السبت، 11 أبريل 2015

مفاتيح الغيب في تفسير الرازي

  

         التفسير الكبير للفخر الرازي المتوفى سنة 606 هجرية يسمى أيضا  مفاتيح الغيب. و قد أثارني هذا العنوان مرتين، فالعنوان كعتبة في ثقافتنا العربية  لا يؤدي وظيفة التسمية فحسب و إنما تربطه بالمسمى علاقة غير اعتباطية قد ترتبط بمضمونه أو بوظيفته أو بمكانته من بين مصادر الحقل الثقافي الذي ينتمي إلي . ويفهم من هذه العبارة أن الفخر الرازي يقدم في هذا الكتاب ما اصطلح عليه بمفاتيح الغيب. إذا كان هذا الافتراض صحيحا فمن الطبيعي بل من الواجب أن يتساءل القارئ عن هذه المفاتيح ما هي .
       الإثارة الثانية تتعلق بمفهوم المفتاح ومفهوم الغيب ، وعلاقتهما بما ورد في الآية 59 من سورة الأنعام: "وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو..." فالآية صريحة بأن مفاتيح الغيب مخصوصة لله عز وجل لا يعلمها إلا هو. فعن أي مفاتيح غيب سيحدثنا الفخر الرازي وقد خص الله عز وجل نفسه بعلمها؟ هذا يدعونا إلى تحديد مفهوم المفتاح ومفهوم الغيب كما فهمهما الفخر الرازي في تفسيره لهذه الآية وعلاقتهما بمفاتيح الغيب في تفسيره الكبير .

يقول الرازي في تفسيره للآية 59 من سورة الأنعام :
       المفاتح جمع مِفتح. ومَفتح ، والمِفتح بالكسر المفتاح الذي يفتح به ، والمَفتح بفتح الميم الخزانة. وكل خزانة كانت لصنف من الأشياء فهي مفتح، (...) فلفظ المفاتح يمكن أن يكون المراد منه المفاتيح ، ويمكن أن يراد منه الخزائن. أما على التقدير الأول، فقد جعل للغيب مفاتيح على طريق الاستعارة لأن المفاتيح يتوصل بها إلى ما في الخزائن المستوثق منها بالأغلاق والأقفال. فالعالِم بتلك المفاتيح وكيفية استعمالها في فتح تلك الأغلاق والأقفال يمكنه أن يتوصل بتلك المفاتيح إلى ما في تلك الخزائن. فكذلك ههنا الحق سبحانه لما كان عالماً بجميع المعلومات عبر عن هذا المعنى بالعبارة المذكورة.  وأما على التقدير الثاني فالمعنى وعنده خزائن الغيب. فعلى التقدير الأول يكون المراد العلم بالغيب، وعلى التقدير الثاني المراد منه القدرة على كل الممكنات.
       وسواء أخذنا بالتقدير الأول الذي يفيد مفتاح معرفة الغيب أو التقدير الثاني الذي يفيد معرفة الغيب نفسه، فإن الأمر يقتضي التمييز بين ما اختص به الله عز وجل وما يقصد بمفاتيح الغيب في كتاب الرازي. فمن المحال أن يكون القصد هنا هو القصد هناك، لأن التقديم و التأخير و القصر في الآية الكريمة  آليتان من آليات أسلوب  الاختصاص . لتجاوز هذا الإشكال يميز الرازي بين مستويين من العلم: العلم العقلي المحض الذي لا يتم تحصيل العلم به على سبيل التمام و الكمال إلا للعقلاء الكاملين الذين ألفوا استحضار المعقولات المجردة. و العلم بالأمور المحسوسة الداخلة تحت القضية العقلية المحضة المجردة، التي تساعد على توصيل القضايا العقلية المحضة إلى عقول عامة الناس . فهل يفهم من هذا القول أن العلم بالكليات الغيبية خاص بالله عز وجل، و العلم بالمحسوسات و آليات تدبرها التي يدعو إليها القرآن في أكثر من آية  مفتاح لفهم الكليات؟
     لنعد إلى مقدمة الكتاب للبحث عن مفهوم كلمة الغيب: الغيب في اللسان: كل ما غاب عنك ،يؤمنون بالغيب، أي يؤمنون بما غاب عنهم مما أخبرهم به النبي ص من أمر البعث و الجنة و النار.
     والبحث في الغيب ليس مقصودا لذاته عند الرازي ، و إنما هو كما جاء في المقدمة وسيلة لكيفية اكتساب أفضل السعادات وذلك بالهداية إلى أفضل الطاعات و تجنب كل المعاصي و المنكرات و أداء كل الخيرات و المأمورات . ولن يتأتى ذلك إلا بمعرفة الله تعالى في ذاته و صفاته و الإقرار بالعجز و الافتقار إليه و الاستعانة به في القيام بأداء جملة التكليفات والإيمان بالغيبيات ومعرفة كل أنواع الهدايات ونعم الله في كل الحالات و المقامات وتجنب أهل الجهالات و الضلالات .
     وراء هذه الأفعال التي تحدث عنها الرازي قضايا غيبية متعددة يتيه معها الإنسان بين عشرات الطرق،  طريق واحدة فقط تؤدي إلى إدراكها الإدراك الصحيح . قال الرازي :  ان المنهيات إما أن تكون من باب الاعتقاد أو من باب أعمال الجوارح؛ أما الاعتقاد فقد جاء في الخبر المشهور قوله صلى الله عليه وسلم: ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلهم في النار إلا فرقة واحدة. وهذا يدل على أن الاثنتين والسبعين موصوفون بالعقائد الفاسدة والمذاهب الباطلة ؛ ثم إن ضلال كل واحدة من أولئك الفرق غير مختص بمسألة واحدة بل هو حاصل في مسائل كثيرة من المباحث المعلقة بذات الله تعالى وبصفاته وبأحكامه وبأفعاله وبأسمائه وبمسائل الجبر والقدر والتعديل  والثواب والمعاد والوعد والوعيد والأسماء والأحكام والإمامة فإذا وزعنا الفرق الضالة - وهو الاثنتان والسبعون - على هذه المسائل الكثيرة، بلغ العدد الحاصل مبلغا عظيما. وكل ذلك أنواع الضلالات الحاصلة في فرق الأمة في جميع المسائل العقلية المتعلقة بالإلهيات والمتعلقة بأحكام الذوات والصفات ؛ بلغ المجموع مبلغا عظيما في العدد .
      يتضح من هذا القول أن الغيب الذي يبحث الرازي عن مفاتحه في تفسيره يتعلق بالبحث في ذات الله وصفاته والمسائل المتفرعة عنها مما ذكرناه أعلاه لأن هذه المعرفة هي الطريق السليم الذي توصل إلى أكمل السعادات أي العقيدة الصحيحة من بين مئات بل آلاف العقائد الفاسدة التي تؤدي إلى النجاة من النار.       ولن يصل الإنسان إلى هذه العقيدة الصحيحة الثاوية في كتاب الله والتي تحتاج إلى كشاف يكشفها إلا بامتلاكه لمفاتيح الغيب. ما هي هذه المفاتيح التي امتلك الفخر الرازي الجرأة  لعرضها على عقول قرائه من مختلف الأزمنة و الأقطار .
     سنحاول اكتشاف هذه المفاتيح من خلال تتبع قراءته وتفسيره للاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم الذي تفتتح بها قراءة القرآن امتثالا لقوله تعالى : و إذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم . يقول الرازي :
    ولا شك أن قولنا " {أعوذ بالله} " يتناول الاستعاذة من جميع تلك الأنواع( أي العقائد الفاسدة ). والاستعاذة من الشيء لا تمكن إلا بعد معرفة المستعاذ منه، وإلا بعد معرفة كون ذلك الشيء باطلا وقبيحا فظهر بهذا الطريق أن قولنا " {أعوذ بالله} " مشتمل على عشرة آلاف مسألة أو أزيد أو أقل من المسائل المهمة المعتبرة .
1 - المفتاح الأول هو مفتاح اللغة :
      يتبين من خلال تتبع كتاب الفخر الرازي أن المفسر لا يمكن أن يتعاطى التفسير إلا إذا كان مسلحا بمعرفة نظرية مجردة بمختلف الحقول المعرفية التي تساعد في الكشف عن المراد، وأولها علوم اللغة العربية . فقد استعرض في بداية كتابه معرفة لغوية نظرية صرفية و نحوية وبلاغية و لغوية  لها صلة و ثيقة بجملة "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" مستعرضا الخلافات بين النحويين ، ليعود في الباب الثاني إلى توظيف هذه المعرفة في تفسيره للاستعاذة .
    "يقول  المسألة الأولى : في تفسير قولنا : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بحسب اللغة فنقول : قوله ( أعوذ ) مشتق من العوذ وله معنيان : أحدهما : الالتجاء والاستجارة والثاني : الالتصاق يقال أطيب اللحم عوذه وهو ما التصق منه بالعظم فعلى الوجه الأول معنى قوله أعوذ بالله أي : ألتجئ إلى رحمة الله تعالى وعصمته وعلى الوجه الثاني معناه ألتصق نفسي بفضل الله وبرحمته .
   وأما الشيطان ففيه قولان : الأول أنه مشتق من الشطن وهو البعد يقال : شطن دارك أي بعد فلا جرم سمي كل متمرد من جن وإنس ودابة شيطانا لبعده من الرشاد والسداد قال الله تعالى : " {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن} " [ الأنعام : 112 ] فجعل من الإنس شياطين وركب عمر برذونا فطفق يتبختر به فجعل يضربه فلا يزداد إلا تبخترا فنزل عنه وقال : ما حملتموني إلا على شيطان .
  والقول الثاني أن الشيطان مأخوذ من قوله شاط يشيط إذا بطل ولما كان كل متمرد كالباطل في نفسه بسبب كونه مبطلا لوجوه مصالح نفسه سمي شيطانا .
وأما الرجيم فمعناه المرجوم فهو فعيل بمعنى مفعول . كقولهم : كف خضيب أي مخضوب ورجل لعين أي ملعون ثم في كونه مرجوما وجهان : الأول : أن كونه مرجوما كونه ملعونا من قبل الله تعالى قال الله تعالى : " {اخرج منها فإنك رجيم} " [ الحجر : 34 ] واللعن يسمى رجما وحكى الله تعالى عن والد إبراهيم عليه السلام أنه قال له : " {لئن لم تنته لارجمنك} " [ مريم : 46 ] قيل عنى به الرجم بالقول، وحكى الله تعالى عن قوم نوح أنهم قالوا " {لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين} " [ الشعراء : 116 ] والوجه الثاني أن الشيطان إنما وصف بكونه مرجوما لأنه تعالى أمر الملائكة برمي الشياطين بالشهب والثواقب طردا لهم من السموات ثم وصف بذلك كل شرير متمرد."
     إن الرجوع إلى المادة اللغوية في بعدها الاشتقاقي و المعجمي يعد عتبة للفهم و بناء المعنى عبر توجيهه الوجهة التي تخدم خلفيات البحث و أسئلته وذلك باختيار ما يلائم المساق الكلامي الذي وضعت فيه. و يتبين من هذا النص الطويل الذي استشهدنا به أن  الرازي توقف عند كل كلمة  تتكون منها الاستعاذة، و بحث في اشتقاقها ليخرج من الاشتقاق إلى المعجم ، و ليستعرض معاني كل كلمة دون أن يلغي معنى آخر ، لأن هذه المعاني لا تتعارض، وإنما  تتكامل دلاليا فقد توقف عند الفعل المضارع أعوذ و عند كلمة شيطان و كلمة رجيم و خصص صفحات طويلة لاسم الجلالة في تفسيره للبسملة .
    وقد بدأ الرازي بالاشتقاق  لأنه هو المسألة الأولى في المعرفة النظرية أولا ، وثانيا لأنه يؤمن بأنه هو أكمل الطرق في تعريف مدلولات الألفاظ . ويلاحظ أنه خرج  من الاشتقاق إلى مدلولات الألفاظ الممكنة، ومن مدلولات الألفاظ سيبني تصوره العقلاني المنطقي .
  
2 ـ المفتاح الثاني هو  الاستدلال  العقلي: وهو مفتاح منطقي عقلاني يوظف الاستنباط و الاستقراء والجدل ، وكل هذه المفاتيح تأتي بعد المفتاح اللغوي وتنبني عليه.
  يرى الرازي أن الاستعاذة بالمفهوم اللغوي الذي حدده لها اللغويون  لا تتم إلا بعلم و حال وعمل.  يقول: أما العلم فهو كون العبد عالما بكونه عاجزا عن جلب المنافع الدينية والدنيوية وعن دفع جميع المضار الدينية والدنيوية وأن الله تعالى قادر على إيجاد جميع المنافع الدينية والدنيوية وعلى دفع جميع المضار الدينية والدنيوية قدرة لا يقدر أحد سواه على دفعها عنه .
2-1 الاستنباط
     كيف يتحقق هذا العلم بعجز العبد و قدرة المعبود على سد هذا العجز ؟ يتحقق ذلك بالبحث في  الخصائص الاقتضائية للكلمة و لتعالقها مع بقية الكلمات الأخرى.و الاقتضاء كما حدده أبو حامد الغزالي في المستصفى من علم الأصول" هو الذي لا يدل عليه اللفظ و لا يكون منطوقا به، و لكن يكون من ضرورات اللفظ إما من حيث لا يمكن كون المتكلم  صادقا إلا به ، أو من حيث يمتنع وجود الملفوظ شرعا إلا به أو من حيث يمتنع ثبوته عقلا إلا به ." فعجز العبد أمام الفعل الشيطاني و قدرة الله على التحصين لا تدل عليها أي لفظ من ألفاظ الاستعاذة و لكن أن أستعيذ بالله و ألتجئ إليه يفيد اقتضاء العجز عن مواجهة الشيطان من جهة لأنه لا يستجير و لا يلتجئ إلى الحماية إلا عاجز عن تحصين نفسه، و من جهة ثانية لا يتم الالتجاء إلا لمن هو قادر على سد العجز و على الحماية من الشيطان الرجيم .
     يتولد عن حصول العلم تولد سبب بنتيجة حصول حالة في القلب انكسار وتواضع ، يعبر عنه بالتضرع إلى الله و الخضوع له. و ينتج عن ذلك حصول صفتين إحداهما قلبية و الثاني لسانية، فالقلبية أن يصير العبد راغبا في أن يصونه الله عز وجل عن الآفات و يخصه بإفاضة الخيرات و الحسنات. و أما الصفة اللسانية فأن يصير العبد طالبا لهذا المعنى بلسانه من الله تعالى وذلك الطلب هو الاستعاذة "أعوذ بالله "
    يستنبط الرازي من هذا الرأي أن الركن الأعظم في الاستعاذة  هو العلم بالله  والعلم بالنفس  وفي غياب هذه المعرفة تكون الاستعاذة عبثا ، فثبت بما ذكر أن العبد ما لم يعرف عزة الألوهية و ذلة العبودية  لا يصح منه أن يقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم  .
و قد أكد الرازي هذا الرأي المستنبط بتحليل منطقي رتبت فيه الأدلة الحجاجية وفق سلم حجاجي منطقي متماسك منطلقا من مبادء حجاجية ومسلمات متفق عليها، فإذا اطمأن إليها القارئ انتقل إلى درجة أخرى من السلم الحجاجي ليستنبط من خلال الأدلة كلها نتيجة وجوب الاستعاذة .يتبين ذلك من خلال قوله:
     أن اللذات الحاصلة في هذه الحياة العاجلة قسمان : أحدهما: اللذات الحسية والثاني: اللذات الخيالية وهي لذة الرياسة. وفي كل واحد من هذين القسمين، الإنسان إذا لم يمكن أن يمارس تحصيل تلك اللذات ولم يزاولها لم يكن له شعور بها، وإذا كان عديم الشعور بها كان قليل الرغبة فيها. ثم إذا مارسها ووقف عليها التذ بها. وإذا حصل الالتذاذ بها قويت رغبته فيها، وكلما اجتهد الإنسان حتى وصل إلى مقام آخر في تحصيل اللذات والطيبات وصل في شدة الرغبة وقوة الحرص إلى مقام آخر أعلى مما كان قبل ذلك . فالحاصل أن الإنسان كلما كان أكثر فوزا بالمطالب، كان أعظم حرصا وأشد رغبة في تحصيل الزائد عليها. وإذا كان لا نهاية لمراتب الكمالات، فكذلك لا نهاية لدرجات الحرص. وكما أنه لا يمكن تحصيل الكمالات التي لا نهاية لها، فكذلك لا يمكن إزالة ألم الشوق والحرص عن القلب. فثبت أن هذا مرض لا قدرة للعبد على علاجه. ووجب الرجوع فيه إلى الرحيم الكريم الناصر لعباده فيقال : " {أعوذ بالله من الشيطان الرجيم} " .
   فهو ينطلق من مسلمة عجز العبد عن التحكم في  شهواته، فيستنتج أنه مرض لا قدرة للعبد على علاجه ، فيستنبط من هذين المسلمتين ضرورة الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم.
       2-2 الاستقراء  : بالإضافة إلى الاستنباط ،يوظف الرازي الاستقراء، وهو: إثبات حكم في جزئي لثبوته في الكلي على وجه الاستغراق أو العكس حسب نوع الاستقراء أكان تاما أم ناقصا . »  و يتجسد في النموذج الآتي الذي يثبت فيه الرازي عجز الانسان في علمه، و حاجته إلى الاستعاذة بالله من الزلل في التأويل و العلم غير النافع يقول  :
يقول : كم رأينا من الأكياس المحققين بقوا في شبهة واحدة طول عمرهم ولم يعرفوا الجواب عنها بل أصروا عليها وظنوها علما يقينيا وبرهانا جليا. ثم بعد انقضاء أعمارهم جاء بعدهم من تنبه لوجه الغلط فيها وأظهر للناس وجه فسادها. ثم أضاف مستقرئا:  وإذا جاز ذلك على بعض الناس جاز على الكل مثله.
فالمقدمة المسلم به التي تحتاج إلى استدلال: الإنسان أحوج إلى الاستعاذة حتى لا يتبع عقيدة فاسدة .
استقراء التاريخ : كثير من الأكياس المحققين بقوا في شبهة واحدة ... و ظنوها علما يقينيا وبرهانا جليا ثم جاء بعدهم من تنبه لوجه الغلط فيها و أظهر للناس وجه فسادها .
نتيجة الاستقراء : إذا جاز ذلك على بعض الناس جاز على الكل مثله.
2. 3 : الجدل : وظف  الرازي الجدل لإظهار العقائد الفاسدة . ومن بين هذه الآراء رأي القدرية والجبرية . وهما الرأيان المتطرفان الذي صار الأشاعرة وسطا بينهما .
    وبما أنهما رأيان متطرفان فالواحد منهما يلغي الأخر ،فأورد إبطال المعتزلة (القدريين) لرأي الجبريين في الاستعاذة.ثم تفرغ لإبطال رأي المعتزلة .
جاء في التفسير الكبير : قالت المعتزلة : قوله : ( أعوذ بالله ) يبطل القول بالجبر من وجوه : - الأول : أن قوله : {أعوذ بالله} اعتراف بكون العبد فاعلا لتلك الاستعاذة. ولو كان خالق الأعمال هو الله تعالى لامتنع  كون العبد فاعلا لأن تحصيل الحاصل محال. وأيضا فإذا خلقه الله في العبد امتنع دفعه، وإذا لم يخلقه الله فيه امتنع تحصيله. فثبت أن قوله: ( أعوذ بالله ) اعتراف بكون العبد موجد الأفعال نفسه .
     والثاني : أن الاستعاذة إنما تحسن من الله تعالى إذا لم يكن الله تعالى خالقا للأمور التي منها يستعاذ، أما إذا كان الفاعل لها هو الله تعالى امتنع أن يستعاذ بالله منها، لأن على هذا التقدير يصير كأن العبد استعاذ بالله من الله في عين ما يفعله الله .
     والثالث : أن الاستعاذة بالله من المعاصي تدل على أن العبد غير راض بها، ولو كانت المعاصي تحصل بتخليق الله تعالى وقضائه وحكمه وجب على العبد كونه راضيا بها؛ لما ثبت بالإجماع أن الرضا بقضاء الله واجب.
    والرابع : أن الاستعاذة بالله من الشيطان إنما تعقل وتحسن، لو كانت تلك الوسوسة فعلا للشيطان. أما إذا كانت فعلا لله ولم يكن للشيطان في وجودها أثر البتة فكيف يستعاذ من شر الشيطان بل الواجب أن يستعاذ على هذا التقدير من شر الله تعالى لأنه لا شر إلا من قبله .
       الخامس: أن الشيطان يقول : إذا كنت ما فعلت شيئا أصلا وأنت يا إله الخلق علمت صدور الوسوسة عني ولا قدرة لي على مخالفة قدرتك وحكمت بها علي، ولا قدر لي على مخالفة حكمك ثم قلت : " {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} " [ البقرة : 286 ] وقلت : " {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} " [ البقرة : 185 ] وقلت : " {وما جعل عليكم في الدين من حرج} " [ الحج : 78 ] فمع هذه الأعذار الظاهرة والأسباب القوية كيف يجوز في حكمتك ورحمتك أن تذمني وتلعنني؟ السادس : جعلتني مرجوما ملعونا بسبب جرم صدر مني أو لا بسبب جرم صدر مني ؟ فإن كان الأول ؛ فقد بطل الجبر وإن كان الثاني ؛ فهذا محض الظلم وأنت قلت : {وما الله يريد ظلما للعباد} [ غافر : 31 ] فكيف يليق هذا بك؟
     ويتبع الرازي الخطوات نفسها لإبطال رأي القدريين، وذلك لإثبات رأي الأشاعرة ، يقول:
.ثم قال أهل السنة والجماعة : قوله : " {أعوذ بالله من الشيطان الرجيم} " يبطل القول بالقدر من وجوه.
    الأول : أن المطلوب من قولك : " {أعوذ بالله من الشيطان الرجيم} " إما أن يكون هو أن يمنع الله الشيطان من عمل الوسوسة منعا بالنهي والتحذير أو على سبيل القهر والجبر. أما الأول فقد فعله، ولما فعله كان طلبه من الله محالا ؛ لأن تحصيل الحاصل محال. وأما الثاني فهو غير جائز ؛ لأن الإلجاء ينافي كون الشياطين مكلفين وقد ثبت كونهم مكلفين. أجابت المعتزلة عنه فقالوا : المطلوب بالاستعاذة فعل الألطاف التي تدعو المكلف إلى فعل الحسن وترك القبيح. لا يقال : فتلك الألطاف فعل الله بأسرها فما الفائدة في الطلب ؛ لأنا نقول : إن من الألطاف ما لا يحسن فعله إلا عند هذا الدعاء فلو لم يتقدم هذا الدعاء لم يحسن فعله أجاب أهل السنة عن هذا السؤال : بأن فعل تلك الألطاف إما أن يكون له أثر في ترجيح جانب الفعل على جانب الترك أو لا أثر فيه. فإن كان الأول فعند حصول الترجيح يصير الفعل واجب الوقوع (...). فحينئذ يلزم أن يحصل عند رجحان جانب الوجود رجحان جانب العدم وهو جمع بين النقيضين وهو محال. فثبت أن عند حصول الرجحان يحصل الوجوب. وذلك يبطل القول بالاعتزال وأما إن لم يحصل بحسب فعل تلك الألطاف رجحان طرف الوجود لم يكن لفعلها البتة أثر فيكون فعلها عبثا محضا وذلك في حق الله تعالى محال .
   الوجه الثاني : أن يقال: إن الله تعالى إما أن يكون مريدا لصلاح حال العبد أو لا يكون فإن كان الحق هو الأول، فالشيطان إما أن يتوقع منه إفساد العبد أو لا يتوقع. فإن توقع منه إفساد العبد مع أن الله تعالى مريد إصلاح حال العبد، فلم خلقه ولم سلطه على العبد ؟ وأما إن كان لا يتوقع من الشيطان إفساد العبد فأي حاجة للعبد إلى الاستعاذة منه ؟ وأما إذا قيل : إن الله تعالى لا يريد ما هو صلاح حال العبد فالاستعاذة بالله كيف تفيد الاعتصام من شر الشيطان .
      الوجه الثالث : أن الشيطان إما أن يكون مجبورا على فعل الشر أو يكون قادرا على فعل الشر والخير معا فإن كان الأول فقد أجبره الله على الشر وذلك يقدح في قولهم : إنه تعالى لا يريد إلا الصلاح والخير وإن كان الثاني - وهو أنه قادر على فعل الشر والخير - ؛ فهنا يمتنع أن يترجح فعل الخير على فعل الشر إلا بمرجح وذلك المرجح يكون من الله تعالى وإذا كان كذلك فأي فائدة في الاستعاذة ؟
     الوجه الرابع : هب أن البشر إنما وقعوا في المعاصي بسبب وسوسة الشيطان فالشيطان كيف وقع في المعاصي؟ فإن قلنا إنه وقع فيها بوسوسة شيطان آخر لزم التسلسل وإن قلنا : وقع الشيطان في المعاصي لا لأجل شيطان آخر فلم لا يجوز مثله في البشر ؟ وعلى هذا التقدير ؛ فلا فائدة في الاستعاذة من الشيطان وإن قلنا : إنه تعالى سلط الشيطان على البشر ولم يسلط على الشيطان شيطانا آخر ؛ فهذا حيف على البشر وتخصيص له بمزيد الثقل والإضرار وذلك ينافي كون الإله ريحما ناصرا لعباده .
الوجه الخامس : أن الفعل المستعاذ منه إن كان معلوم الوقوع ؛ فهو واجب الوقوع فلا فائدة في الاستعاذة منه وإن كان غير معلوم الوقوع كان ممتنع الوقوع ؛ فلا فائدة في الاستعاذة منه .
واعلم أن هذه المناظرة تدل على أنه لا حقيقة لقوله : {أعوذ بالله} إلا أن ينكشف للعبد أن الكل من الله وبالله وحاصل الكلام فيه ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم : أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بعفوك من غضبك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك .
3- مفتاح النقل :
3-1 الخطاب القرآني : الخطاب القرآني حجة جاهزة لا ترد، لذا عدت آياته و أحكامه مفتاحا من مفاتيح الغيب.فهو إلى جانب النصوص النقلية الموازية الأخرى ( السنة النبوية و الأخبار )دليل تقريري على صحة تفسير نحوي أو بلاغي أو عقلي منطقي . يقول مستدلا على حجية وجوب الاستعاذة :" في تقرير ما ذكرناه قوله تعالى " {إياك نعبد وإياك نستعين} " وقوله : " {واستعينوا بالصبر والصلاة} [ البقرة : 45 ] وقول موسى لقومه : " {استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين} " [ الأعراف : 128 ]
    واعلم أن قوله {أعوذ بالله} أمر منه لعباده أن يقولوا ذلك وهذا غير مختص بشخص معين فهو أمر على سبيل العموم؛ لأنه تعالى حكى ذلك عن الأنبياء والأولياء. وذلك يدل على أن كل مخلوق يجب أن يكون مستعيذا بالله فالأول : أنه تعالى حكى عن نوح عليه السلام أنه قال : " {رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم} " [ هود : 47 ] فعند هذا أعطاه الله خلعتين : السلام والبركات وهو قوله تعالى : " {قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك} " [ هود : 48 ] وقد أورد الرازي عددا كبيرا من الآيات التي تثبت وجوب الاستعاذة .
3-2 السنة النبوية : وتأتي في المرتبة الثانية بعد الخطاب القرآني لتؤدي أيضا وظيفة تقريرية إذ تكسب التفسير العقلي المنطقي مشروعية ، وتمنحه طابعا إقناعيا بوصفه دعما نقليا لما توصل إليه العقل عبر آليات الاستدلال. ومن أمثلته في تفسير الرازي:
    عن معاذ بن جبل قال : استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم وأغرقا فيه : فقال عليه السلام : إني لأعلم كلمة لو قالاها لذهب عنهما ذلك وهي قوله " {أعوذ بالله من الشيطان الرجيم} " ويضيف الرازي :وأقول هذا المعنى مقرر في العقل من وجوه : الأول : أن الإنسان يعلم أن علمه بمصالح هذا العالم ومفاسده قليل جدا. وأنه إنما يمكنه أن يعرف ذلك القليل بمدد العقل. وعند الغضب يزول العقل، فكل ما يفعله ويقوله لم يكن على روى .
   وعن معقل بن يسار رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من قال حين يصبح ثلاث مرات أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر ؛ وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي. فإن مات في ذلك اليوم مات شهيدا ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة .
قلت : وتقريره من جانب العقل أن قوله : {أعوذ بالله} مشاهدة لكمال عجز النفس وغاية قصورها والآيات الثلاث من آخر سورة الحشر مشاهدة لكمال الله وجلاله وعظمته وكمال الحال في مقام العبودية لا يحصل إلا بهذين المقامين .الخبر الثالث : روى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من استعاذ في اليوم عشر مرات وكل الله تعالى به ملكا يذود عنه الشيطان .
     قلت : والسبب فيه أنه لما قال {أعوذ بالله} وعرف معناه عرف منه نقصان قدرته ونقصان علمه وإذا عرف ذلك من نفسه لم يلتفت إلى ما تأمره به النفس ولم يقدم على الأعمال التي تدعوه نفسه إليها والشيطان الأكبر هو النفس. فثبت أن قراءة هذه الكلمة تذود الشيطان عن الإنسان
المبادئ الحجاجية : اعتمد الرازي مجموعة من مسلمات الاستنتاج المنطقي كمبادئ حجاجية تدعم حجاجية خطابه سواء تعلق الأمر بالمفتاح اللغوي أو المفتاح الاستدلالي المنطقي من بين هذه المسلمات:
                                    
  - ثبت في العلوم العقلية أن معرفة النوع ممتنع حصولها إلا بعد معرفة الجنس لأن الجنس جزء من ماهية النوع والعلم بالبسيط مقدم على العلم بالمركب
ترك الظاهر في موضع الدليل لا يوجب تركه في سائر المواضع لغير دليل .
الجمع بين النقيضين محال
تحصيل الحاصل محال
السلم الحجاجي : ما يميز تفسير الرازي أيضا هو ترتيبه لهذه المفاتيح ترتيبا مقصودا سار عليه في تفسيره ، هذا الترتيب بمثابة سلم برهاني حجاجي .
   يبدأ أولا بالمفتاح اللغوي يتبعه بالاستدلال العقلي المنطقي ثم الخطاب القرآني و السنة النبوية اللذين يعدان  بمثابة تقرير لما ورد في الاستدلال المنطقي . وهو ترتيب له قيمته الحجاجية.
  أولا : إن الخلاف العقدي ليس خلافا بين مسلم وغير مسلم ، وإنما خلاف بين الفرق الإسلامية ، وكلها تعتمد الخطاب القرآني والسنة النبوية حجة ، فكان من الطبيعي اعتماد الحجة العقلية المنطقية المبنية على الاستقراء والاستنباط المدعومة بالمفتاح اللغوي وتقريرها بالخطاب القرآني و الحديث النبوي .

    ثانيا إن قيمة الكتاب بالقياس إلى عصره في براهينه العقلية  المنطقية لا في نقل ما ورد في كتاب الله وسنة نبيه مما قام به من سبقه من الفقهاء و المفسرين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق