الأحد، 19 أبريل 2015

كلمة في تكريم الأستاذ العلامة علي أيت علي

      السادة الأجلاء : لما طلب مني أن أقدم شهادة في حق أستاذنا الجليل علي أيت علي حفظه الله وأمد في عمره ، استصعبت الأمر لسببين: السبب الأول: اعتقادي أن هناك من زملائه  و أصدقائه من هم أولى بتقديم هذه الشهادة. لكنني لما رجعت بذاكرتي إلى زمن مضى، وجدت أن العلاقة بيني وبينه تمتد لربع قرن، وهي فترة كافية لتنفخ في علاقاتنا الإنسانية بكير التجربة، فتميز فيها بين المغشوش والمنقوش. ويشهد الله أنني مذ عرفت الرجل، عرفت  له وجها واحدا لا أوجها، بلا أقنعة تتلون بتلون المناصب و تتغير بتغير المصالح. الاعتبار الثاني الخوف من أن تخونني لغتي فتصير الكلمات عاجزة عن التعبير عن مكانة الرجل في قلبي. وعلى الرغم من ذلك ،لا بد لي أن أتكلم حتى وإن عجزت كلماتي  لأقول لأستاذي الجليل استفت قلبك فتعرف مكانتك عند الناس، فما تأتي به عقولنا قد يكون خاطئا، وما تأتي به قلوبنا لا يكون خاطئا أبدا.

   وأقول والحق أقول، أنني صادفت هذا الرجل، وأنا ألهث وراء غدي، صادفته و أنا أتلمس خطواتي الأولى في حياتي المهنية بهذه المؤسسة العامرة وسط صراعات وتشنجات تحرق الأخضر واليابس، فرأيت فيه حبل نجاة يمكن أن أعتصم به، وما كنت لأرى فيه هذا الحبل المتين لو لم أتوسم فيه خيرا، فمعاملاته اليومية معنا نحن الجيل الجديد الذي اقتحم قلعة القرويين من غير استئذان تنبئ عن قلب واسع وعقل راجح، وخبرة صقلتها التجربة، فجئته طالبا منه المشورة، كيف أتصرف؟ وما هو الموقف الذي يمكن أن أتخذه، فكان لي ناصحا نصيحة الأب لابنه, ومنذ ذلك اليوم لم ألتقه إلا وهو مبتسم في وجهي ولسانه يردد "الله أكبر... و الله أني أحبكم في الله" . وكلما مرت الأيام وتتابعت السنوات ، إلا وازداد قلبي اتساعا ليسع علاقتي بهذا الرجل.
   وكم مرة جئته طارقا بابه طالبا منه منة ، فتهلل وجهه كما لو كان الطالب وكنت المستجيب، و ما طلبت طلبا قل المستجيب له إلا وتذكرت قول الشاعر العربي زهير بن أبي سلمى:
        تراه إذا ما جئته متهللا ** كأنك تعطيه الذي أنت سائله
    وبحكم علاقتي به، كنت بين الفينة والأخرى أتوجه لأصلي الجمعة بالمسجد الذي كان وما زال خطيبه، فأجد نفسي أمام خطيب خُطبه لا كالخطب التي تعودت سماعها في الكثير من المساجد، أسمع خطبا متعددة المستويات، يسمعها العامي فيفهمها، ويصغي إليها المثقف فيدرك عمقها، كل ذلك في وقت وجيز لا يخل بخشوع الصلاة ، ولا يتأفف منه المريض وصاحب الحاجة .
   وقد جمعتني به دروس الكراسي العلمية لسنوات، فكان السي أيت على اليد اليمنى التي مدت إلي وأجلستني على كرسي البلاغة، وكان لا يتردد في أن يحضر دروسي وهو العالم في علوم التفسير و آلياته، و إذا ما أنهيت درسي جاءني باشا متهللا ومشجعا.
    وأقول - و أشهد الله على ما أقول - أن  الأستاذ أيت علي لم يكن  مجرد أستاذ للتفسير، لا ولا مجرد عالم من علماء هذه الكلية، بل هو أحد القلائل الذين تطابق أقوالهم أفعالهم، وإيمانهم عملهم، فما عرفته مذ عرفته إلا رجلا ورعا يخاف الله عز وجل كأنه يراه ، وما أظنه إلا واحدا ممن قال فيهم رسول الله ص:
  "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره."صحيح البخاري ج3. وليس ذلك بكثرة العبادة ،ولا كثرة القراءة ، بل لسماحة قلبه وخلوه من الغش والحقد والكراهية ، فكثيرا ما كان يتعض بهذه القصة العجيبة :
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال :
   كنا في المسجد عند رسول الله فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ((يدخل عليكم من هذا الباب رجل من أهل الجنة))، قال: فدخل رجل من الأنصار، تنطف لحيته من وضوئه، قد علق نعليه بيده، فسلم على النبي وجلس، قال: ولما كان اليوم الثاني قال: ((يدخل من هذا الباب عليكم رجل من أهل الجنة))، قال: فدخل ذلك الرجل الذي دخل بالأمس، تنطف لحيته من وضوئه، مُعلقاً نعليه في يده فجلس، ثم في اليوم الثالث، قال عبد الله بن عمرو بن العاص: فقلت في نفسي: والله لأختبرن عمل ذلك الإنسان، فعسى أن أوفّق لعمل مثل عمله، فأنال هذا الفضل العظيم أن النبي أخبرنا أنه من أهل الجنة في أيامٍ ثلاثة، فأتى إليه عبد الله بن عمرو فقال: يا عم، إني لاحيت أبي – أي خاصمت أبي – فأردت أن أبيت ثلاث ليال عندك، آليت على نفسي أن لا أبيت عنده، فإن أذنت لي أن أبيت عندك تلك الليالي فافعل، قال: لا بأس، قال عبد الله: فبت عنده ثلاث ليال، والله ما رأيت كثير صلاةٍ ولا قراءة، ولكنه إذا انقلب على فراشه من جنب إلى جنب ذكر الله، فإذا أذن الصبح قام فصلى، فلما مضت الأيام الثلاثة قلت: يا عم، والله ما بيني وبين أبي من خصومة، ولكن رسول الله ذكرك في أيامٍ ثلاثة أنك من أهل الجنة، فما رأيت مزيد عمل!! قال: هو يا ابن أخي ما رأيت، قال: فلما انصرفت دعاني فقال: غير أني أبيت ليس في قلبي غش على مسلم ولا أحسد أحداً من المسلمين على خير ساقه الله إليه، قال له عبد الله بن عمرو: تلك التي بلغت بك ما بلغت، وتلك التي نعجز عنها - رواه أحمد.
هذا هو السي أيت علي: مخلص في عمله يبتغي به وجه الله عز وجل، يحب الخير لكل الناس، فكيف لا يكون واحدا ممن يحبهم الله عز وجل، و قد" سلم المسلمون من لسانه و يده، و انتفع الناس من علمه و خلقه."
أستاذنا الجليل السي أيت علي متعني الله بصحبتكم وحشرني" في زمرتكم ونفع الله بكم وبعلمكم البلاد والعباد .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق