كلمة احتفاء
السيدات
الفضليات، السادة الأفاضل، يسعد كليةَ اللغة العربية و المركزَ الجهوي لمهن التربية و التكوين أن يحتفيا معكم، في هذا المكان الثقافي الجميل بأخينا و زميلنا وأستاذنا محمد
زوهير. نحتفي به احتفاء خاصا يختلف عن طبيعة
الاحتفاءات التي ألفناها في الكثير من المناسبات، نحتفي بمحمد زوهير الإنسان أولا ،الإنسان المتلبس بإنسانيته في حلمه ويقظته، نحتفي بالأستاذ الذي كان وما يزال منذ ما يزيد عن أربعة عقود يتعهد بالرعاية
أجيالا من أبناء هذا الوطن الأمين في رحلتهم الطويلة من العتمة إلى الضوء، نحتفي بالمبدع الذي أبى إلا أن يسترجع الأصوات التي افتقدها طفلا فشابا
و هو يلهث وراء أضواء صناعية استهوته أنوارها، و أغراه لمعانها، ولمّا تبين
حقيقتها، واكتشف زيفها، ترددت الأصوات الطبيعية بين جوانحه تبث نداء الحياة، فأحس
بدفء حنانها، فكان الحنين إليها، حيث نبع الماء الصافي، و الأشجار الوارفة الظلال.
وكان النداء الذي تردد صداه في دواخلنا، يحثنا على كتابة قصيدة مائية الحلم، مائية
الخيال. يحثنا على أن نترك أثرا على الأرض حتى لا تكون حياتنا غثيانا في غثيان،
يحثنا على أن نصغي لصوت الحياة الذي يرحل بنا بعيدا عن عالم اليأس و الموت و
الخراب، وأن نصغي لأصواتنا الداخلية التي تؤمن وما زالت أن الإنسان هو الحياة. و
ما أجمل وما أروع أن يكون نداء الحياة صوتَ امرأة. فالمرأة كما الأرض حاضنة الحياة.
لقد
سافرت الحياة بحمد زوهير عبر دبدبات الزمن و رحلت به بين أوصال محطات عدة، وبين
محطة الأمس ومحطة اليوم، صادفته و أنا أتهجى حروف الأدب في بداية الثمانينيات، و
أتلمس طريقي بخطوات وئيدة نحو آفاقه الواسعة، مفتشا بين المكتبات عن كتب نوعية
تختلف عن الثقافة التقليدية التي تعج بها سوق النقد العربية، فأمدني أحد أصدقائي
ممن يتابعون تكوينهم بالمركز التربوي الجهوي بمراكش بدروس حول شعرية أبي تمام
لأستاذ التحق بالمركز حديثا، تختلف عما هو مألوف في الكتب المتداولة آنذاك. لم يكن
هذا الأستاذ سوى محمد زوهير الباحث الشاب الذي شد صوته عقول طلبته، وعقول
من لهم بهم صلة من طلبة كلية الآداب والعلوم الإنسانية.
وبعد
عودتي إلى مراكش في أواخر الثمانينيات أستاذا مساعدا بكلية اللغة العربية أدركت من
خلال لقاءاتنا القليلة المنبعَ الأصيل لتلك الثقافة النوعية التي تشربتها في سنوات
الإجازة وفتحت ذهني على آفاق أدبية أوسع وأرحب.
و لما فتحت وحدة أسئلة الإبداع في الشعر العربي اكتشفت في المحتفى به - إلى جانب الباحث
الموسوعي المدقق والمجدد في الدرس الأدبي العربي -الإنسان الملتزم و المنضبط في
عمله، فعلى الرغم من اشتغاله في القسم ما يزيد عن أربعة عقود من الزمن ما تأخر
يوما عن وقته، ولا خرج قبل وقته، ولا تغيب عن درسه إلا اضطرارا . فأدركت أنني أمام
رجل يملك من الإرادة ومن العزيمة ما لا يملكه العديد من أبناء جيله ولا أبناء الأجيال
التي أتت بعده . أدركت أن صوته ونداءه لم يكن مجرد لعبة استهواه تَرددُ صداها هنا
وهناك، لكنه نداء حقيقي من قائد قافلة
يعشق الرحيل الطويل الأمد.
ولعل من أسعد لحظاتي حتى اليوم هي تلك اللحظات
التي أقضيها مع السي محمد زوهير أنصت باهتمام إلى صدى ندائه في زاوية ما من زوايا هذه المدينة العامرة .
ومهما يكن حديثنا عن الأشخاص فلن يكون إلا صورة باهتة عن علاقتنا الشخصية بهم،
وهي صورة لا تعكس حقيقة الشخص في كل الأحوال وفي مختلف المقامات.
لكن عندما ندخل عالمه الإبداعي ندرك حقيقته من خلال العلاقات التي تربط الشخصيات
ببعضها في هدوئها وحميميتها وتوترها
وانفعالاتها وغضبها. فزوهير الإنسان حاضر وبقوة في إبداعه يقيم شبكة
من العلاقات تعكس حقيقته التي لا يمكن أن
تخفى على القارئ النبيه.
إن ما يميز إبداع محمد
زوهير هو صدوره عن تجربة إنسانية متميزة وعميقة،
بل يمكن اعتبار إبداعاته مسارا لتجربة تختزل
حياته طفلا وشابا ورجل تعليم وأستاذا ومبدعا، بدءا مما نقش في ذهن زوهير الطفل من علاقات
إنسانية حميمية تربط أفراد الأسر المغربية المتعايشة في البيت الواحد في قصة شرفة
على الماء و انتهاء بتلك العلاقات الإنسانية التي تربط الراوي بالأصوات
المحيطة به في قصة الرديفان مرورا بالعلاقات الإنسانية الراقية بين الراوي
وصفية في قصة أصوات لم أسمعها و، بين الراوي و إلهام في تنازع وبين
سعيد الفرحان ومنى في وليمة والعلاقات الإنسانية العابرة التي تترك أثرا في
النفس لا تمحوه السنون في في قصة السفر...إلخ
كل هذه القيم متشابكة ومتداخلة تعكس بعدا إنسانيا جميلا تشربه زوهير
الإنسان الذي يعيش بيننا اليوم بلحمه ودمه وساهم في تكوين شخصيته الحقيقية.
هذه الشخصية اليوم تعيش على هول المفارقة بين قيم الأمس بعفويتها و حميميتها و
أصالتها وقيم اليوم الفردانية التي تكرس العزلة
و الوحدة والرتابة و اليأس، فتناسلت الأسئلة "...قل لي بربك ، هل تبقى الذكرى بلسما أم جرحا ؟
عزاءً أم غصةً تتواطأ على تفتيت العمر؟ قل لي بربك أي جاذبية سحرية للاحليمة تشدني
إليها بآصرة محبة لطيفة، فتجعل الطفل الذي كنته قريبا منها في اليقظة و في الحلم ،
يجب أن يراها في كل لحظة ، ويقضي أجمل أوقاته قريبا منها، يلعب مع سعيد أو يستمع
إلى أهازيجها العذبة حين يخرج الزوجان، وينتظر بشوق غامض المشاعر، أن تلد له
عروسته كما ولدت أمه عروسة لسعيد."
إن هذا الإحساس الجميل
الذي عاشه الطفل محسن بالأمس ويسترجعه الراوي يختزل كل القيم الإنسانية التي صرنا
نفتقدها اليوم لننغمس في رتابة لا تخفف منها إلا استرجاع الماضي بقيمه الأصيلة النبيلة
التي تظل متقدة في دواخلنا على الرغم من أنف الزمن العنيد. و كلما فترت بسبب ضغط
الواقع إلا أججتها الذكرى فعادت إلى طبيعتها الأولى وكأنها مازالت أحداثها تجري
بين أعيننا.
" لو أمكنني أن أستعيد الزمن الذي
انفلت من زمني ، لأحضرت لكِ ما طلبتِ ، ولأضفتُ إليه باقةَ ورد ، وكلمةَ اعتذار
رقيقة ...ولكن الذي مضى قد مضى ...فكل اعتذاراتي الآن ليست سوى كتابة على صفحة
الريح ."
زهير هنا بين هذه الأسطر و بين كل أسطر إبداعاته متلبسا بإنسانيته كما قال
أحمد طليمات ذات يوم وصوته يردد مع الشاعر الأصوات التي ما زال صداها يقرع سمعه.
و إني لتعروني لذكراك هزة كما انتفض العصفور بلله القطر
ترى هل نكتفي بالعيش على حنين الماضي وحنانه، أم نستسلم للأصوات اليائسة
التي تدفعنا إلى الانتحار لنتخلص من يأسنا. أم نصغي لنداء الحياة ؟ يجيبنا محمد
زوهير بلغة حكماء الساحة التي تميز مراكش و التي يلتقي فيها الغرباء القادمون من
كل أنحاء العالم. أتخيله الآن في حلقة من حلقاتها يعلن نداءه الأخير: " ليس صدفة أن نلتقي أيها المغترب اغتراب ندائي ...نحن
صنوان لو أمكنك الإصغاء إلى صوتك في صوتي ... إلى أناك في أناي ... نحن قرينان لو
أدركت أن في كتلة الثلج جذوةَ نار.
أناديك بشغف القلب و شهوته اللاهبة و لا أكف عن النداء. فاختر موعدك
الموشوم في زمننا الغائب لنمد جسر الوصل إلى نهر لا نسبح فيه مرتين. سمه عشقا، سمه حياة سمه موعدا عند شجرة أو على ضفة بحر ...
سمه نشيدا بأجنحة زرقاء ، سمه ما شئت فمداه يفيض عن فيض الأسماء.
لطي المسافات كان السفر، وكانت غريزة المشي وكانت اللؤلؤة في أعماق البحر تعشق
مغامرة الغواص، فلتتدفق أيها الماء، فلتتدفق مسكونا بذاكرة المواعيد الخضراء ...
بعنفوان الحياة بنداءاتها المترعة بالنداء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق