مقال ألقي في لقاء تكريم الدكتور عباس ارحيلة
بمؤسسة البشير بمراكش
لما دعيت إلى هذا اللقاء، توزعني رأيان رأي يدعوني لعدم المشاركة لأن اهتمامتي في مجال النقد القديم التي يعد محور اهتمامات أستاذنا السي عباس لا تتجاوز المعرفة المشتركة العامة. ورأي يلح علي بالمشاركة لأن ما يجمعني بأخي وزميلي و أستاذي أولا و أخيرا لا يسمح لي بالغياب في مثل هذا اللقاء الذي أحيي منظميه ، فإذا كان لجامعتنا هدف الاعتراف بالجميل ، فتعليمنا مازال بخير . و لكن الإخوة في النادي الأدبي أجبروني على المشاركة بعد أن أدرجوا اسمي في هذه الجلسة بلا موضوع وحسنا فعلوا فرجعت إلى موقع الزميل السي عباس أتصفحه كعادتي كل ليلة، فأثارت انتباهي موضوعات عدة تتقاطع في ما بينها لتنقل إلى القارئ تصورا متكاملا للمعرفة ووظيفتها في هذا الوجود . فقررت أن أتناول هذا الموضوع من خلال مقال أساس ومقالات محيطة . المقال الأساس مشاركة في ندوة علمية بجامعة ابن زهر بأكادير عنونها ذ عباس ب
يختزل هذا العنوان حكما قيميا حول النقد الحديث الذي يدخل في صلب اهتماماتي هو التضخم النظري إلى حد التخمة و الفقر في التطبيق إلى حد الكساح . يتساءل الأستاذ عباس ارحيلة في هذا المقال بعد وصفه لحالة النقد الحديث في تعامله مع النص الشعري عن خلفيات هذا التفاوت المهول بين التنظير النقدي و التطبيق النصي ليخلص إلى مجموعة من الأسباب اختزلها في سبب رئيس هو المفارقة المهولة بين الثقافة العربية و بين النظريات الغربية المستعارة. و تتجلى المفارقة في استعارة مناهج ومفاهيم غير منسجمة مع مقاساتنا. فالعيب ليس في المناهج ذاتها بدليل أنها كانت إجرائية في ثقافتها الأصلية التي أنتجت فيها وساهمت في إنتاج معرفة بالنصوص التي قاربتها في تلك الثقافة ، كما أن العيب ليس في نصوصنا الإبداعية قديمها وحديثها بدليل أنها قوربت ذوقيا وفهمت و أطربت. و إنما العيب كل العيب في تفاوت المقاييس بين النص الثقافي العربي و المناهج الغربية .
فالنظريات المستوردة وليدة مجتمع و ثقافة تختلف جذريا عن مجتمعنا وثقافتنا و معضلاتنا و أسئلتنا الحارقة مما أحدث تفاوتا كبيرا بين ما يطرحه المجتمع من أسئلة و ما يقدمه النقد الحديث و الثقافة الحديثة من أجوبة .
ـ لقد عبرت هذه النظريات عن أزمات الإنسان الغربي الذي تولدت عن المجتمع الصناعي كالاغتراب والقلق واليأس و المعضلات الكيانية الوجودية كالموت وما بعد الموت ، فنقلنا هذه المعضلات إلينا ونظرنا إليها نظرة غير صادقة وغير نابعة من إحساساتنا ومعاناتنا، كما نظرنا إلى مدننا نظرة الغربيين إلى مدنهم كباريس ولندن وفيينا و برلين و شيكاكو مع فارق بينهما ... ورأينا أرضنا البكر الحبلى بالعطاء أرضا يبابا أو خرابا و بذلك فالأزمة التي عبر عنها الشعراء ليست أزمتنا و لا القضايا قضايانا .
ـ القفز على المراحل و اللهث وراء ما استحدث من نظريات ومناهج غربية ، فما إن يظهر منهج جديد في الغرب حتى نتسابق إلى استيراده ، وقبل أن يستوعب ويفهم ويسري بين الناس ، نعلن عن تجاوزه و استيراد ما هو أحدث منه ، فتتولد عقدة نقص عند الذين يتلقون، وعقدة تفوق عند من يستورد . وكان من نتائج ذلك تيه في سوق النقد الدولي ونحن لا نملك منه شيئا .
السؤال المطروح ما الحل إذن ؟. هل نهجر هذه المناهج بدعوى عدم صلاحيتها ؟ إذا كان الأمر كذلك ماهو البديل في غياب تطوير مناهج عربية معاصرة قادرة على مواكبة تطور النص الشعري المعاصر . إذا أردنا أن نتكلم بلغة النقد الحديث فإن إبداع النص و قراءته ليست تمارين تطبيقية ميكانيكية و آلية يكفي أن نمتلك آلة و أداة لنفككها، وإنما هي عملية معقدة مرتبطة بهمومنا و معاناتنا و أسئلتنا المقلقة. وما لم يكن هناك وعي بهذه المعاناة وهذه الأسئلة فإن النص لن يبدع و النقد لن يحلل. سؤالنا المطروح على هامش مقال عباس ارحيلةإذن: ماذا نريد من النقد الأدبي اليوم؟ وما علاقة هذا الذي نريده بحياتنا و همومنا و حاجياتنا و ظروفنا السياسية و التاريخية و الاجتماعية ؟
في ثقافتناالقديمة، كان الإبداع والنقد مرتبطين بالتقرب إلى الله عز وجل ، فقد أورد عباس ارحيلة نصا تراثيا جميلا يعكس وظيفة البلاغة يقول هذا النص :
تجرَّأ حفص بن سالم (6)، وهو شاب من أهل الاعتزال، على عمرو بن عبيد( 144هـ) (7)، وهو من كبار الزهاد فسأله:
« ما البلاغة ؟ قال: "ما بلغ بك الجنة، وعدَل بك عن النار، وما بصَّرَك مواقع رُشدك وعواقِب غيِّك.
قال السائل: ليس هذا أريد.
ـ قال : من لم يُحسن أن يسكُت لم يُحسن أن يستمع، ومن لم يُحسن الاستماع لم يُحسن القول.
ـ قال: ليس هذا أريد.
ـ قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنّا معشرَ الأنبياءُ بِكاء» أي قليلو الكلام (...).
ـ قال السائل: ليس هذا أريد.
ـ قال: كانوا يخافون من فتنة القول، ومن سقطات الكلام، ما لايخافون من فتنة السكوت، ومن سقطات الصمت.
ـ قال السائل: ليس هذا أريد.
ـ قال عمرو: فكأنك إنما تريد تَخَيُّرَ (تحبير) اللفظ في حُسن الإفهام،
ـ قال: نعم.
ـ قال: إنك إن أُوتيتَ تقريرَ حجة الله في عقول المكلَّفين، وتخفيفَ المؤونة على المستمعين وتزيينَ تلك المعاني في قلوب المريدين، بالألفاظ المستحسَنة في الآذان، المقبولةِ عند الأذهان؛ رغبةً في سرعة استجابتهم، ونفيِ الشواغل عن قلوبهم بالموعظة الحسنة، على الكتاب والسنة؛ كنتَ قد أوتيتَ فصلَ الخطاب واستوجبتَ على الله جزيل الثواب» (8).
يفهم عباس ارحيلة من هذا القول ضرورة ترجمة القول إلى عمل . فنحن نبدع ونحلل ونكتب نقوم بعمل خالص لوجه الله. لنشر فضيلة أو الإقلاع عن رذيلة. وكان من مقاييس النقد المقياس الأخلاقي .
في مرحلة الأربعينيات وحتى السبعينات وبداية الثمانينات كان النقد واجهة من واجهات النضال و خدمة الأمة و الإيمان بالقدرة على التغيير . فكان الشاعر أو الناقد يجتمع له ما يجتمع لمغنية من الدرجة الفاتنة ، لأن للأدب قيمته النضالية و للنقد قيمته المعرفية أما اليوم فوظيفة النقد ووظيفة الإبداع مبهمة ملتبسة مؤدلجة ، فلا غرو أن يختلط الحابل بالنابل ولا غرو أن يكون لباسنا لباس المهرجين الذين يلبسون على غير مقاساتهم كل ما تبادر إلى أذهانهم .
لقد كان الأدب الحديث في الغرب وليد فلسفات معاصرة متعددة تكونت نتيجة تطور المجتمع الغربي فعبرت عن أسئلة الغرب و هموم مدنه الكبرى كبرلين وفيينا ونيويورك و باريز ،،، لكن لما انفتحنا على هذه الآداب الغربية و فلسفتها ، استعرناها كما استعرنا التقنية لنبدو أننا معاصرين لكن المشكلة أن هذه الفلسفات و أسئلتها بعيدة كل البعد عن همومنا و اهتماماتنا و أسئلتنا التي تقلقنا، والقارئ بطبيعته لا يهتم بالأسئلة غير المقلقة بالنسبة إليه، فظهرت آدابنا و مناهجنا معرفة محايدة لا تهم المجتمع في شيء .
فكيف نتحدث عن حداثة تمردية ضد العقيدة في مجتمع أساسه وقوته في عقيدته. إن مثقفينا لا يمثلون المجتمع العربي المسلم ولا نخبنا السياسية تحمل أوزار همومنا . فكان الفشل في الأدب كما في السياسة .
لقد نتج عن كل ذلك أزمة قراءة ، ونتج عن أزمة القراءة أزمة إبداع وتحول الغموض إلى غاية في ذاته، وتحول النص إلى كلام لا يقرأه إلا صاحبه ولا يفك طلاسمه حتى نقاده ، فنجدهم يتحدثون عن الشكل ومظاهر التمرد في غياب أي رسالة يحملها النص و بذلك انفصل القول عن العمل ، وعندما ينفصل هذان الفعلان يصبح النقد لعبة أكثر منه ثقافة جادة يمكن أن يكون لها دور في المجتمع .
إن دعوة عباس ارحيلة إلى التراث ليست دعوة سلفية تقليدية اجترارية ، وإنما دعوة إلى النهج السليم الذي استطعنا به أن نطور أنفسنا، و الذي يمكن اختزاله في طرح أسئلة دقيقة على النقد قبل ممارسته ماذا نريد من النقد وكيف نربط بينه وبين قضايانا وأسئلتنا و همومنا.
عندما تطرح الأسئلة وتتحدد الأهداف ، نعرف أي المناهج أصلح لنا ، وأيها قادر على الإجابة عن أسئلتنا وتخدم وحدتنا وقيم عقيدتنا ، وما دون ذلك قد يصلح لغيرنا لكنه بالتأكيد لن يكون ذا قيمة مضافة عندنا .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق