السبت، 19 مايو 2018

قراءة في قصيدة القدس لأحمد المجاطي



                  



          يتميز ديوان الفروسية للشاعر أحمد المجاطي بوصفه ديوان شعر المدينة بامتياز. فقد أثثته مدن الدار البيضاء وسبتة والرباط و ورزازات وطنجة ووهران والقدس ودمشق وصنعاء ومكة وفاس...ولم يكن ذلك عبثا أو صدفة، فقد كانت المدينة العربية في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته فضاء للحركات الاحتجاجية الاجتماعية والسياسية التي قادها اليسار العربي الذي ينتمي إليه الشاعر ويتنفس داخله. وكانت مدينة القدس مركز الصراع العربي الإسرائيلي الحاضرة في كل هذه الاحتجاجات، منها تبدأ وإليها تنتهي. وكانت المدينة موضوع الكثير من نصوص  الشعراء  المعاصرين أمثال عبد الوهاب البياتي وصلاح عبد الصبور وعبدالمعطي حجازي ... وفي الوقت الذي كان فيه هؤلاء الشعراء الذين جاؤوا من القرية يرون في المدينة مكانا لفقدان إنسانية الإنسان وقيمه البدوية الأصيلة، كان المجاطي يرى في المدينة فضاء للتحرر والثورة. ومن قصائد هذا الديوان قصيدة القدس التي نقترج لها هذه القراءة:

رأيتك تدفنين الريح تحت عرائش العتمه
وتلتحفين صمتك خلف أعمدة الشبابيك
تصبين القبور و تشربين
فتظمأ الأحقاب
ويظمأ كل ما عتقت من سحب و من  أكواب
ظمئنا  و الردى فيك
فأين نموت ياعمه.
       أسند الشاعر مجموعة من الأفعال إلى كاف الخطاب الذي يعود على القدس هي : تدفنين- تلتحفين –  تصبين - تشربين
       وأسند فعل الظمأ إلى الأحقاب و السحب و الأكواب و الذات الشاعرة الذي يعود عليها ضمير النحن.

          يضع المجاطي القدس من خلال الأفعال المسندة إليها في مقابل الذات الجماعية وما يحيط بها من أحقاب وسحب وأكواب. فهي تدفن و تلتحف و تصب و تشرب ونحن ظمأى.
    الأفعال المسندة إلى القدس أفعال إرادية اختيارية اختارتها القدس و مارستها عن وعي وإرادة، إنها اختيار، وتنتمي إلى حقل دلالي واحد هو الحقل الجنائزي: الدفن و الْتِحاف الصمت و صب القبور، كناية عن الكثرة، والشرب من كأس الردى الإرادي. وعلى الرغم من أنها أفعال سلبية معجميا، ألا أن وضعها في مقابل الظمأ المسند إلى الذات الجماعية وما يحيط بها من أحقاب و سحب و أكواب يفرغها من سلبيتها لتصير ذات دلالة إيجابية. فالكل يظمأ إلى الموت/ الردى، لكن القدس وحدها تعرف طريقها و ترتوي منها.
    إن الموت التي يتحدث عنها الشاعر ويتساءل عن مكانها: ظمئنا والردي فيك/ فأين نموت يا عمه؟ ليست الموت المجاني القسري الذي تطارد كل كائن حي وتنهي حياته إلى أقصى درجة، وإنما الموت الاختياري الإرادي الاستشهادي من أجل هدف محدد الذي ترتوي منه القدس ويظمأ إليه الضمير الجمعي "نا" ليعيد إليه  الحياة، لذا استعار لها الشاعر معجما مائيا ما دام الماء هو مصدر الحياة وأسها. 
     تصبين القبور و تشربين فتظمأ الأحقاب 
     ويظمأ كل ما عتقت من سحب ومن أكواب
     ظمئنا و الردى فيك، 
     فأين نموت يا عمه. 
"فالصب والشرب والظمأ والتعتيق أفعال مائية، والسحب والأكواب  أدوات مائية. وبذلك يصير فعل الموت الإرادي الاختياري الاستشهادي ماء يهب الحياة للقدس، و يظمأ إليه الشاعر ومن معه بسحبه و أكوابه و أحقابه.
       إن الشاعر يعيش حياته الخاصة بماء خاص ينتج عن فعل التعتيق و السحب و الأكواب  كناية عن الخمرة .
              "ويظمأ كل ما عتقت من سحب ومن أكواب"
 لكن هذا الماء لم يهبه الحياة الذي يريد بل زاده ظمأ. ( ظمئنا ...) لذا يتساءل  عن مكان الارتواء الحقيقي : أين نموت يا عمه؟ وتوحي كلمة "عمّهْ" التي وصف بها الشاعر مدينة القدس بالتجربة و الخبرة و المعرفة والحب.
      تفرغ استعارة الماء في النص الموت من معناها العدمي لتشحنها بعكسها أي بالحياة، فماء الموت وحده يروي عطش القدس ويضمن وجودها الحي، ويفرغ الماء المعتق من دلالته الثقافية والرمزية (ماء الحياة) ليزيد الشاعر ظمأ، فيسأل سؤال الحائر الباحث عن الارتواء مما ارتوت منه القدس ( ظمئنا و الردى فيك فأين نموت يا عمه؟)
  لقد كانت تجربة الموت من التيمات الرئيسة في شعر الخمسينيات والستينيات والسبعينيات. ومن الشعراء الكبار الذين تأثر بهم أحمد المجاطي عبد الوهاب البياتي الذي واجه الموت المجاني الذي يحصد يوميا آلاف الناس بالموت من أجل الحرية. فالأول لا قيمة له، ولا قيمة للحياة قبله، لأن الإنسان لا يختاره. أما الموت من أجل الحرية، فهو اختيار وواجب وتجسيد لطريق الحرية، وتحقيق لآمال المجتمع، وتحول من إنسان عاد إلى بطل نموذجي. ( تجربتي الشعرية ص23)
      في المقطع الثاني يتحول كاف الخطاب الذي يعود على القدس من فاعل لأفعال إرادية إلى مفعول لأفعال صادرة عن فاعل موسوم بِسِمَةِ الغدر والظلم  الثعبان و لسعة العقرب، وهما معا من نفس الجنس: السم القاتل والغدر والاعتداء، يمارسان فعلهما الغادر على القدس، وقد زاد من شناعة الفعل استعارة الخنجر للثعبان، وممارسة فعل الحز على ضوء العيون الأشيب.
 تحز خناجر الثعبان ضوء عيونك الأشيب
 وتشمخ في شقوق التيه تشمخ لسعة العقرب
أيا بابا إلى الله ارتمى
   في مقابل خناجر الثعبان و لسعة العقرب، الموسومتين بالغدر والقتل والظلم وشقوق التيه المرتبطة بالعقاب الإلهي، استعار الشاعر للقدس "بابا ارتمى إلى الله" مما يعكس تبريرا للموقف الذي يتخذه  من الصراع بين القدس و مغتصبيها. فهو مع الله ومع الحق ضد خناجر الثعبان ولسعة العقرب الشامخة في شقوق التيه. لكن الموقف لم يجد وسيلة  لترجمته إلى فعل، فظل السؤال هو الفعل المهيمن المتكرر في مقاطع القصيدة :
 من أين آتيك؟
وأنت الموت أنت الموت أنت المبتغى الأصعب.
لم يكتف الشاعر بالتساؤل، فتحول إلى فاعل لأفعال متعددة في المقطع الثالث
مددت إليك فجرا من حنيني للردى
وغمست محراثي في بطن الحوت
فعلان اثنان قام بهما الشاعر: الأول داخلي يعبر عن الرغبة الدفينة في القلب وهو الحنين للردى. وهو حنين يحوله من إنسان سلبي يخاف الموت المجاني وينتظره إلى فارس يواجه قدره ومصيره بالتوجه إليه، ويُصيّر الموت الإرادي  فعلا إيجابيا يضمن الحياة، ويستخرجها من نقيضها، يشق بطن الحوت. و قد زاد من تأكيد البعث والحياة أن كانت وسيلة الشق هي المحراث تلك الآلة التي تشق الأرض لتبعث فيها الحياة.
       إن الشاعر غمس محراثه في  بطن الحوت  لأن داخله توجد الحياة المستحيلة، إشارة إلى قصة يونس عليه السلام الذي ناجى ربه في الظلمات فخرج من بطنه حيا. وقد استعار الشاعر أدوات الحياة ليحول الردى الذي يحن إليه إلى وسيلة للحياة، فقد استعار شق بطن الحوت ليخرج الحي من الميت، ووظف آلة الحرث (المحراث) الذي به تشق الأرض فينمو نبتها و زرعها (كناية عن الحياة).  
     فهناك إذن حنين داخلي وهناك فعل خارجي يترجم الحنين إلى سلوك إرادي خارجي ( غمست محراثي).
لكن هذين الفعلين لم يترجما حنين الشاعر إلى واقع، ولم ينجح  بهما إلى الوصول إلى القدس لإنقاذ ضوئها الأشيب من خناجر الثعبان ولسعة العقرب.
فأية عشوة نبضت بقلبي و أي رجاء
تفسخ في نقاء الموت
أشعل ظلمة الثابوت
فجئت إليك مدفونا
أنوء بضحكة القرصان
وبؤس الفجر في وهران
وصمت الرب أبحر في خرائب مكة أو طور سنينا
    يحن الشاعر إلى الفجر، فنبضت بقلبه عشوة، وتفسخ الرجاء في نقاء الموت، واشتعلت ظلمة التابوت.
      لقد قابل الشاعر في هذه الصور بين الموت الذي يحن إليه ويسير إليه، وهو الموت الإرادي الذي يعيد للقدس ضوءها الأشيب و يخرج الحياة من بطن الحوت و يزرع الأمل في نقاء الموت، وبين الموت المفروض عليه الذي ينتهي إلى ظلمة التابوت، فتحول الشاعر بغياب الموت الأول وهيمنة الثاني الذي عبر عنه بعشوة القلب وتفسخ الرجاء واشتعال ظلمة التابوت من فاعل إيجابي  إلى مفعول به لأفعال مارسها غيره :
فجئت إليك مدفونا
أنوء بضحكة القرصان
وبؤس الفجر في وهران
وصمت الرب أبحر في خرائب مكة أو طور سنينا.
     لقد تحول الشاعر من كائن حي يحن إلى الفجر ويغرس محراثه في بطن الحوت إلى مدفون في ظلمة التابوت، ينوء ب 
ضحكة القرصان
وبؤس الفجر في وهران
وصمت الرب في مكة وطور سنينا
      فالشاعر إذن يرجع فشله في تحقيق رغبته إلى الأفعال الممارسة في المدن العربية من المحيط إلى الخليج، يرى الأنظمة قرصانا، ويرى فجرهم بؤسا، وعلاقتهم بربهم صمتا مريبا. إلا أن الشاعر يرفض الموت، يرفض الاستسلام ويرى في القدس بديلا لكل المدن العربية.
         ويختزل واقع العالم العربي الإسلامي في خطاطة تجمع بين الدم والفجر والقدس والنعامة الربداء والليل المعتم الذي قص جوانح الخيمة.
 وتلتفتين
لا يبقى مع الدم غير فجر في نواصيك
وغير نعامة ربداء
وليل من صريف الموت قص جوانح الخيمة
تصبين القبور و تشربين
فتظمأ الصحراء

        الماء في القدس والظمأ في الصحراء. والشاعر يبحث عن الخروج من ظلمة الصحراء بحثا عن الموت والفجر في نواصي القدس فيختم القصيدة بما بدأها به ظمئنا و الردى فيك فأين نموت يا عمه. سؤال قد  يتأخر الجواب عنه، وقد يبقى بلا جواب.
   إن قصيدة القدس من القصائد المدورة التي تنتهي من حيث تبدأ مما يجعل الزمن ثابتا و السؤال واحد يتكرر دون أن يتم تجاوزه .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق