الخميس، 27 ديسمبر 2012

رسالة إرم لأحمد بوزفور


   أستسمح أستاذنا الجليل  القاص المبدع أحمد بوزفور  - أطال الله عمره ، ومتعه بالصحة والعافية - في نشر هذه الكلمة الإبداعية التي حبرها بمناسبة تكريم أستاذنا الجليل الناقد ادريس ناقوري- حفظه الله، ومتعه بالصحة والعافية- بكلية الآداب عين الشق جامعة الحسن الثاني .      
        أخي العزيز الأستاذ إدريس نقوري، أخصب الله عقله و لسانه، و نصب أعماله معالم للهدى و منارات للمعرفة و مناهل لضوال الحكمة ترتوي منها الأجيال.
       أما بعد، فقد كنت نائما ليلة الواحد و العشرين من آذار، فرأيت في المنام حلما غريبا أفزعُ في تأويله إليك سيدي، فقد عودْتَني أن تكون حاضرا عند الفزع غائبا عند الطمع، ناقعا لغلة السؤال، محيطا بسعة المدلول على غموض الدال. فقد أُريت كأنا ـ سيدي إدريس و أنا ـ مسافران في صحراء، راجلين وحيدين كنا، و بدون زاد و لا ماء. بلى, كنت أعرف أن مع الأستاذ قربة ماء، و كنت واثقا من أنه سيتقاسمها معي، بل و قد يوثرني بها عند الضرورة. فأنا أعرف أنه من أحفاد كعب بن مامة، و العرق نضاح. كلا، لم يكن الماء يشغلني، بل القافلة، إذ كنت أحس بأنا أضعنا القافلة التي نسافر فيها.

     الشمس شمس أصيل، لطيفة الضوء و الحرارة، كأنما نحن مقمران. و لكن المعالم غائبة: لا جمل في المدى و لا شخص في الأفق. و الريح الحنون أو القاسية  قد محت الخطوات و سوت الاختلافات، و صنعت من الرمل زرد.( أيُّ درع لقتال لو جمدْ) ، أو هكذا قال الشاعر. أم تراها شاعرة؟ والصمت! يحتاج هذا الصمت الصحراوي إلى ناي.
                   ( و النااااااي, على الشط غنى و القدود).
     لا قدود و لا شط و لا ناي. ليس إلا الصمت و الضوء المقمر و الشساعة و الأفق الواعد المتواطئ معك و عليك في نفس الوقت.
     فجأة، و قبل أن نفكر في الاستنباح، نبت أمامنا قصر: سور أبيض حليبي، لا باب فيه و لا نافذة، و من ورائه تبدو القباب و الأسطح الملونة و رؤوس الأشجار. هو قصر فعلا أم هي خيالات الصحراء؟ ( هل صنع الوهم من الرمل إرم؟) و لكن سيدي الأستاذ يدق على ما لعله توهمه بابا، و ينادي، كأنما يعرف السكان. و ها هو الباب يفتح، و الحراس المتجهمون يخرجون و يحيطون بنا، و يسوقوننا بالإشارة إلى داخل القصر: دهليز معتم تخفق في جوانبه شعلات قنادل غير مرئية. أرضه من الحجارة، و طوله لا نهاية له كما يبدو، فقد ظللنا نسير فيه زمنا على إيقاع قرقعة حديد الحراس و وقع أحديتهم المعدنية على الحجر الصلد. ثم انفتح الدهليز المعتم عن قاعة فسيحة مضاءة بآلاف الثريات، خيل إلي، و غاصة بالناس. هل هؤلاء ناس؟ كائنات لطيفة خفيفة ناعمة كأنما جبلت من أثير أو فطرت من نور، تتحرك في الهواء دون أن تخطو كالفراشات، و في الجو موسيقى خفيفة خافتة كخفق أجنحة الملائكة، و في قلب القاعة تجلس على سريرها الملكة. لا بد أنها الملكة هذه التي أوقفنا الحراس أمامها و تراجعوا. أشارت الملكة إلى سيدي الأستاذ بالجلوس على كرسي و حيد بجانبها. لم تنظر إلي و لم تشر. و لا مقعد آخر في الجوار... فبقيت واقفا.
     أشارت الملكة إلى شخص خلفها في الكواليس،  فتقدم و وقف في مواجهة سيدي الأستاذ الجالس، و أخذ يقرأ من صحيفة في يده دون استهلال كأنما يتابع قراءة سابقة قطعت:
   (...سلم المسلمون من لسانه و يده، و انتفع الناس من علمه و خلقه، لم يحقد على أحد و لم يكره أحدا، و لم يخرجه عن طوره الهادئ الحكيم أحد. وسع صدره الموافق و المخالف، و سما قدره عن مزالق الهوى و نزوات الغرض. كان من عقله الواسع في مكتبة, و من روحه الورعة في محراب, و من نفسه السمحة و حلمه الغامر و أدبه الجم في بحيرة دهاق لا ضفاف لها و لا قرار....)و ظل يقرأ ويعد مزايا سيدي الأستاذ، و الملكة تسمع و تنبسط أساريرها...حتى  إذا انتهى من قراءة الصحيفة، التفتت الملكة هاشة باشة إلى الأستاذ و قالت له :نعمت بك إرم.
      و فيما هي تأخذ بيده و تتهيأ له, و أعوانها من حولها يهمّون بالمغادرة...صحت: و أنا؟! فالتفتت الملكة كالمفاجأة و هي تسأل: و من هذا الزَّوْل؟ قلت أنا فلان الفلاني من سكان العين الحمئة خلال القرن الخامس عشر لهجرة الرسول محمد عليه السلام. قالت الملكة: فماذا تقول صحيفته؟ قال القارئ و هو ينظر في سجل كبير بين يديه:
       سجلك صفر من المكرمات. فما لك في إرم من مقام! قلت: بلى, قد كانت لي مكرمة أيام الحداثة: كنت أستاذا للأدب العربي, و كنت أدرس الشعر الجاهلي, و أطلع الطلبة على أسرار العربية .قال القارئ بمرأى و مسمع من الملكة و أعوانها, و سيدي الأستاذ واقف ينظر و ينتظر: لنر حظك من هذه المكرمة و خبرتك بأسرار العربية. خبرنا يا أستاذ العربية عن (إرم) هذه, هل هي من أصل عربي أو أعجمي؟و إذا كانت عربية,فهل هي من الأرومة بمعنى الأصل, و تجمع على أروم كما قال زهير:
     لهم في الذاهبين أروم صدق   و كان لكل ذي  حسب أروم
أو هي من الأرام: حجارة تنصب في المفازة يهتدى بها.أو هي من قولهم:( ما بها إرم) أي أحد كما قال المرقش:       
    أمست خلاء بعد سكانها          مقفرة ما إن بها إرم
أو هي من الأُرّم, بمعنى الأضراس أو الأنياب. ومنها قولهم :)يحرق عليه الأرم)أي يحك أضراسه ببعضها من الغيظ. و إذا كانت أعجمية غير مصروفة للعلمية و العجمة, فهل عجمتها مغرقة في القدم قبل وضع العربية؟ و قبل عاد و تمود, كما قال ابن الرقيات:   
     مجدا تليدا بناه أوله       أدرك عادا و قبلها إرما.
أو هي عجمة محدثة من عجم ما بعد إسماعبل؟ و هل علميتها علمية شخص إذ يقال إن إرم شخص, و إنه إرم بن سام بن نوح عليه السلام, أو هي علمية أمة, فتكون إرم هي عاد أو إحدى قبائل عاد؟ أو هي علمية مكان, إذ يقال: إن إرم هي مدينة شداد بن عاد بتيه (أبين) بصحارى عدن؟ أو هي بلاد عاد, و يدل عليه قراءة ابن الزبير: (ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم) على الإضافة. أو هي مدينة متنقلة كما يقال, فكانت باليمن زمنا, ثم بالشام, ثم ارتحلت إلى بلاد المغرب لتحقق الأمر الإلهي بالكينونة ، فهي تراوح بين منطقة الكاف في المغرب الأدنى و بين واد نون في المغرب الأقصى؟ ثم خبرنا عن (إرم) هذه, هل هي على وزن (فعل) أو على وزن (إفل) أو على وزن(إفع) أو على وزن (إعل)؟ و على الأوزان الثلاثة الأخيرة, ما هو الحرف المحذوف؟ و لم حذف؟ و هل هي مفرد فيجمع على أرام و أروم ك(ضلع) التي تجمع على أضلاع و ضلوع؟ و ما الفرق حينئذ بين أرام جمع إرم و أرام جمع ريم, أي غزال؟ أو أن إرم جمع كحِكم و نِعم, مفرده إرمة. و ما هي الإرْمة؟ إذ لم نسمعها في مروياتهم, إلا أن تكون الميم في لهجتكم بدلا من الباء, فيكون أصلها الإرْبة, بمعنى الدهاء و الحيلة. و على هذا ما المانع من أن تكون الميم عندكم بدلا من الباء في كلمات أخر, فتقولون مثلا( وافق شن طمقة)و (الصيف ضيعت اللمن). و قل لي: كيف تصغر إرم؟ و كيف تصوغ منها فعل التفضيل؟  و كيف تتعجب بها؟ و كيف تناديها؟  و كيف تنسب إليها؟ و كيف تقول لو  أدخلتها في الإتباع على غرار (حسن بسن), و (شيطان ليطان)؟ و لو لثغت بها, فأي اللثغات أحلى:)إلم) أو(إيم) أو(إغم)؟
   و إذا كان من السهل أن تقفي بها الطويل و الكامل و البسيط, فكيف تقفي بها الوافر و المتقارب و الرمل؟و لو عجزنا مطلع مفضلية المرقش:  
   هل بالديار لأن تجيب صمم        لو كان رسم ناطقا كلم
فقلنا:
 هل بالديار أن تجيب صمم         إذ سألت عيناي أين إرم
فكيف تقفي بإرم مطلع مفضليته الأخرى:   
 هل تعرف الدار عفا رسمها       إلا الأثفي و مبنى الخيم؟
    و إذا كان لكل أمة إرمها, فما هي آرام العجم و الروم؟ و ما هي آرام الأحباش و المغول و بني الأصفر؟ و ما الفرق بين إرم الفلاسفة و إرم الصوفية و إرم القصاصين و إرم الشعراء؟و إذا كانت إرم العرب هي ما وراء البحر في أوربا, و إرم الأوربيين هي ما وراء البحر في أمريكا, و إرم الأمريكيين هي بلاد العرب و ثرواتها, فكيف تفسر هذه الحلقة المفرغة من الآرام التي يعكس بعضها بعضا, و يفضي بعضها إلى بعض؟ و هل للجن آرام كما للإنس آرام؟ و إن كانت, فهل بناها سليمان أو كانت قبل سليمان؟ و ما علاقة بلقيس بها؟ و هل كان الذي عنده علم من الكتاب إرميا؟ و ما الذي يعنيه الحارث بن حلزة حين جعل عمرو بن هند إرميا في قوله في المعلقة:           
   إرمي بمثله جالت الجــــن        فأبت لخصمها الأجلاء؟
و خبرنا عن قول عدي بن أمية الضبي في فرسه ( العرن):
   ليت شعري و ليت أهلكت إرما     هل يجزيني بما أبليت العَرَن
كيف أهلكت ليت إرما؟ و كيف تستحيل الأمنية منية؟
   وظل القارئ يخوض في هذا و أمثاله حتي بعلت بأمري, و اختلط عجري ببجري, و دخل حيصي في بيصي, و خماسي في سداسي في أحادي, و نيطت لييلتي بالتنادي. و لقد وددت لو ابتلعتني الأرض فغُرت مع مائها الغور, أو حلقت بي في عنان السماء عنقاء مغرب, أو أدرك شهرزادي الصباح, أو دقت الساعة و نفخ إسرافيل في الصور. حتى إذا سكت القارئ و أغلق السجل و ساد الصمت, و أدركت أنني على شفا العودة إلى الصحراء, صحت:
     " لكن لي مكرمة أخرى هي مكرمة المكرمات, و لا يستطيع هذا القارئ المغرّق أن ينكرها أو أن ينتقدها أو أن يغمطني حقي فيها. قالت الملكة: و ما هي؟ قلت: هي أني صاحب الأستاذ إدريس. و لقد عرفته منذ قرابة أربعين عاما, لم يكدر صداقتنا مكدر, و لا شابتها شائبة و بل كانت تزداد على الأيام قوة و عمقا, و تصفو و تشف, و تسمو فوق ما قد نختلف فيه, حتى لكأننا الكميت و الطرماح اللذان تقول الحكايات إن صداقتهما ظلت قوية حتى ماتا بالرغم من خارجية هذا و شيعية ذاك. و صاحبي هذا الذي تحتفون به اليوم هو شفيعي لديكم فاسألوه! فالتفتت الملكة و أعوانها جميعا إلى سيدي الأستاذ, فابتسم و هو يقول لا فض فوه: أنا لا أخلع صاحبي. ولقد قالهاـ عطر الله لسانه ـ بلهجة صافية بريئة قد خلت من مكر عمرو, و تحلت بتقوى ابي موسى. أما القوم, فقد ابتسموا لي....و اما أنا, فأية خلعة خلعها علي سيدي الأستاذ. لكأني ساعتها كعب يختال في البردة, أو أيوب يرفل في الصحة, أو إبراهيم يرتعش ثم بعد الأمر الأعظم ينتعش وسط النار. و هزتني الأريحية فقلت مرتجلا:
 لئن عدم الناس الشفيع لديكم ** فإن شفيعي ـ صانه الله ـ إدريس
 دخلت ومثل الصفر تعتبرونني** فقام معي, فأصبحت نقطتي ديسُ
فانبرى القارئ المغرق لي مستنكرا: و ما ديس داستك الفيلة؟ و ما النقطة ها هنا؟ ثم ما هذا الكلام؟ هل تخلط العربي بالسرياني؟
    و قبل أن أجيبه, دقت طبول الملكة ، فانتبهت من المنام.
إدريس أيها الصّدّيق, افتنا في حلم إرم هذا, فما نحن بتاويل الأحلام بعالمين. و ما تفسيره على رجل مثلك/ له في كل علم سهم, و له في هذا الحلم بالذات دور/ بعزيز.
            حفظ الله سيدي الأستاذ, و حفظ به العلم و الحكمة و الأدب و الأخلاق, و أسعده و أسعد به محبيه, متعني الله بصحبتهم, و حشرني في زمرتهم.
            و السلام عليكم و رحمة الله.           
                                       أحمد بوزفور

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق