الأحد، 20 مايو 2018

مات المؤرخ .... فمن يؤرخ لوفاته.



                        
          كان الوقت صياما حينما توقف الزمن في درعة ليؤرخ لمصاب جلل تمدد معه الحزن ليغطي خضرة النخيل. انتظرنا طويلا  من ينقش على الصخور، ويسجل على سعف النخيل وفاة أحد باحثي درعة كرس حياته بحثا وتنقيبا، وجمعا وتدوينا لأحداث جسام ملأت الدنيا وشغلت الأهالي قرونا عددا. اشتغل الناس بتبادل التعازي كعادتهم على إثر كل مصاب جلل. تساءلت أين المؤرخ ليؤرخ ما وقع و ما يقع، ما قيل و ما يقال؟ قيل لي: ألا تدري ...؟  مات المؤرخ ، فانكسر القلم و جفت الدواة، ولم تعد الكتابة قيدا لما تدروه نسمات جلسات المساء.
      يا الله،... أرخ المؤرخ لتاريخ العلم و العلماء، والرجال العظماء، فمن يؤرخ لآثاره على الأرض اليوم؟ من يؤرخ لرحلاته المكوكية بين الرباط وفاس ودرعة منقبا عن بنات الحقائق، ومخبآت الصناديق من الوثائق؟ فجمع ورتب، ودون ووثق، واستنبط واستنتج، وقيد تاريخا اجتماعيا لدرعة لولاه لصار نسيا منسيا. من يؤرخ لجلساته الطويلة مع أناس يضنون بما لديهم من أوراق، فتارة يعود بوثيقة، وعشرات المرات يعود خائبا، ويذهب جهده سدى، فلا يمل ولا يكل، فيعود المرة تلو المرة حتى يظفر بمراده أو ببعض مراده.
     لقد ظل أـحمد البوزيدي  منذ وعيت أهمية العلم و المعرفة علما يرسم طريقنا، ونجما يضيء ليلنا، ومنارة من بين منارات عدة نهتدي بهديها، و عينا صافية نرتشف من مائها.
       كنت أزوره في بيته بصفرو في ثمانينيات القرن الماضي،  فأقضي عنده أياما أنهل من مكتبته الغنية بمختلف حقول المعرفة، و كان رحمه الله يحرص على أن أرافقه لزيارة علماء فاس وصفرو فيقدمني إليهم ويعرفني بهم. ويجالسني الساعات الطوال يحكي عن تاريخ درعة محللا ومناقشا.
     كان رحمه الله متأثرا برجالات الزوايا و علمائها الكبار فصار ناسكا متعبدا وهو في أوج صحته وشبابه. يحرص كل الحرص على أن يحضر صلاة الجماعة في الأوقات الخمس ويقضي بعض الوقت بعد الصلاة رافعا كفه إلى الله داعيا، ويعود إلى البيت مبتسما منشرح القلب ليجالس عائلته ويستمتع بشغب أطفاله وهم يحولون البيت إلى فضاء للعب .
     أذكر أحمد المؤرخ المهووس بالمشاركة في مختلف الندوات، فلا يترك ندوة من ندوات درعة إلا وكان أحد المشاركين فيها مؤرخا ومحللا ومدافعا شرسا عن وحدة المغرب العرقية المكونة من أعراق انصهر بعضها في بعض وكونت الإنسان المغربي الأمازيغي العروبي الإفريقي الحساني.
       فسلاما عليك أحمد يوم كنت، ويوم غبت، ويم تبعث حيا، سلاما عليك باحثا منقبا، وأستاذا مدرسا، وناسكا متعبدا.  سلاما سلاما.

    تشدني مساءات الحنين إليك، فيتولد لدي إحساس بالألفة، فقد كنت وما زلت وستظل صوتا يردد صداه تاريخ درعة المكتوب بحبر لا يمحى، و شمسا لا يلحقها الأفول ولا تفنى ، تضيء عتمة الماضي، وتؤكد أن درعة كانت  وما زالت و ستظل مركزا حضاريا غنيا بأحداثه الجسام، و رجالاته العظام، وعلمائه الكبار. ستذكرك كل زاوية زرتها، وكل حدث أرخت له، وكل وثيقة نفضت عنها الغبار، ونفخت فيها الحياة بعد عشرات السنين من الدفن في ظلمات القصب.
      سيستقبلك الفقيه الحيوني في جنة الرضوان بالأحضان بعد أن بعثته من جديد، فما كان لأحد من المثقفين و الباحثين ليَعْرِفَه، ويطّلِع على رحلته الممتعة إلى الديار المقدسة لولاك، فقد أزلتَ عنه غبار السنين، وأخرجت رحلته  إلى الضوء لتواصل رحيلها بين الناس. وهاهي اليوم تشهد على أنك أحييت نفسا كانت نسيا منسيا، ووهبتها حياة أخرى ما كانت لتحياها لولاك. وبذلك تكون كأنك أحييت الناس جميعا. فكيف يموت من ظل طيلة حياته منشغلا ببعث الحياة في الأموات...؟
     لم تمت، ولن تموت أبدا يا أحمد. ستظل حيا بكتاباتك،ستظل حيا بمحاضراتك التي ما زالت قاعات ومدرجات جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس تردد صداها، ستظل حيا في أبحاث طلبتك وهم يستشهدون بآرائك الجريئة، و سيجتهد أبناء درعة لتبقى حيا بينهم بتنظيم ندوة حول أعمالك التاريخية و الأدبية هناك في موطنك الذي لن ينسى فضلك عليه.
      ما أعظم العمة فاطمة وهي تلتحف صمتها خلف إزارها الأسود، فقد خبرت الدنيا قرنا من الزمن، ورأت العديد من الأبناء والأحفاد والرجال والشيوخ  من عائلتها يرحلون ولسانها لا يردد إلا عبارة واحدة " لله ما أعطى ولله ما أخذ" تودعك وكأنها تودع طفلا لا رجلا جاوز السبعين من عمره، ما زالت تذكر شغب طفولتك، وتفاصيل شبابك، و أملها الوحيد أن تفديك بنفسها، وأن تقف أنت مترحما على قبرها، لكن الأقدار شاءت أن تودعك وتترحم عليك وراء صمتها. ما أعظمك ياعمّهْ وما أرجح عقلك  وأنت تدفنين ابنك ولسانك لا يردد إلا ما يرضي الله . أجيبيني يا عمّهْ :
    - من أين لها كل هذا الصبر، كل هذا العقل، كل هذا الصمت ؟  
      - يا ولدي: نحن عباد الله، و لله ما أعطى و لله ما أخذ.
      - ما أعظم إيمانك بالله يا عمه.     

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق