الأربعاء، 4 أبريل 2018

قراءة في قصيدة جنوح للشاعرة التونسية توليب محمد









كهذا الفجر
أجنح
أفر من أقبية الضجر
وأتحفز لشرايين اشتهائي.  
كهذا الفجر
  يتجلى ذهولي
  فأرحل عن ظلي
  ألاحق تدفق ضحكتك
تشف مواسم الكلمات.
أنت
مرايا المسرات...تجمعني
تقرع جرس الماء
تبسط تعويذة الشغف
تهب أسرار الرعشات
مدججا بالفتنة تأتي.
وأنا
كهذا الفجر
أجنح عني
و أرتدي جناحين إليك.
                                                توليب محمد

          تعبر قصيدة جنوح للشاعرة التونسية توليب محمد عن تجربة فريدة عاشتها الذات الشاعرة. تجربة لا تنقلها اللغة المحكية العادية، عبرت عنها القصيدة بكلمة واحدة في العنوان " جنوح" بدون وصف  يضيء عتمة التنكير الذي وسم العنوان وسمح بتعدد التأويلات الممكنة. إذ كلما أوغل العنوان في التنكير إلا وسمح بتعدد معناه.
     يفيد المعنى المعجمي لكلمة جنوح الذي يمكن اعتباره مدخلا من مداخل القراءة الميل عن المعتاد و المألوف، أي التحول من حالة عادية إلى حالة أخرى غير عادية.
      عن أي جنوح تتحدث الذات الشاعرة إذاً، هذا ما تحاول القراءة الاستكشافية اكتشافه من خلال تأمل متواليات النص . 
   تقرب القصيدة جنوح الذات الشاعرة بواسطة التشبيه إذ شبهت جنوحها بجنوح هذا الفجر، و هو تشبيه لا ينضح بالشيء الكثير لوروده مجملا غير مفصل، ومع ذلك يمكن تأمل المشبه به لاستكشاف ما يمكن أن يرشح به.
     إن جنوح الفجر عن الليل جنوح ثقافي إذا تحمل كلمة الفجر سمات دلالية و أخرى ثقافية تشكل وعي الشاعرة من خلالها، كما يحمل الليل ضدها. فالفجر ضوء ورؤية واضحة ومحو للظلام، و أفق مفتوح وحركة وحياة، والليل عتمة و انعدام للرؤية وسبات.  إلى جانب هذه المقومات تحمل كلمة الفجر بعدا ثقافيا بحكم تكرارها في الصور الشعرية منذ العصر الجاهلي إلى اليوم. فالليل هم وغم وضيق وموت، والفجر عكسه. كل هذه الحمولة حاضرة في صورة الشاعرة وهي تعيش لحظة جنوحها من الحالة التي توجد عليها. يزيد من كثافة الصورة غياب تفاصيل الجنوح أو صفات الفجر مما يسمح لنا ببناء معنى انطلاقا مما تحبل به كلمة جنوح وكلمة فجر. فكل ما ترشح به هذه الصورة مستنبط من سمات الفجر الدلالية والثقافية في علاقتها بسمات الليل الدلالية والثقافية.
     جنوح الفجر تحول كلي من الضد إلى الضد، من الظلمة إلى الضوء، من اللارؤية إلى الرؤية الواضحة. فهل يفيد الجنوح هنا خروج من حالة السكون والسلب إلى حالة الحركة والإيجاب؟
     هناك تنافر لغوي بين كلمة جنوح التي تحمل معنى قدحيا، إذ تحمل في استعمالها الثقافي معنى الميل نحو الأسوء وبين كلمة فجر التي تحمل معنى إيجابيا لما يحمله من دلالات ثقافية .
     النص عند ريفاتير تمطيط وإسهاب  وتناص داخلي يضيء بعضه بعضا. فالفعل الثاني الذي يرشح به المشبه به يضيء بعض جوانب الصورة، فقد انتقلت الشاعرة من فعل الجنوح الذي يفيد الميلان في مطلقيته إلى فعل الفرار (أفر)، الذي لا يمكن إلا أن يكون إراديا وسريعا، فالفرار في العادة يكون جريا وبالسرعة الممكنة خصوصا إذا كان من الضجر و السأم الملازم في صورنا الثقافية لليل. وقد استعارت الشاعرة للضجر أسوء مكان، مما يزيد من رغبة الفرار وهو الأقبية التي توحي بالانغلاق والضيق والسجن والظلام والموت البطيء. وبذلك يصير الجنوح إيجابيا ما دام يخلص ضمير المتكلم الذي يعود على "أنا الشاعرة" النصية من أقبية الضجر والسأم. في مقابل الجنوح و الفرار يظهر فعل ثالث مكمل لهذه الأفعال هو أتحفز. إنه الإقبال والرغبة الجامحة: أتحفز  لشرايين اشتهائي.
    إن الاشتهاء حالة نفسية داخلية تفيد الرغبة الجامحة في تحقيق الشيء وامتلاكه، و قد استعارت لها الشاعرة كلمة شرايين، وهي العروق الكبرى في الجسد التي يتدفق الدم فيها بكثرة وقوة وسرعة. مما يدل على أن هذا الاشتهاء جامح و لا حدود له، لذا تتحفز الذات الشاعرة له.
       إن الصور الثلاثة ذات كثافة دلالية قوية تشكل مجتمعة صورة واحدة يحكمها التقابل بين الحالة التي توجد عليها الذات الشاعرة قبل جنوحها والحالة التي صارت عليها وهي تتهيأ للجنوح.                           
كهذا الفجر
يتجلى ذهولي
فأرحل عن ظلي
ألاحق تدفق ضحكتك
تشف مواسم الكلمات
        تكرر الشاعرة التشبيه مرة ثانية، لكن هذه المرة تفصح عن دواخلها "يتجلى ذهولي". الذهول سلو النفس عن كل شيء من شدة الاندهاش و الانخطاف، تسلو النفس عن مألوفها.  والعلاقة بين طرفي الصورة شدة الوضوح و الكشف. فلم تعد الذات تخفي ما بداخلها و إنما تفصح عنه و تظهره كهذا الفجر الذي يتجلى معه كل شيء. ومع هذا التجلي تبدأ الذات الشاعرة في ممارسة حريتها، تفعل فعلها الأول أرحل عن ظلي. الظل ملازم للذات، لكن الذات الشاعرة استطاعت التخلص منه إراديا وبتخلصها منه تتخلص من قيود الجسد، لتعيش حريتها وحركيتها. يتجلى ذلك واضحا في الفعل الثاني ألاحق تدفق ضحكتك. إن الذات الشاعرة لم تعد تجنح أو تفر أو تتحفز بل صارت فاعلا يلاحق، وهو فعل أكثر إيجابية من الجنوح و الفرار و التحفز .
  تلاحق الذات الشاعرة  تدفق ضحكات الذات المخاطبة. فقد استعارت صفة التدفق للضحك وهو صفة ملائمة لشرايين الاشتهاء. ألم تكن الشرايين مكانا للتدفق. يتدفق الاشتهاء بتدفق الضحكات فيتحول من مجرد اشتهاء إلى ملاحقة.
   إن الحالة التي صارت عليها الذات الشاعرة في علاقتها بموضوعها المجسد في ضمير المخاطب المذكر علاقة انجذاب كلي تنمحي فيها المسافات و تسقط كل الموانع بما فيها الظل/ الجسد الذي يحد من حريتها، فيفعل ضمير الخطاب فعله في الذات.
الصورة الثانية إذن تمطيط و إسهاب للصورة الأولى. تجنح الذات كهذا الفجر، فتفر من أقبية الضجر، تتحفز لشرايين الاشتهاء، فينكشف ذهولها كهذا الفجر فترحل عن ظلها لتلاحق تدفق ضحكاتك .  
    المقطع الثالث والأخير يقابل بين الذات الشاعرة و موضوعها بين أنا و أنت من وجهة نظر الذات الشاعرة:
أنت
مرايا المسرات...تجمعني
تقرع جرس الماء
تبسط تعويذة الشغف
تهب أسرار الرعشات
مدججا بالفتنة تأتي
وأنا
كهذا الفجر
أجنح عني
و أرتدي جناحين إليك.
  موضوع الذات الشاعرة المبهم لا يمكن معرفته إلا مقاميا مادام ممثلا في النص بكاف الخطاب. وفي غياب المقام يصبح التعريف سياقيا نصيا، أي من خلال الصفات و المواصفات التي تضفيها الذات الشاعرة على كاف الخطاب في النص.
       أنت مرايا المسرات، المسرات بالألف و اللام. كل المسرات التي تعتري الذات الشاعرة يعكسها ضمير المخاطب أنت كما تعكس المرايا الأشياء، وكلما تعددت المرايا تعددت الانعكاسات إلى ما لانهاية فيصير ضمير المخاطب انعكاسا لا حدود له للمسرات. يبدأ هذا الضمير الجامع لكل المسرات في فعل تحولت معه الذات الشاعرة  من فاعل إلى مفعول أمام موضوعها "تجمعني"، وتتوالى الأفعال
تقرع جرس الماء
تبسط تعويذة الشغف
تهب أسرار الرعشات
مدججا بالفتنة تأتي .
من الماء تولد الحياة. جرس الماء المقروع كناية عن التدفق  وإعلان عن بداية حياة متجددة .
من الماء إلى السحر الذي يتملك الإنسان" تعويذة  الشغف و الحب" . فيصل الشغف مداه بهبوب أسرار الرعشات، فيفقد العقل سيطرته على الجسد لتسود الفتنة.
       تنظر الذات الشاعرة إلى كل هذه الأفعال بوصفها فتنة لا تستطيع مقاومتها فتنغمس فيها، ففيها جرس الماء وتعويذة الشغف و أسرار الرعشات. ولا يبقى للذات إلا أن تستسلم فتجنح عن ذاتها وترتدي جناحي التحليق إلى ذات المخاطب.
       تتحرر الذات الشاعرة في هذا النص القصير من شرنقتها كأي فراشة لتلامس الحرية، تتحرر من ظلها بل من ذاتها كلها، تلك الذات التي تشكلت في أقبية الليل والضجر، لتختار بحرية التحليق إلى موضوعها الفاعل لكل أفعال الحرية والتمرد.

    بني النص وفق نسق استعاري بنيوي يتكرر، وفي تكراره ينمو ويتطور لينتهي إلى تخلص الذات بجنوحها الكلي من ضجرها وسأمها لتعيش حريتها المطلقة وحقها في اختيار حياتها و مصيرها.
   بني هذا النسق التكراري على التشبيه بين جنوح  الفجر المعيش والمشاهد وجنوح الذات الشاعرة .
يتكرر التشبيه  ثلاث مرات كلها مرشحة بأفعال تسند إلى المشبه به .
 النسق الأول
كهذا الفجر
             - أجنج
             - أفر من أقبية الضجر
             - أتحفز لشرايين اشتهائي
النسق الثاني
 كهذا الفجر
              - يتجلى ذهولي
              - أرحل عن ظلي
              - ألاحق تدفق ضحكتك  تشف مواسم الكلمات

النسق الثالث
كهذا الفجر
              - أجنح عني
              - وأرتدي جناحين إليك

    يتجلى من خلال الأفعال المسندة إلى الذات الشاعرة نمو النص، ففي النسق الأول سعت الذات الشاعرة المعبر عنها بضمير المتكلم إلى التخلص من وضعها المرفوض  الموصوف في النص بأقبية الضجر بما تفيده هذه الصفة من ضيق وضجر وسأم ...لتعيش حريتها المشتهاة. وقد مارست هذا التخلص وعبرت عنه بثلاث أفعال: أجنح و أفر و أتحفز وتفيد كلها التصميم الواعي بالانتقال  من وضعية مرفوضة إلى وضعية مأمولة .
      وإذا كانت الشاعرة قد استعارت  لوضعيتها الحالية صفة أقبية الضجر، فقد استعارت لوضعها المأمول شرايين الاشتهاء بكل ما تفيده كلمة شرايين من تدفق لا يمكن عرقلته أو تغيير مساره لأن الحياة متوقفة عليه.
   وبذلك تبنى علاقة تعارض بين الوضع المرفوض والوضع المأمول ( أقبية الضجر في مقابل شرايين الاشتهاء) والفعل الممارس الجنوح والفرار.
    في النسق الثاني تخطو الذات الشاعرة خطوة أخرى نحو موضوعها عبر أفعال ثلاثة   يتجلى ذهولي - أرحل عن ظلي - ألاحق تدفق ضحكتك  تشف مواسم الكلمات
 فالاشتهاء الخفي صار ذهولا متجليا، والفرار أصبح رحيلا عن الظل الذي يقتسم مع أقبية الضجر العتمة الملازمة للذات التي لا  يمكنها التخلص من ظلها. والشرايين متدفقة بالضحكات
    يتم تمطيط النسق الثاني ببناء نسق استعاري يصف الذات المخاطبة وما تعنيه للأنا الشاعرة التي صارت مفعولا أمام موضوعها المخاطب بعدما كانت فاعلا، فيصير هو الفاعل لكل الأفعال لتعيش الأنا الشاعرة ذهولها. فقد شبه المخاطب بمرايا المسرات، هو مرايا متعددة لكنها كلها تكشف بالنظر إليها عن المسرات، وقد عبرت الشاعرة عن هذا التعدد باستعارة عدة أفعال اسندت إلى ضمير المخاطب:
تجمعني – تقرع جرس الماء – تبسط تعوذة الشغف-تهب أسرار الرعشات – مدججا بالفتنة تأتي. خمسة أفعال كل منها مرآة مسرة تطل منها الذات الشاعرة. فمن الفرار في النسق الأول إلى الرحيل إلى الجمع الذي يفيد الوصول في النسق الثاني . والماء بما يحدثه من صوت عبر عنه بقرع الجرس كناية عن التدفق عبر شرايين الحياة، وتعويذة الشغف وصال نهائي يناقض الفرار، وأسرار الرعشات تعاش ولا يعبر عنها بل هي أقصى درجة الوصال، فهي نتيجة لبسط تعويذة الشغف، بما تفيده كلمة تعويذة من سحر وتحكم في نفسية الذات الشاعرة .
وتصل هذه الأفعال إلى قمتها في صفة الفتنة غير المتحكم فيها بالمفهوم الإيجابي للكلمة .
     إن هذه المرايا المتعددة المرتبة تخلص الأنا الشاعرة من ذاتها العاجزة بعدما تخلصت من ظلها لتعيش حريتها الكاملة المجسدة في ارتداء الجناحين إلى ضمير المخاطب وهو وضع مناقض للوضع الأول المجسد في أقبية الضجر..     
 وأنا
كهذا الفجر
أجنح عني
و أرتدي جناحين إليك

بداية الجنوح  : أجنح
 أقصى الجنوح : أجنح عني
أفر من أقبية الظلام
أرحل عن ظلي
ألاحق ضحكاتك
أرتدي جناحين إليك
أستفز شرايين اشتهائي
يتجلى ذهولي
يُقرع جرس الماء
تُبسط تعويذة الشغف
تهب أسرار الرعشات
تأتي الفتنة
أجنح عني وأحلق إليك 
 وردت القصيدة موزعة بين ضميرين  ضمير المتكلم الذي يعود على الأنا الشاعرة وقد دخلت عالم الشعر. ويهيمن على معظم القصيدة، وضمير المخاطب أنت الذي يعود على المخاطب المذكر الذي تسعى إلى تحقيق الوصال معه.
      إن  ضمير المتكلم بوصفه ضميرا مقاميا يفقد مقاميته التخاطبية حينما يدخل عالم الشعر إذ لا يحاكي الشاعرة الذي تعتبر في اللغة اليومية مرجعه المباشر، فيصير في النص ضميرا سياقيا يستقي معرفته من مواصفاته النصية ولا شيء غير هذه المواصفات، وقد وردت هذه المواصفات في أغلبها أفعالا متعددة ومتتابعة لكنها تتعالق فيما بينها لتعرف مجتمعة الجنوح الذي ورد في العنوان نكرة و توجهه توجها إيجابيا.فما هي مواصفات هذا الضمير :أجنح– أفر – أتحفز  يتجلى ذهولي - أرحل - ألاحق - أجنح عن ذاتي أرتدي جناحين- آتي إليك.
   بالإضافة إلى هذه الأفعال الإيجابية لأنها تعكس الجنوح من أقبية الضجر إلى فضاء التحليق، هناك مواصفات أخرى يمكن استقاؤها من التشبيه كهذا الفجر .
فالذات والفجر يتقاطعان في صفة أو صفات يمكن أن تكون تمييزية للذات الشاعرة. وهي مواصفات دلالية وثقافية ، إنها رحلة من الظلمة و العزلة والغربة و الضجر إلى النور والوصال والألفة و الحياة .
     في مقابل هذه المواصفات التي تحدد طبيعة ضمير المتكلم ومرجعيته النصية، تبني الشاعرة مرجعية ضمير المخاطب انطلاق من النص لأنه موجود فقط على مستوى المتخيل، فليس له اسم يميزه أو يعود عليه وليس له مقام خارجي إلا تخييلا، لكنه على مستوى النص يبقي  معرفة بمرجعيته النصية.
  أنت
مرايا المسرات...تجمعني
تقرع جرس الماء
تبسط تعويذة الشغف
تهب أسرار الرعشات
مدججا بالفتنة تأتي
    إن ضمير الخطاب هنا نتعرف عليه من خلال علاقته بالذات الشاعرة أو من خلال متخيلها لا كما هو في الواقع. من هنا فهو أيضا يبنى نصيا ولا علاقة له بمحاكاته لذات خارجية إنه مرايا المسرات التي عرفت بالأفعال الأتية / تجمعني /تقرع جرس الماء / تبسط تعويذة الشغف /تهب أسرار الرعشات/ مدججا بالفتنة تأتي. وهي أفعال  تفعل فعلها السحري في ضمير المتكلم فيجنح نحوها .






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق