يتكلم الشعر الحديث لغة لا يحكمها عمود شعر. يبدو قصرا حليبيا في صحراء قاحلة. تتولد لدينا رغبة ملحة في دخوله لنتفيأ ظله، فيحتم ذلك اكتشاف مدخل من مداخله المتعددة، وامتلاك مفاتيحه النقدية، إذ لا يرشح إلا بمقدار ما نطرح عليه من أسئلة. وبقدر ما يكون القارئ محترفا في طرح الأسئلة بقدر ما ينضح النص بما فيه.
ترى كيف
نتعامل مع النص الذي بين أيدينا " خطوط الفراشات" ؟ هل نملك من
الحرفية ، ومن الذوق والطبع ما يؤهلنا للجلوس في محرابه، والإنصات إليه ومحاورته،
حتى إذا لان و استأنس، راودناه عن نفسه ؟
لدينا مؤشرات تسمح لنا باختيار هذا الديوان لمقاربته، أهمها أن لجنة إبداعية، نحسن
الظن بذوقها اختارته وفضلته على نصوص أخرى منافسة ،
فنال شرف التتويج.
"خطوط
الفراشات" كتاب قدمه الطابع للقارئ على أنه ديوان شعر، لشاعر شاب لم يكمل بعد العقد الثالث من عمره . شاعر من شعراء الألفية الثالثة، ينتمي إلى جيل
له لغته الخاصة و أسلوبه في الكتابة والتعبير، ومفهومه للشعر الذي يختلف - شئنا
أم أبينا - عن مفاهيم الأجيال السابقة. لنسم هذا الجيل جيل
العصر الرقمي، أو لنسمه جيل الألفية الثالثة، أو ليكن جيل الفايسبوك. هذا
الجيل يكتب ما يشاء متى شاء، وباللغة و
الأسلوب الذي يشاء بلا رقيب ولا حسيب.
فقد تخلص من إرث أبيه الستيني و السبعيني، و اختار أن يكون عشب ماء. وعلى الرغم
من أن الكثير من شعراء ونقاد القرن الماضي يرون في نصوصه الشعرية موتا للشعر الأصيل، وظلوا يحنون بحسرة وحرقة إلى
الزمن الجميل الذي سموه زمن الكبار،- مع العلم أن لكل عصر كباره - ، فأكاد
أجزم أن هذا الجيل استطاع أن يكتب شيئا مختلفا، وأن يبدع نصا مختلفا .
لنستمع إلى
هذا الجيل يتكلم. بعض كلامه فعل في شوارع العواصم العربية، وبعضه شعر. وليكن بعض
هذا الشعر:" خطوط فراشات"
رسمها محمد العناز ابن مدينة القصر الكبير، على صفحات أمكنة محددة تحتضنها
ذاكرة تبوح كلما نظرت في المرآة . تأمل هذه
الأمكنة يسمح بتصنيفها إلى:
1- مكان الذكرى : تَطُّفْتْ بلدة الشاعر الأولى ، ليست مكانا جغرافيا جميلا
يمكن لأي كان أن يراه كما يراه الشاعر ، وإنما هي ذكريات تتوزع بين دروبها وجنباتها، وعلاقات
حميمية بين أشياء متعددة مبثوثة بين ثنايا هذا الفضاء، يستعيدها الشاعر ليس كأحداث
يحكيها أو ينقلها إلى القارئ ، وصور تشاهد، وإنما كذاكرة تستعاد ، لتعاش من جديد .
المحاريث العتيقة،،
الدوالي القديمة،،
أشجار العنب،،
جنبات الأكواخ،،
مجاري المياه،،
الحظيرة المكتئبة ،،
القنب الهندي ..
تعرفني..
الطواحين
تذكر ما زرعت يداي
ليس الشاعر من يتذكر فحسب ، بل الأشياء الجامدة أيضا. فالمحاريث العتيقة و الدوالي القديمة وأشجار العنب وجنبات الأكواخ .... تعرف الذات الشاعرة، و الطواحين تذكر ما زرعت يداها، مما يضفي على هذه الأشياء
بعدا إنسانيا عميقا، ويسم المكان بالألفة و الحميمية و الأمان.
و لإيمان الشاعر بعتبة الديوان ، " كل مكان لا يؤنث لا يعول عليه
" يرى في المكان أمّاً يعود إليها بعد طول اغتراب، فيقيم معها حوارا يشبه ذلك الحوار الذي يجري بين الابن وأمه
حينما يكبر ويعود إليها قادرا على أن يمنحها الكثير. تذكره الأم ، فيعود هو حاملا الأمل ، باحثا عن الدفء، منصتا للآهات.
المطر الغزير ،،
يهطل
كلما عدت إليك .
المطر رمز البعث والحياة والأمل ، وبغيابه تصير الأرض
وما فوقها من حياة مواتا. يعود المطر إلى الأرض كعودة الابن إلى الأم ، فتحيا
الأرض كما يعشوشب الأمل في قلب الأم. ويأبى الشاعر إلا أن تكون عودته متميزة ، فكل
الزوار كفصول السنة يحلون ويرحلون، مما
يجعل رحلتهم رحلة آلية روتينية يمارس عليها الزمن فعل المحو والنسيان.
أما الشاعر، فهو الابن البار التي يقيم حوارا خاصا مع الأم
، لايمحو الزمن ذكرياتها من ذاكرته ،ورائحة نبات الطريق لا تفارق أنفه، بل وحده
ينصت لآهاتها ومعاناتها ، ووحده دون غيره
يبوح بالحب.
الطريق إليك
رصعته الشمس
وعشاق النشوة
يزورونك
ككل الفصول...
و أنا الابن البار
لهضابك،
أذكرك ورائحة
النبات الطري
تداعبني...
من ينصت للآهات غيري
بمداد أليف
أبوح لك بحبي..
إن العلاقة بين الشاعر و بين مكان الطفولة علاقة ثابتة
لا تتغير ، المكان هو هو بأشيائه وتفاصيله ، والشاعر يعود حاملا ماضيه بكل دفئه و
حرارته ، إنها عودة الطائر إلى عشه.
2 – مكان الاغتراب: على خلاف هذا المكان الأمومي
الطفولي الذي حافظ على نقائه وصفائه و ذاكرته، يفقد القصر الكبير بوصفه مكانا
أليفا ثانيا في قصيدة "القصر
الكبير" ، ألَقَه وذاكرته، فتعيش
الذات الشاعرة اغترابها، وترى فيه تصحرا - بعدما كان نبع ماء الوجه- تتغير
تفاصيل الأشياء لتصير وجوها شاحبة و أشجارا مكتئبة وورودا مزيفة. ترفض الذات الشاعرة الواقع المزيف وتحن إلى
أحواض النعناع وبدر الليالي الدافئة .
القصر الكبير ،
المدينة التي ينبع منها
ماء وجهي..
بملامح دمشقية،،
أو أندلسية ،،
أصابها التصحر.
و الوجوه المسنة ،،
لا ترفع عينيها
عن الأرض المشقوقة،،
و بقايا العشب الملعون،،
و أقدام الغزاة،،
و الفتاة الجبلية
في بيت الجد
تراقب تغير ألوان الجدران
فيما الأشجار مكتئبة
لفقدانها رائحة المسك
وتمار التوت.
و إذا كانت
الذات الشاعرة في" تطفت" جزءا لا ينفصل عن المكان الأمومي بكل أشيائه
وتفاصيله ، فإنها في القصر الكبير - الذي تغير بفعل الغزاة - ليس لها إلا الرحيل ،
بعدما لم يبق من الذاكرة إلا الرماد ، ولم يبق من أحواض النعناع و الليالي
الدافئة إلا نزيف ذكريات ، ترحل حاملة
آهاتها وجراحاتها واغترابها إلى قلب
مارتيل .
سأعلم الغزاة
الفرق الشاسع
بين اخضرار
أحواض النعناع
وبريق الورود المزيفة،،
و سأظل مخلصا
لبدر الليالي الدافئة
و القمر الأحمر
و أغنية راحلة.
لي ذاكرة الرماد
و للقصر الكبير
نزيف الذكريات.
..............
..............
صرخات الغريب
تدوّي...
بين حقائب السفر،،
و آهات الجراح الغائرة
تنزف
بين الطرقات
الملتوية
المؤدية إلى قلب مارتيل.
3- مكان
الحلم : مارتيل مكان آخر تقيم معه الذات الشاعرة علاقة من نوع خاص ،فإذا كانت
تطفت مكان الذكرى و القصر الكبير مكان الاغتراب ، فإن مارتيل مكان الحلم ، و العشق، والاقتراب من ظل شجرة
اللوتس و الفراشات البهية .... تتعدد الأمكنة و الأشياء، وتتعدد معها العلاقات
و الرؤى :
- شاطئ البحر بصخبه، حيث
السفن الغريبة و البحارة المكتئبين و الكرسي الذي يقاوم صدأ الماء و انتظار سحب
الخريف ...
يضفي الشاعر على المكان إحساساته و انفعالاته ، فصخب
البحر ليس سوى صورة لصخب القلب ،وقوة البحر من قوة القلب ، و انسياب الماء كانسياب
الحلم، وفي نهاية القصيدة ينتصر هذا القلب والحب على المكان ، فالأمواج عاتية و
الجسد هناك مع الجثت التي تكسر سطوة الزرقة لكن الرغبة في العودة أقوى إلى طنجة
الحب وبداية المطر.
- مقهى الريو وملتقى الأسر حيث الأحاسيس تعبر دون
وسيط ، حيث الأمل والشوق يبدد ظلمة الغياب ..
مرتيل الغجرية
لا تحب أحدا غيري
لأن لون عيوني
يغري كل النساء
غير أني
لا أميل إلا إليك
بمقهى الريو
أو بملتقى الأسر
و أهم ما يميز هذا المكان ، هو فعل الانتظار ، انتظار
سحب الخريف و انتظار الوصال ، انتظار الحلم الذي لا ينطفئ بريقه .
بنية الزمن
يتوزع الزمن في ديوان خطوط الفراشات
زمنين زمن الذكرى وزمن الحلم يفصل بينهما حاضر يتسم بالانتظار.
الزمن الأول زمن جميل يرتبط بمكانين أموميين أثنين هما تطفت
و القصر الكبير .في تطفت يتميز الزمن بالألفة و
البوح والحب و المداعبة و التذكر وهطول المطر . يتحول فيه المكان إلى أنثى أم و
الشاعر إلى ابن بار .
وفي قصيدة القصر الكبير ، يرفض الشاعر
الحاضر المزيف ويحن إلى زمن اخضرار أحواض النعناع ، زمن الليالي الدافئة المقمرة ، زمن القمر
الأحمر وراحلة .
إن زمن الذكرى زمن أمومي. يتذكر الشاعر
عمق الوصال بينه و بين المكان الأنثى الأم.
الزمن الثاني زمن الحلم ، يتوزع هذا الزمن جل
القصائد. هو زمن العودة، وزمن الهفو، و الشوق، و إشراقة الشمس، و الحنين ،و إيراق الزهور ،و سحب الخريف، و بداية المد، و انسياب الحلم و الحياة، و بداية المطر ،و الحب ، و العشق
المستحيل، و زهرة اللوتس، و الوصال، و تبدد ظلمة الغياب، و ألوان الليل، و الحياة إلى الأبد ،و تفتح زهور القلب، و
الألحان الرفيعة ،و انكشاف أسرار الحالمين.
يتبين من هذه الصفات أنها صفات أكثر
كميا من صفات الذكرى مما يبين أن الحلم يهيمن ويطغى على زمن الذكرى. و هو زمن يرتبط
بمكونات أنثوية يربطها بالذات الشاعرة علاقة عشق. يحلم الشاعر بانتهائها إلى الوصال
مع المعشوقة الوحيدة التي لا تميل الذات
لغيرها. فهل عوض الشاعر حب الأمومة المرتبط بالطفولة والذي أصبح مجرد ذكرى بحب أنثى أخرى نسميها المعشوقة .
بين زمن الذكرى الذي يملكه الشاعر
ويحتويه ،وبين زمن الحلم الجميل الذي لم يتحقق بعد ، يعيش الشاعر لحظة انتظار. تتكرر
هذه الكلمة في صيغ متعددة : أنتظر
سحب الخريف / القلب ينتظر بداية المد / وأنا في أعلى الهضبة أنتظر ـ أنا والكرسي
سننتظر / تنتظر لمسة / كؤوس المرارة
أتجرعها وحدي منتظرا /
إن هذا الانتظار يتصف بخاصيتين : الألم والأمل ، الألم يتجسد في تجرع كاس المرارة، و الأمل
يتجسد في إشعال قناديل الشوق، وجعل الإيقاع جسرا بين الذات وموضوعها، و بين الذات
والعالم . هذه الذات التي لا ترى سببا للدمعة المالحة و التجاعيد ....
في زمن الانتظار يهيمن الأمل المصحوب بالألم على اليأس الذي
لا مكان له في قاموس الشاعر ، لذا نجده يشعل قناديل الشوق لتبديد ظلمة الغياب
منتظرا تجدد الوصال على إيقاع همسات قيتارة غجرية .
سأشعل قناديل
الشوق
بالقرب من منازل ،
تطل على بحر
يبدد
ألوان الليل
وظلمة الغياب
إن الذات الشاعرة بوصفها ذاتا شابة تعيش عقدها
الثالث ، تعيش حالة انتظار تحقيق حلمها الخاص كما عاشت الأجيال السابقة حلمها المأمول ، وثبت فيما بعد أنه حلم كاذب . و الفرق بين الحلمين ، أن حلم
الجيل السابق كان حلما سياسيا جماعيا بعيد التحقق ، أما حلم الجيل الجديد فهو حلم فرداني
شخصاني قابل للتحقق على أرض الواقع .
يتبع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق