الأربعاء، 8 يونيو 2011

قراءة في قصيدةالخمارة للمرحوم أحمد المجاطي



قصيدة الخمارة



تفتح الكأس أقباءها
تتواتر فيها النعوت
تتنكر في ثوب عاشقة
تنثر الورد من شرفات البيوت .

حين أخلو بها بعد منتصف الليل
ترشق في الخصلة المستريحة
زنبقة .
تفتح الصدر لي و الشوارع
تضحك من وجهيَ المستدير
قليلا.
تبادلني قبلة
آه ، خدها بارد حين أوغل في البعد.
وامتد بيني وبين الزجاجة صوت المؤذن
إن العمائم تنبت كالفطر
مثل النجوم على كتف الجنرالات
والسجون التى تملأ الرحب
بين الرباط وصنعاء
مثل الجسور التى نسفت
خط بارليف
أين الطريق إلى جبل الشيخ؟
نكشت تحت حاجبها
أشعلت للزبون المعلب سيجارة
هكذا يتغير طعم النبيذ المعتق
تعبر سبتة بين اللفافة والتبغ
تسقط بيني وبين الزبون المعلب
أغنية
آه ....
تتناثر أجنحة اللحن
تأخذ شكل الوجوه التي تتوهج
حول الموائد :
ـ هل تأكلين قليلا من اللوز
ـ عيناك ثرثارثان
ـ عرفتك قبل اجتياز الجمارك
سبتة
ـ كانت محاورتي تعشق الرقص
تنزع من جرحها بسمة
وتغني
ليحتمي اللحن بالذاكره
إن نصف الزجاجة يكفي
إذا أقفل البَارُ أبوابه
و انتهينا إلى ردهة المد والجزر
و الصبوة العاثره
تخلع الكأس أسماءها
تتواثر فيها النعوث
تتنكر في ثوب زنزانة
تنثر الورد من شرفات البيوت


1- الخمارة في مرآة النقد 
    نشرت هذه القصيدة ضمن مجموعة السقوط من ديوان الفروسية التي يقول عنها الناقد السوري المرحوم محي الدين صبحي: إن قصائد هذه المجموعة تقوم على توتر شديد بين الذل الذي تحياه المدن العربية وبين عشق الشاعر لها. العشق يمنح القصائد دفقة عاطفية غامرة، أما المشاهد الموضوعية المعروضة بشكل تقريري فتمنح أجواء القصيدة صلابة، وتملأ مضمونها بمحسوسية معيشة، مما يجعل المكان العربي يحدد الزمان العربي الرديء بخلاف ما عليه الحال في قصائد بقية الشعراء المعاصرين. و هذا كله يدفعني إلى لمس ناحية من نواحي التجديد تمكن المجاطي من إدخالها على الشعر العربي الحديث بصمت ودون ادعاء حداثة مزعومة، فضلا عن أن لكل قصيدة شخصية، و في كل منها بانوراما عن الحياة العربية ... مما يرخص لي بالشهادة أن قصائد المدن في مجموعة السقوط من أفضل ما في بابها في الشعر العربي الحديث .
"ويضيف في مكان آخر :إن من يقرأ قصيدة الخمارة يشعر بوضوح أن الشاعر يقصد بالخمارة الوطن العربي بأكمله : ففي هذا المقطع:
أقامت الخمارة
في باحة الجامع ركعتين شجرة
الزقوم تفرغ من صلاتها
عارية النهدين
 من قصيدة مشاهد من سقوط الحكمة في دار لقمان يكشف الشاعر عن التناقضات التي تحكم المدن العربية من الرباط حتى صنعاء ." انتهى كلام صبحي 
     إن العمل النقدي مرهون بما يثير من أسئلة. وقصيدة الخمارة نص مفتوح على قراءات متعددة، وقد نظر إليها االناقد السوري محي الدين صبحي من منظور قومي عربي، خصوصا وأن الدراسة نشرت على هامش الديوان ( الفروسية ) طبعة المجلس القومي للثقافة العربية .
    إن ما أثار انتباهي ليس تأويل الخمارة، أهي خمارة حقيقية أم وطن عربي لا فرق بينه وبين الخمارة، وإنما هو نظرة الشاعر إلى الخمارة كبنية دالة  وتطور العلاقة بين الشاعر والكأس .
       فالخمارة من منظور النص بنية دالة وفضاء مفتوح يلتقي فيه صنف من الناس يصفهم الشاعر بالتعليب، فالزبون معلب، 

                             أشعلت للزبون المعلب سيجارة

والعاشقة بقايا إنسان ينزع من جروحه بسمة لا تعكس ما بداخله،

                                كانت محاورتي تعشق الرقص
                                    تنزع من جرحها بسمة
                                              وتغني


 والذات الشاعرة ترى نفسها محاصرة بالعمائم و الجنرالات والسجون التي تملأ الرحب، فلا تجد طريقها إلى جبل الشيخ رمز الصمود والمقاومة على الجبهة السورية التي شارك فيها الجنود المغاربة في حرب 73 .
                              
                                   وامتد بيني وبين الزجاجة صوت                                                        المؤذن
                                    إن العمائم تنبت كالفطر
                                     مثل النجوم على كتف الجنرالات
                                    والسجون التى تملأ الرحب
                                    بين الرباط وصنعاء
                                    مثل الجسور التى نسفت
                                    خط بارليف

فالخمارة إذن ملجأ وفضاء للفرار من واقع مرفوض إلى بديل مرفوض  أيضا من الذات الشاعرة .
     يتبين هذا الرفض من العلاقة التي يقيمها الشاعر مع الكأس. ففي المقطع الأول عندما تفتح أقباءها، ـ والقبو المكان التي تعتق فيه الخمرة ـ . يتأمل نعوت الكأس وأوصافها ـ و هي أوصاف لا نهائية بحكم التراكم الثقافي التي يمتلكه الشاعر منذ العصر الجاهلي إلى اليوم ـ فيرى فيها عاشقة تنثر الورد من شرفات البيوت ، يختلي بها، يبادلها القبلة تلوالقبلة، يراقصها ويحاورها، تضحك من وجهه المدور قليلا. هذه النعوت التي الصقها الشاعر بالكأس بعد منتصف الليل حيث يتخلص من عبء الواقع المرفوض ليلج عالما مفترضا متخيلا ينسي الشاعر عالمه الواقعي. إلا أن هذا العالم المفترض المتخيل محصور في الزمان والمكان، المكان هو الخمارة والزمن زمن ليلي ينتهي بارتفاع صوت المؤذن الي يمتد بينها وبين الكأس  معلنا بداية النهار والعودة إلى الواقع المرفوض (العمائم تنبت كالفطر ،النجوم تتناسل على كتف الجنرالات، السجون تملأ الرحب بين الرباط وصنعاء)، فيتغير كل شيء ويتغير معه نعت الكأس، فبعد أن كانت عاشقة تنثر الورد من شرفات البيوت، خلعت كل أسمائها لتصير زنزانة. فيبحث الشاعر عن طريق ثالث يكون بديلا حقيقيا فيتساءل أين الطريق إلى جبل الشيخ.
لنتأمل المقطع الأول والمقطع الأخير من النص ،وكيف تحولت الكأس ـ بعد ما خلعت أسماءها ـ من عاشقة إلى زنزانة .المقطع الأول يقول:
تفتح الكأس أقباءها
تتواتر فيها النعوت
تتنكر في ثوب عاشقة
تنثر الورد من شرفات البيوت


المقطع الأخير


تخلع الكأس أسماءها
تتواتر فيها النعوث
تتنكر في ثوب زنزانة
تنثر الورد من شرفات البيوت

وما بين المقطعين هو مسار التحول من ثوب العاشقة إلى ثوب الزنزانة، والفاصل صوت المؤذن الذي يحدث الانتقال من المتخيل المزيف إلى الواقع البئيس.و الطريق الصحيح هو الطريق الضائع المستفهم عنه : أين الطريق إلى جبل الشيخ؟


  بنية الزمن في النص : يمكن الحديث في النص عن ثلاثة أزمنة زمن الكأس ( بعد منتصف الليل ) وزمن ربيع العمائم و السجون و نجوم الجنرالات) وزمن جبل الشيخ .
الزمن الواقعي الوحيد هو الزمن الثاني . إنه زمن نهاري

وامتد بيني وبين الزجاجة صوت المؤذن
إن العمائم تنبت كالفطر
مثل النجوم على كتف الجنرالات
والسجون التى تملأ الرحب
بين الرباط وصنعاء .
يفر منه الشاعر إلى زمن الكأس ، فيعود به صوت المؤذن  معلنا بداية الفجر، فاصلا بينه وبين الزجاجة، ليستحضر العمائم المنتشرة  في كل مكان، و السجون تمتد على امتداد الوطن العربي ( بين الرباط وصنعاء) . ولم يجد الشاعر ما يشبه به تكاثر العمائم و السجون ) سوى تكاثر الفطر  والنجوم على كتف الجنرالات . فأي علاقة تجمع بين هذه المكونات ( العمائم و السجون ونجوم الجنرالات و الفطر )إن العمائم رمز من رموز فكر سائد يكرس الزمن الواقعي المرفوض. هذا الفكر ليس بالضرورة الدين الإسلامي الحق الذي يدعو إليه الكتاب والسنة، وإنما فكر تاريخي يمارس سلطته على أرض الواقع العربي عامة قد يستغل الدين لفرض هيمنته وسلطته. والسجون مكان مغلق مقيد للحرية، حرية الفكر وحرية الجسد، و الجنرالات سلطة راعية للسجن، و الفطر نبات طفيلي بلا جذور ينبت في أي مكان. من هنا فالزمن العربي الواقعي زمن القمع والسلطة وانتفاء الحرية، لكنه في الآن نفسه زمن هش بلا جذور وقابل لأن ينتهي بسهولة .
يفر الشاعر من الزمن الواقعي المرفوض إلى زمن آخر، زمن الكأس. هو زمن ليلي، زمن يتحرر فيه  من واقعه، ليعيش متخيله وحريته في إطلاقيتهما. ينسى العمائم والسجون والفطر، فيقيم علاقة عاطفية عاشقة مع الكأس .
  
تفتح الكأس أقباءها
تتواتر فيها النعوت
تتنكر في ثوب عاشقة
تنثر الورد من شرفات البيوت .
حين أخلو بها بعد منتصف الليل
ترشق في الخصلة المستريحة
زنبقة .
تفتح الصدر لي و الشوارع
تضحك من وجهيَ المستدير
قليلا.
تبادلني قبلة
آه ، خدها بارد حين أوغل في البعد.
    تتواتر النعوت في الكأس حينما تفتح أقباءها، فيختارالشاعر نعت العاشقة ، يخلو بها ليلا يبادلها الحوار، تفتح له الصدر و الشوارع تبادله القبل، تضحك من وجهه المدور ... يحس نفسه حرا بلا قيود فالصدر مفتوح، والشوارع المغلقة بالجنرالات مفتوحة.
    وعلى الرغم من كل هذه الصفات الإيجابية التي صبغ بها الشاعر زمنه الليلي، يبقى زمنا مرفوضا أيضا، لأنه زمن مؤقت أولا، إذ سرعان ما تغلق الكأس أقباءها ويحيل بينهما صوت المؤذن معلنا ضرورة العودة إلى الزمن الواقعي .
      ثانيا، لأنه زمن وهمي  متخيل لن يصير واقعيا، فتتغير الصفات الإيجابية إلى صفات سلبية، بمجرد ما يتذكر الشاعر جبل الشيخ الذي صار ذاكرة . لنعد إلى  المقطع الأخير :

أشعلت للزبون المعلب سيجارة
هكذا يتغير طعم النبيذ المعتق
تعبر سبتة بين اللفافة والتبغ
تسقط بيني وبين الزبون المعلب
أغنية
آه ....
تتناثر أجنحة اللحن
تأخذ شكل الوجوه التي تتوهج
حول الموائد :
ـ هل تأكلين قليلا من اللوز
ـ عيناك ثرثارثان
ـ عرفتك قبل اجتياز الجمارك
سبتة
ـ كانت محاورتي تعشق الرقص
تنزع من جرحها بسمة
وتغني
ليحتمي اللحن بالذاكره
إن نصف الزجاجة يكفي
إذا أقفل البَارُ أبوابه
و انتهينا إلى ردهة المد والجزر
و الصبوة العاثره

تخلع الكأس أسماءها

تتواثر فيها النعوث
تتنكر في ثوب زنزانة
تنثر الورد من شرفات البيوت

فالزبون معلب، وطعم النبيذ تغير، وسبتة المحتلة  مجرد تبغ مهرب، و المحاورة الراقصة بقايا إنسان مجروح يلصق بسمة صفراء على وجهه، والصبوة عاثرة. أمام هذا الواقع المأساوي تتخلى الكأس عن نعوتها التي تواترت في مطلع القصيدة لتتنكر في ثوب زنزانة. وبذلك  يتحول الزمن الليلي المتخيل إلى واقع لا يختلف عن الزمن النهاري. سجن هناك وزنزانة هنا، جنرالات هناك وزبائن معلبة هنا ، فكر عمائم مكرس هناك  وثرثرة هنا.
      يفر الشاعر من الواقع إلى الوهمي، فلا يجد فيه ذاته ، فيبحث عن زمن ثالث غير موجود ، لكن لا بد من البحث عنه، فيلح السؤال: أين الطريق إلى جبل الشيخ ؟ يتذكر الجسور التي نسفت خط بارليف. إنه زمن الانتصار، زمن الكرامة. لكنه زمن بعيد، طريقه مغلقة نهارا بالعمائم والجنرالات و السجون، وليلا بالزبائن المعلبة.
     ليس مهما أن يتحدث الشاعر عن الخمارة أو يسقطها من حديثه  كأنها ليست جزءا من واقعنا، وفضاؤها ليس جزءا من فضائنا ، لكن المهم هو موقفه من الخمارة بوصفها بنية دالة داخل النص الشعري المجاطي .
     إن قارئ ديوان الفروسية يكتشف أن موقف الشاعر من الخمارة بوصفها واقعا هو الرفض . و البديل الوحيد ما زال سؤالا معلقا لم يعرف الشاعر الإجابة عنه بعد.






 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق