاعر إلى الحاضر المأساوي لمواجهة سؤال وجودي يختلف عن المفارقة بين الماضي المجيد والحاضر المقرف هو سؤال الموت بعد الحياة، سؤال لم يكن الإحساس بمأساويته أقل من الإحساس بمأساوية المفارقة بين الماضي والحاضر إن لم يكن أقوى. فالحاضر واجهه الشاعر بالماضي الذي لا يمكن تجاهله ولا نكرانه، أما سؤال الموت، فقد وقف الشاعر أمامه مستسلما لقدره قابلا لمصيره. وقد خفف منه أنه ليس مما يتحكم فيه سجانه، بل هو الحق الذي وافاه به القدر في ميعاده، إلا أن التعجب والانكسار والإحساس بالمأساة ظل حاضرا خصوصا في البيت السادس."  الجبال تهادى فوق أعواد". فالجبال وهي استعارة هنا للماضي تفقد كل ثقلها بعد الحق السماوي لتصير فوق أعواد. وهي صورة تعكس حجم المأساة التي يحس بها الشاعر في انتهاء الماضي بكل ثقله إلى مجرد جثة غريبة تتمايل فوق أعواد النعش لا حول لها ولا قوة، فأين الحلم والعلم والضرب والرمي والموت والدهر البحر والبدر والصدر، هذه الصور التي يشكل كل منها جبلا في ذاته؟

     يعود الشاعر بعد هذا التمطيط المسهب إلى مخاطبة القبر طالبا منه الرفق لا بأشلاء ابن عباد وإنما بحمولتها التاريخية وخاصة قيمة الكرم هذه القيمة التي تربطه بماضيه، والدعاء له بالسقيا.

     لكن من الساقي؟ قطوب برق رعاد. هذا الغيم البرق له صفات قطوب ورعاد، وهما وإن كانتا صفتين من صفات الرعب المجازية والحقيقية فهما صفتان للحزن لا يكونان إلا عن ألم. فما الذي جعل الشاعر يصف البرق بهاتين الصفتين؟

    لقد سعى الشاعر إلا أن ينفي عنه صفة الغريب، فإن كان وحيد القبر مبعده، لا يعرفه بنو جنسه ممن غربوه، فهو معروف لدى الغيم، بل هو أخو الغيم في الكرم، لذا يرى في أمطاره دمعا وبكاء على موته، ووفاؤه جلي من خلال ملازمة قبره حتى يجود الورد بدمع الطل.

     في البيت الأخير ينتقل الشاعر من الدعاء بالسقيا إلى الدعاء بدوام الصلاة على الدفين، أي من المؤقت الزائل إلى الدائم. فالسقيا يتبعها صحو، والورد مرهون بفصل الربيع، لكن الصلاة ورد دائم لا يرتبط بفصل من الفصول. وبذلك يكون القبر دائم الاخضرار.

بعد هذه القراءة الاستكشافية، يتضح أن النص يختزل مأساة المعتمد الملك وتداول الأيام وتقلبات الزمن، فيسعى الشاعر إلى إعادة بناء الزمن وتوجيهه، وذلك بالقفز على الحاضر والعودة إلى الماضي من أجل استحضاره في رسم الصورة الذي يريدها للمستقبل.

     إن الماضي الحافل بالقيم مكتمل. والحاضر المأساوي على مشارف الانتهاء، لكن الغد هو زمن الصراع. ويصر المعتمد على أن يبنيه بدعامتين: دعامة الذكر الحسن بقيم الماضي وصلاة الله الذي لا تنقطع . وبذلك يصير الحاضر مجرد مرحلة مؤقتة انتهت ونسي أمرها. لذلك لا تشير القصيدة إلا إلى زمنين: الماضي بثقله والمستقبل بالدعاء، ويغيب الحاضر بكل مآسيه.

      إن النص يحاول مقاربة سؤالين حكما حياة الشاعر ومصيره: السؤال الأول يهم المفارقة بين ثقل الماضي وغربة الحاضر. السؤال الثاني سؤال وجودي يهم مصير الإنسان والاستسلام لمصيره.

      إن السؤال الأول يجد جوابه في نفي الحاضر بالعودة إلى الماضي والتمسك به، فالشاعر على الرغم من سجنه ونفيه وقيوده لم ينزل يوما عن عرشه الملكي، الذي أرخ له بشعره، فظل الملك حيا بصولته وصولجانه في شعره حتى آخر يوم من حياته، بل ظل حيا بعد حياته حتى اليوم.

    أما السؤال الثاني وهو الأكثر مأساوية، فقد استسلم الشاعر لمصيره مؤمنا أنه الحق القدر الذي يأتي في ميعاده فبكى نفسه وبكته الطبيعة. ولم يبق أمامه إلا أن يطلب الرفق مقدما بين يدي قبره ما قدمه في الماضي من كرم. فوجد حلا غيبيا لمصيره يتمثل في الدعاء بالمغفرة الرحمة.

        لقد علق هذا النص على جدران ضريح المعتمد بن عباد يقرأه الزوار الذين لا ينقطعون عن زيارة الضريح فيقرؤون النص ويدعون للمعتمد بالرحمة، وبذلك يستجيب الله لدعائه في البيت الأخير:

        وَلا تَـــــــــــزالُ صَلاةُ اللَـــــــــهِ دائِمَــــــــــــــةً          عَلى دَفينـــــكَ لا تُحصـــــى بِتعـــــــــــــدادِ

إن صلاة الله تتعدد بتعدد زواره الذين لا يحصون. وسيظلون ما بقي الضريح، وبقي شعر المعتمد يعرف بمأساته.

هناك تعليق واحد:

  1. تبكون من ادل رعيته و هان عليه دينه و تنسون من كان له الفضل في انقاد الاندلس من شر الصليبيين
    و لكن كما قال يوسف بن تاشفين رحمة الله عليه كما ندعو بالرحمة للمعتمد بن عباد
    قال يوسف بن تاشفين عن ملوك الطوائف ادلوا رعيتهم و هان عليهم دينهم فادلهم الله و هانوا عليه

    ردحذف