الأحد، 4 مارس 2018

قراءة في قصيدة الشاعر المغربي محمد بنطلحة . "أنا، سليل الهمج "




في مقبرة ولدت
وفي حانة أموت
حكيم كالرماد
وحيثما حللت، كألوان الطيف
لا أستريح
أتجدد
صبرا علي
هنيهة وأخرق ما أريد:
قبالة شواطئ اللغة، ناقلة بترول
تحت أجفان العائلة، رداء الغطس
وتحت أجفاني، معاهدة شنغن
وقانون الصحافة
ماذا سأخسر؟
كائن هيروغليفي، أنا
في أوقات الفراغ
أبيع الخمور
للموتى
وفي أوقات الشدة
أقول للحضارة:
لست أمي
لهذا أيضا
أغامر
وأسرق التعويذة
من تحت رأس كل مومياء
وجدتها في طريقي
how many roads...
how many seas..
.
أوف
أنا من هرقت فوق الأرض
قارورة المعنى
أحب الهندسة
ولا أحب الحساب
عندي،
يوم الحساب مضى
ولن يعود
ليس لي email
هدبي حمام زاجل
وكل رسائلي تنتهي بالعبارة التالية:
حتى
بعد كل هذه الهزائم
أنا هو المنتصر


       يسعى محمد بنطلحة في قصيدة سليل الهمج إلى بناء "أنا  شعرية" متمردة ومتفردة  لا تشبه غيرها، وتبقى عصية على أن يتشبه بها غيرها. ترسم لنفسها سيرة حياة من أول المهد إلى آخر الحلم، تفارق واقعها الذي وجدت نفسها فيه، لتسير في طريق لا تسير فيها القوافل، وتخط  مسارا شعريا لايتكرر يرسم  خطواتها التي لا تعرف التوقف.
       منذ العنوان يصدم الشاعر قارئه "أنا ...سليل الهمج" ،  لأن هذا القارئ يتقاسم معه  سلالته أو يعتقد ذلك على الأقل، فيرى يقينه المطلق بماضيه المجيد ينهار مرة واحدة كصخر حطه السيل من عل، و بدون سابق إنذار.
     فماذا تفيد صفة الهمج التي أضيفت إلى كلمة سليل في عنوان النص ؟ أيمكن أن ترشح بغير المعنى القدحي الذي يسبق إلى الذهن لأول وهلة ؟
      بالعودة إلى القواميس العربية نجد أن من بين معاني "الهمج": الذين لا نظام  لهم. وهو المعنى الأقرب إلى المعنى المتداول في ثقافتنا المعاصرة. فهل يفيد العنوان أن أنا الشاعر سليلة من لا يخضعون لنظام إبداعي سابق؟ أي أولئك الذين لا يكتبون على نظام نمطي قبلي. بهذا التأويل تخرج كلمة همج من معناها القدحي المرفوض لتكتسب معنى إيجابيا جديدا مختلفا. 
       منذ بداية القصيدة يعلن بنطلحة وجوده الأول الذي لم يختره، ونهايته الذي اختارها بنفسه، الوجود الأول (الولادة) قدَري  ولا إرادي لأن الوعي به متأخر عن وجوده. و الموت اختيار  لأن الوعي به سابق على الوجود. " في مقبرة ولدت / و في حانة أموت" الأول كان وانتهي، والثاني يتحقق شيئا فشيئا. الكلمتان البؤرتان في هذين السطرين الشعريين هما كلمتا مقبرة وحانة. المقبرة فضاء الموت و الجمود والثبات على حالة واحدة، وعدم الإحساس بالزمن، تولد أنا الشاعر هناك، لكنها تأبى أن تبقى حبيسة فضاء مولدها، لأنه فضاء مفارق للولادة. الولادة حياة وأفق حركة وتطور... والمقبرة مكان إنهاء كل شيء إلى أقصى درجة.
        ولأن الولادة حدثت في المكان الخطأ  المناقض لطبيعتها وما يراد منها، تتمرد "أنا الشاعر" على فضاء الموت لتختار عن وعي وسبق إصرار مكان النهاية " الحانة".
      هذه الكلمة تضع القارئ أمام تشعبات للمعنى. إذ توحي بالحد من  هيمنة العقل و صرامته ومراقبته  ليفسح المجال للذات لتعبر عن أناها في تلقائيتها و عفويتها، ولتعيش حريتها في أقصى تجلياتها. وقد توحي بمكان الموت البطيء حينما يصير الإنسان زبونا معلبا خاضعا لسلطة الكأس. 
وبذلك تتحقق المفارقة بين فضاء الولادة و فضاء الموت إذا نظرنا إلى الحانة كفضاء للتخلص من رقابة العقل ومنطقه، والسماح للأنا الشاعرة بمارسة حريتها. وقد تصير مكانا لا يختلف عن مكان الولادة: الحانة فضاء الموت البطيء، والمقبرة فضاء الموت الأبدي . فأي التأولين ينسجم مع الجمل اللاحقة لبناء المعنى ؟

     ينتقل الشاعر من تحديد فضاء البداية والنهاية إلى الحديث عن صفات الأنا الثابتة. حكيم كالرماد
وحيثما حللت، كألوان الطيف
لا أستريح   
      أي حكمة يتمتع بها الرماد وتشترك معه فيها أنا الشاعر؟ هل تكون حكمته في تحوله، وفي عدم استقراره ، وفي حفاظه على سر الحياة وكنهها؟ أليس هو كل ما يتبقى بعد الإحراق؟ أليس هو ما يحتفظ به بعد انطفاء الحياة ، ومنه يكون الانبعاث ،  تدروه الرياح فيختلط بالأرض، يسير سمادا لها يخصبها، إنه لا يستريح ، أم أن الشاعر ينفي عن أناه صفة الحكمة بأن شبهها بالرماد الذي لاحكمة له، كما في المثل العربي المشهور: السيف أمضى من العصا؟ في كل الحالات ، ينظر الشاعر إلى الرماد نظرة ذاتية فردانية تختلف عما ألفناه وتشكل في ذاكرتنا، إنه في الثقافة الموروثة ما يتبقى بعد الإحراق، تدروه الرياح فيندثر. لكن بنطلحة  يعيد عجن المألوف ليبني صورة رماد من نوع خاص، حكمته أيضا صفة خاصة تختلف عما ألفناه وتداولناه من وصف للحكمة، إن الرماد لا يستريح، إنه في سفر دائم وحكمته - إن كانت له حكمة - في حركته وتحوله وسفره، ويجعل من الأنا الشاعرة  شريكته في هذه الحكمة. يختار الشاعر لأناه صفة أخرى استقاها من ألوان  الطيف. يساهم التركيب في ضبابية المعنى وتعدديته وغرابته، هو كالرماد، هو كألوان الطيف، هذان المكونان يقتسمان مع أنا الشاعر صفة واحدة هي لا أستريح. ألوان الطيف متعددة تظهر وتختفي لتظهر في مكان آخر. 
     يبني الشاعر أنا نصية بمواصفات متخيلة خاصة لا وجود لها خارج النص. لم يشبه الشاعر الأنا الشاعرة بالرماد فحسب، بل اختار من الرماد صفة واحدة لم تكن معروفة له من قبل هي صفة الحكمة، وبذلك هرق الشاعر قارورة المعنى مرتين، مرة بأن وصف الرماد بالحكمة، وبذلك وصفه بما ليس فيه إلا في مخيلة الشاعر، وعلى القارئ أيضا أن يبنيه، والثاني علاقة المشابهة بين الرماد الحكيم و بين الأنا الشاعرة في النص. والأغرب من هذا أن تبحث عن صفة لا توجد في الموصوف، وتسعى إلى بناء علاقة لا وجود لها. ومع ذلك يبقى لي كقارئ حق بناء هذا العلاقة في سياق بناء معنى النص.    

أتجدد
صبرا علي
هنيهة وأخرق ما أريد.
    لا تستريح أنا الشاعر لأن من سماتها التجدد السرمدي، تحقق ما تريد، ثم تخرق ما حققته لتبحث عن شيء آخر تريده ، وبذلك لا تكرر نفسها، تتجدد فتفارق المقبرة  التى ليست من صفاتها التجدد، لا تستقر على حال كالرماد ، تتعدد مظاهرها كألوان الطيف. ذلك هو الشاعر يبني لنفسه صورة فريدة ومتميزة لا تقبل التكرار سمتها التجدد والتفرد .  
قبالة شواطئ اللغة، ناقلة بترول
تحت أجفان العائلة، رداء الغطس
وتحت أجفاني، معاهدة شنغن
وقانون الصحافة
ماذا سأخسر؟
     يبني الشاعر مفارقة  بين شواطئ اللغة و بين ناقلة البترول. ذلك أن شواطئ  اللغة فضاء للإبداع والخلق وبناء المعنى و إغناء اللغة بالكثافة الشعرية ، وناقلة البترول تفيد الثراء المادي و اقتصاد الريع. وهما طرفان لا يلتقيان، شاطئ اللغة يوحي بالفردانية والحرية والاستقلالية و الاستجابة لرغبة الذات الشاعرة المبدعة، والبحث عن إبداع اللغة، والبوح بما يجيش في دواخل الذات الشاعرة ، وناقلة البترول توحي بالعبودية للمال والاستسلام لرغباته، وفقدان الاستقلالية في التفكير والإبداع والخلق، و إذا اجتمعا معا تفقد اللغة خصوصية شواطئها لتصير شواطئ لشيء آخر غير الإبداع .
    هذه الناقلة التي  ظهرت قبالة شواطيء اللغة أغرت عائلة الشعر فصار همها الأول  الوصول إليها  (رداء الغطس) لكي تستفيد من ريعها، لكن أنا الشاعر المتميزة والفريدة المهووسة باللغة تأبى أن  تغطس في اتجاه الناقلة  لتتجه وجهة أخرى "معاهدة شينغن وقانون الصحافة"  وهما وجهتان  مناقضتان معا لما توحي به ناقلة البترول، الحرية ، حرية التنقل حرية التفكير حرية التعبير حرية الفكر. لا يفكر الشاعر في الربح ، وليس لديه ما يخسر .
 كائن هيروغليفي، أنا
في أوقات الفراغ
أبيع الخمور
للموتى
وفي أوقات الشدة
أقول للحضارة:
لست أمي
لهذا أيضا
أغامر
وأسرق التعويذة
من تحت رأس كل مومياء
وجدتها في طريقي
how many roads...
how many seas...
يخلص الشاعر إلى خاصية تميزه  وتفرده ، خاصية كونه هوريغليفيا ، هذا الوصف يوحي بالغرابة  والغموض واحتمالية تعدد المعاني، وتتجسد هذه الغرابة والغموض في الأفعال التي أسندت إلى  الذات الشاعرة "بيع الخمر للموتى في أوقات الفراغ ، ونكران انتسابه للحضارة في أوقات الشدة "  قابل الشاعر بين وقتين : وقت الفراغ في مقابل وقت الشدة ، وجمع بين الفراغ  وبين بيع الخمر للموتى مما يوحي بعبثية الفعل ولا جدواه ، الوقت وقت فراغ ، والعمل بيع الخمر ، والتعامل يكون مع الموتى. وجمع بين وقت الشدة  وممارسة فعل الرفض ونكران أمومة الحضارة ، فيفر نحو الأصل - الحضارة الهيروغليفية - ليسرق تعويذة المومياء التي تفتح أمامه مغامرات أخرى وأفاقا جديدة وطرقا وبحارا يجب اكتشافها، والمغامرة لن تكون في أرض مألوفة سبق اكتشافها، بل في فضاءات متعددة ولا محدودة، يفارق فيها المألوف والمتداول ، ويقتحم المجهول المرتبط بالقلق التي تعبر عنه كلمة "أوف".  فكان الفعل الأول سكْب قارورة المعنى المرتبط بالعقل ورقابته ومنطقه ، والسفر في أعمال الذات بتناقضاتها و إيحاءاتها و هواجسها وتقاطعات خطوطها.
أوف
أنا من هرقت فوق الأرض
قارورة المعنى

أحب الهندسة
ولا أحب الحساب
عندي،
يوم الحساب مضى
ولن يعود
ليس لي email
هدبي حمام زاجل
وكل رسائلي تنتهي بالعبارة التالية:
حتى
بعد كل هذه الهزائم
أنا هو المنتصر 

    رفضت أنا الشاعر الحساب وآمنت بالهندسة، الحساب منطق وعقل متبوع بالمحاسبة، والهندسة تقاطع وتداخل وإبداع ، يرفض الشاعر يوم الحساب يرفض أن يكون له عنوان، يختار أن يكون حماما زاجلا يغني ويبدع ولا يستقر، وفي فرادته تلك إصراره في كل الحالات بأنه المنتصر.
       بعد هذه القراءة الاستكشافية، نقوم بقراءة استرجاعية نبني بها معنى على الرغم من تصريح الشاعر بأنه سكب قارورة المعنى.
    يرسم الشاعر لنفسه أفقا إبداعيا جديدا، أفقا يختلف عن الواقع بلا أفق الذي وجد نفسه فيه، ليس له وجود سابق أو هوية قبلية، وقد بنيت القصيدة على ثنائية، الرفض و الاختيار، رفض الواقع المعطى المرسوم قبلا الذي يستقي صفاته النصية من معجم منسجم أهم مقوماته الثبات و الجمود و اللاأفق ( المقبرة – ناقلة البترول – أوقات فراغ – بيع الخمر للموتى – عدم حب الحساب – انتظار يوم الحساب ) إن هذا المعجم المستقى من حقول دلالية مختلفة يتقاطع في بعض سماته مقوماته : فالمقبرة فضاء الموت المطلق الذي ينهي وجود الذات إلى أقصى درجة حيث لا فعل ولا حركة. يشترك هذا الفضاء مع ناقلة البترول رمز الريع و الغنى الفاحش، لذا تشد إليها من يقترب منها ليدور في فلكها ، وبذلك يفقد حريته و يفقد فعل الاختيار، فلا تصير الذات الشاعرة مصدر أفعالها و حركتها. ألم يكن الشاعر القديم يدور في فلك الممدوح صاحب العطاء بلا حساب كما يدور الفراش في فلك الضوء ، الممدوح  هو ناقلة البترول القديمة مصدر الريع كما أن ناقلة البترول هي رمز الممدوح المعاصر الذي يعطي بلا حساب .
     لا تبتعد عبارة "أوقات الفراغ" عن هذه البنية المنسجمة التي يبنيها الشاعر. فهي الغثيان هي زمن الموت هي اللاشيء هي العبث المتجسد في بيع الخمر للموتى.
    يربط الشاعر كل هذه الصفات بالآخر الجمع  الموسوم في النص باسم العائلة.   
     في مقابل هذا الآخر الجمع تبرز الذات الشاعرة متعددة الأوصاف تسكب المعنى المألوف المشترك مع العائلة لتبني معناها الخاص. ذات متفردة تستمد حكمتها وفعلها الذي لا يتوقف من الرماد و ألوان الطيف تريد وتخرق ما تريد لا تتوقف عن البناء والهدم كفعلين سرمديين . 
      تهيمن على النص صفات الذات الشاعرة في مقابل صفات قليلة للآخر. الآخر موت وكفى، و الذات الشاعرة ولادة ومشروع حياة و علامة جديدة متفردة في تاريخ القصيدة العربية .



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق