الأحد، 8 أبريل 2018

تجربة محمد بصراوي الشعرية في ديوان : قصة منسية


                                  
     


تجربة محمد بصراوي الشعرية تجربة غنية بآمالها و آلامها، يتداخل فيها الذاتي الفرداني بالوطني والقومي والإنساني. إنها معادل موضوعي لتجربة حياة شاعر عاش العقود الثلاثة الأخيرة من الألفية الثانية بآمالها العريضة الذي كان يبشر بها اليسار العربي و آلامها الناتجة عن الكبوات الوطنية والقومية المتتالية. لذا جاءت قصائد الديوان تعبيرا عن محطات من هذه الحياة في تفاعلها مع ذات الشاعر.

        يضم الديوان بين دفتيه خمس عشرة قصيدة هي : احتضار هبة وقصة منسية واعتذاريات وكبوة الفارس الحزين و الخروج من البرج و غفوة الرجل المعمد وثمرة الرجل المدنس و خدعة الجهات ورقصة الملثمين وشمال الروح و لعبة الوقت وفتى الأحلام ورحلة الشتاء وفي نفسي شيء من زرقة عينيك  ومائيات .
     تحبل هذه القصائد بآمال عريضة كانت الذات الشاعرة تحلم  بها وتترقب غدها، لكن سرعان ما انهارت وتحولت إلى آلام عميقة. فالهبة / الريح رمز إيجابي تلقح الأشجار وتدفع الشراع  وتحدث تحولا في الأرض، لكنها أسندت إليها صفة الاحتضار الذي أفقدتها كل فعل إيجابي.
  فقد بني النص من متتاليتين، المتتالية الأولى تحيل على الآمال العريضة التي ترسخت في ذهن الشاعر طفلا فشابا ينضح بالحياة :
هبة صغيرة كانت
شعرها أرسان وابل
 ورمحها غير مسنون
وقدها وريف
امتطت فرسا حرونا
ثم اختفت بين الصفا
وذاكرة الطفل الكبير 
 كانت تؤمل نفسه
ببشائر النصر المبين .
والمتتالية الثانية انهيار لهذه الآمال بفعل توالي الكبوات  فتحولت معها الريح التي تبشر ببشائر النصر المبين إلى خراب فرماد.
لم يعد للريح عقل
ولا تاريخ ميلاد
ولا أمل صغير
تريد أن تعود إلى بيتها
فتضل عن فجر قريب....
الريح تولد هبة
مجهولة
فخرابا
 ثم رمادا تسير.
    في قصة منسية هناك قصة، أي أحداث وأفعال وآثار وجود على الأرض. و قيمة القصة تكمن في تذكرها واستحضارها لتعاش من جديد، لكن الشاعر قيدها بصفة النسيان التي أضفت  عليها صفة العدم و الغياب المطلق. وبذلك تفقد القصة وجودها.كما فقدت الهبة فعلها الإيجابي.
إني نسيت قصتي
 وتوهمت بأني سعيد.
وتختتم القصيدة كما احتضار هبة بالحيرة و القلق .
فهل أغمس الآن
خبزي في ذواتي
أم أبلع رغبتي
أم أقيد خنصري
 حتى لا يميد.
      وأسوأ ما يلحق بالفارس هو كبوته و انهزامه  لذا لم يجد الشاعر أمامه سوى الاعتذار.اعتذار لكل رموز الوطن الكبير في قصيدة اعتذاريات ، اعتذار للطل الرحيم و للنهر القتيل و لشمس الكون و لأطفال بابل، ومع كل اعتذار يعدد أخطاءه وكأنه في جلسة اعتراف ليتخلص منها.
عذرا أيها الطل الرحيم
لقد جنيت
من الحقل زهرة
وقطعت
رأس سنبلة
و اعتديت  على الأفق
إني إذن لذميم.
و في قصيدة كبوة الفارس الحزين  يعتذر  لجيل الأبناء ممثلا في ولده :
سامحني يا ولدي
إني هزمت
وهذا حصاني قد جفاني
و جر عناني
فتلبدت أحلامي
وتدحرجت للهاويه.
    إن توجيه الخطاب إلى الابن إحساس من أن جيل الأب  لم يحقق ما كان يطمح في تحقيقه ليقدمه لجيل الأبناء ، فالفرس جفاه، و الرجال تخلفوا عن موكبه ليبقى وحيدا يعيش وحدته القاتلة فيصير العالم في عينيه مقيت و أيول إله الريح شاخ و لم تعد الرياح تجري بما تشتهي السفن، فكان التيه و الضياع بلا مجاذيف.
أدور حول شمس مدماة
و أرقص رقصة
التنين الذبيح
في يوم كريه
أجمل ما فيه مقيت
مطر أسود
أرض
ذات شقوق
و أسمال فرسان باليه.

       إن شعر البصراوي لم يكن وليد تجربة الألفية الثالثة، على غرار ما نجد عند الشعراء الشباب ، بل كان وليد تجربة جيل الستينيات و السبعينيات الذي تتلمذ على شعره و حمل همومه وحلم بآماله  لذا لا غرابة أن تتلون قصائد الديوان بنفس شعراء الستينيات  أمثال أحمد المجاطي و محمد الخمار الكنوني و نزار قباني و السياب و غيرهم من شعراء تلك المرحلة، الذي زاوج بين الآمال و الآلام و اكتوى بنار السقوط وحمل هموم أمة بكاملها. فالبصراوي كالمجاطي لم تعد تسعفه الكلمات
انفرط الصدر عن الشطر
و ارتج الصمت على البيت
تجوف عقم الكلمات
و انكسر عمود الكيل
ما عاد الشعر يراودني
ما عاد اللفظ يطاوع انغامي .
لقد كانت الفروسية التيمة الرئيسة في شعر الستينيات  وظلت  كذلك عند البصراوي .وكما أتبعت فروسية المجاطي بالسقوط ، وصفت عند البصراوي بالكبوة و الاعتذار.
      كما رشفت قصائد البصراوي من تجربة الستينيات و السبعينيات التي تشرب ثقافتها ، رشف أيضا من لغتها الشعرية  الغنية بإيقاعاتها الداخلية و قوافيها المركبة  وتعدد أساليبها  وصورها الشعرية الغنية برموزها الأسطورية و التاريخية و الطبيعية  و اللغوية.
   إنها تجربة حياة اختمرت واكتملت، أو لنقل إنها لحظة وقوف أمام المرآة لرؤية ما أحدثه الزمن بتوالي لياليه في الذات في بعدها الفرداني و الوطني و القومي و الإنساني .لذا جاءت مثقلة بتجارب الماضي و أساليبه مختلفة عن تجارب الأجيال الشابة التي كانت تجاربها الشعرية مواكبة لتجاربها الحياتية.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق