الخميس، 28 ديسمبر 2017

كلمة ألقيتها في حفل تكريمي بكلية اللغة العربية بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية








بسم الله الرحمان الرحيم، والصلاة والسلام على من أرسل رحمة للعالمين، 
      السادة الأفاضل: أبى مجموعة من الزملاء الأعزاء إلا أن يضعوني في دائرة الضوء في هذا اليوم الأغر، يوم الاحتفال باللغة العربية. وأبيتم بحضوركم  إلا أن تزكوا هذا الاقتراح وتباركوه بحضوركم. وهي مناسبة ألزمتني أن أتوقف قليلا لأنظر في المرآة لأتأمل خمسة عقود ونيف من حياتي، و ثلاثة عقود ونيف من التحاقي بسلك التعليم. تأملت وجهي طويلا، في صوره المتعددة من الطفولة إلى الكهولة، وتخيلت نفسي واقفا أمام الله عز وجل يحاسبني على كل صغيرة وكبيرة، فكان أول شيء زرع الخوف في قلبي هو أنني أحمل لقبا أخاف ألا أستحق حمله لقب "المتقي"، فهل في حياتي ما يجعلني أستحق هذا اللقب؟ التفتت يمنة ويسرة، فوجدت حشدا كبيرا من الناس من مختلف الأعمار، تفرست في وجوههم،رأيتها مبتسمة مستبشرة برؤيتي، فيهم من أعرفه، وفيهم من يعرفني ولا أعرفه. أحسنت الظن بهم، فقلت بصوت مضطرب: يا رب رضيت بهؤلاء شهودا، فقالوا بصوت واحد: يارب ارحم ضعفه، واغفر ذنبه، فقلوبنا تحدثنا أنه من الصادقين.
    رفعت عيني في الناس فرأيت وجوه زملائي وطلبتي وأساتذتي، رأيت وجوهكم واحدا واحدا، فحمدت الله عز وجل أن أتاح لي أهلا وأحبة من طينتكم.
 رفعت عيني وقلت يارب : هذه علاقتي بالناس فماذا عن علاقتي بك ؟ فتبادرت إلى ذهني أشعار رأيت في المرآة أنني كنت أنشدها في سري وعلانيتي، منها قول عمر الخيام :
 إن لم أكن اخلصـــت فى طاعتك**   فإننى أطمع فى رحمــــــــــــــتك
وانمــــــــــا يشـــــفع لى اننى قــــــــــــــــــــــــــــد ** عـــــشت لا أشرك فى وحدتـك
وقول الشافعي :

ولَّما قسا قلبي، وضاقت مذاهبي
جَعَلْتُ الرَّجَا مِنِّي لِعَفْوِكَ سُلّمَا
تعاظمني ذنبي فلَّما قرنتـــــــــــــــــــــــــــــهُ
بعفوكَ ربي كانَ عفوكَ أعظما
قرأت قول الله عز وجل : فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ 
فسمعت صوتا يقرأ قول الله عز وجل : قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
جثوت على ركبتي، وقلت بصوت خنقه الندم و حشرجته الدموع :

إلَهي لا تُعَذِّبني فَإِنّـــــــــــــــــــــــــــــي
مُقِرٌّ بِالَّذي قَد كانَ مِنّـــــــــــــــــــــــــــــي
فَما لي حِيلَةٌ إِلا رَجائـــــــــــــــــــــي
بِعَفوِكَ إِن عَفَوتَ وَحُسنِ ظَنّي
يَظُّنُ الناسُ بي خَيراً وَإِنّـــــــــي
لَشَرُّ الخَلقِ إِن لَم تَعفُ عَنّي
    هذه صحيفة علاقتي بالله عز وجل و علاقتي بالناس، فماذا عن علاقتي بهذه المؤسسة.
    انتهت فترة تكويني في سلك تكوين المكونين بجامعة محمد الخامس بالرباط في صيف 1988، ملآنا بطاقة التعيينات ، وكانت رغبتي  أن أعود إلى كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة القاضي عياض التي حصلت فيها على شهادة الإجازة، فكانت المفاجأة أن عينت بكلية اللغة العربية. صدمت لأن ما كنت أسمعه عنها لا يشجعني على العمل فيها. أساتذتها مجموعة من الشيوخ ، وطلبتها قلة قليلة من الطلبة الممنوحين وعدد كبير من الطلبة الموظفين، برامجها علوم اللغة والدراسات الإسلامية. وقد كان هذا التعيين صدمة لي- أنا المهووس بالحداثة الشعرية - وهو هوس لا يمكن أن يتطور في تربة مكوناتها العضوية التراث والأصالة ولا شيء غير الأصالة، بل لا يعتبر شيوخها  الحداثة  مكونا من مكونات العلم النافع.
     التحقت بالمؤسسة في آخر السنة الجامعية بعد توصلي بالتعيين، فمنعني الحارس آنذاك من الدخول. أدليت له بتعييني طالبا منه السماح لي بالدخول لألتقي بالسيد العميد أو رئيس الشعبة لأطلب منه الحضور لاجتماعات الشعبة و توزيع المواد حتى أهيئ  محاضراتي  في الفترة الصيفية، لكن الإدارة رفضت استقبالي آنذاك بدعوى أن تعييني بالمؤسسة يبدأ في الخامس عشر من سبتمبر 1988 وليس قبله . توجهت إلى كلية الآداب لألتقي زميلي آنذاك الذي عين بها، فأخبرني أنه شارك في المداولات وحضر الاجتماعات. فبقيت هناك التمس من أساتذتي أن يبذلوا ما في وسعهم لينقذوني من التعيين في كلية اللغة العربية لأنني ستخمد جذوتي الحداثية هناك .
       في بداية السنة الجامعية التحقت بالكلية وحضرت الاجتماع الأول الذي ترأسه السيد العميد السي المهدي الوافي رحمة الله عليه وحضره مجموعة من الشيوخ أمثال مولاي الطيب المريني رحمه الله وذ أحمد البزار رحمه الله وذ أحمد بغداد رحمه الله وذ  لحسن وكاك وعلي ايت علي وذ محمد البايك ومحمد بن عبد الرحمان المغراوي وعز الدين المعيار أطال الله في عمرهم جميعا ومتعهم بالصحة و العافية.
      إلى جانب هؤلاء الشيوخ ، هناك ثلة من الشباب،  عمر حلي رئيس جامعة ابن زهر الآن وحميد سمير و ابراهيم أيت ابن احساين و المشمول بعفو الله عبد العزيز طليمات.
       كان الجو متوترا بين الأساتذة الشيوخ والأساتذة الشباب. ولم يكد يبدأ الاجتماع حتى حدث جدال بين العميد وعبد العزيز طليمات رحمهما الله انتهى بفض الاجتماع والسب والشتم بينهما. فوجدت نفسي في حرج كبير، هل أنضم إلى الأساتذة من جيلي الذين أومن بثقافتهم وتفكيرهم، أم أنضم إلى العميد والأساتذة الشيوخ الذين أجلهم وأقدرهم بحكم تربيتي ومعرفتي بهم وتقديري لثقافتهم الأصيلة .
      سلم إلى استعمال الزمن في اليوم نفسه، عشرون ساعة من البلاغة أسبوعيا بالكمال والتمام. ففررت من ساحة الصراع إلى مدينة الرباط حيث أسكن آنذاك، واعتكفت في خزانة كلية الآداب على مصادر البلاغة. وكان أول لقاء لي مع كتاب علوم البلاغة للمراغي الذي طُلب مني أن أعتمده مرجعا وحيدا للطلبة، فأدركت منذ اليوم الأول أن هذا الكتاب قد يكون مرجعا للطلبة، لكن لا يمكن أن يكون مرجعا للأستاذ ، فاكتشفت كتابَيْ الجرجاني دلائل الإعجاز و أسرار البلاغة ، فعكفت على قراءتهما مرات ومرات  وفي كل مرة أدرك أننا - نحن جيل الحداثة السبعينية و الثمانينية- كنا جهلة بتراثنا البلاغي و أن أضواء الحداثة الغربية أخفت عنا قيمة هذا التراث، بل إن جهلنا بالتراث العربي الإسلامي جعلنا لا نستعير من المناهج الغربية الحداثية إلا القشور دون فهم عميق لخلفياتها، وعندما نسافر بها من تربتها الأصلية إلى الثقافة العربية نصطدم بجهلنا باللغة العربية فنفشل في فهم الثقافة الغربية و العربية على السواء.
         وبعودتي إلى الثقافة العربية عامة والبلاغة خاصة، واطلاعي على أهم مصادرها أمثال الجاحظ و الجرجاني والسكاكي و صاحب كتاب الطراز وانفتاحي على كتب التفسير وبشكل خاص كتب الزمخشري والرازي و البيضاوي والألوسي و ابن عاشور بدأت أفهم الكثير من مفاهيم المناهج الغربية. وفي نقلها إلى الثقافة العربية، أنقلها و أنا مدرك لطبيعة التربة التي سأزرعها فيها، مدرك لأسرارها. وقد ساعدني في ذلك أمران اطلاعي على مقال عندما تسافر النظرية لأدوارد سعيد و الإشارات الخفيفة إلى عبد القاهر الجرجاني  في بعض المراجع الحداثية، يضاف إلى ذلك طبع بعض الأطاريح الجامعية الذي اشتغلت على التراث من منظور معاصر مثل رسالة بلمليح الرؤية البيانية عند الجاحظ. فاتخذت لنفسي موقفا يختلف كثيرا عن الحداثيين الموغلين في الحداثة الذي يرون الحداثة في إعلان القطائع تلو القطائع مع التراث، ويختلف أيضا عن السلفيين التقليديين الذين يرون الأصالة كل الأصالة في إعادة إنتاج ما أنتجه القدماء واجتراره .هذا الموقف هو أن الأصالة و الحداثة لا يتعارضان بل يتكاملان ، إن لم يكونا وجهين لعملة واحدة. فليست الأصالة تقليد التراث، وليس الحداثة والمعاصرة تقليد الغرب. و إنما الأصالة كل الأصالة أن نبدع كما أبدع أسلافنا لكن لا على مثال. فالأصالة تكمن في مناهج التفكير لا في مادة التفكير . هضم أسلافنا تراث الآخرين من اليونان والروم والفرس والهند  واستفادوا منه ليبدعوا فكرهم وثقافتهم ، و يجب نحن أيضا أن نهضم تراثنا وثقافة الآخرين و نبدع فكرنا وثقافتنا لنكون معاصرين.
      كان هذا الموقف هو الذي حكم تصوري لما أتيح لي وضع  مقرر للإجازة في كلية اللغة العربية في تسعينيات القرن الماضي رفقة زملاء لي وجدت فيهم خير معين، وعملنا جميعا على تطور مقررات كلية اللغة العربية حسب مستجدات الإصلاح الذي عرفه التعليم العالي، ثم ساهمت في وضع أسس مقررات السلك الثالث رفقة زملاء لي أكن لهم كل التقدير والاحترام  بفتح وحدة أسئلة الإبداع في الشعر العربي ثم وحدة البلاغة والخطاب ثم الدرس اللغوي والخطاب القرآني ثم الدرس اللغوي والعلوم الإسلامية. وما العدد الهائل من الطلبة الباحثين الذين تخرجوا من هذه الكلية والذين يشغلون اليوم مناصب في مختلف الوزارات إلا نتيجة مجهودنا المتواضع في هذا المجال.
    ولم يكن الاشتغال بالسؤال البيداغوجي أن ينسيني الهم العلمي ، فساهمت حسب ما يسمح به وقتي في تنظيم ندوات علمية قي هذه المؤسسة، وشاركت في ندوات علمية عدة داخل الوطن وخارجه  وأصدرت كتابي : القصيدة العربية المعاصرة  وساهمت في تأليف مجموعة من الكتب الجماعية ، و قد كان بودي أن أتفرغ هذه السنة لجمع المتفرق في كتاب يصدر إن شاء الله تحت عنوان : النص وبناء المعنى .
    أيها السادة الأفاضل: إن احتفاءكم اليوم بهذا العبد الضعيف ووصفه بصفات أكبر من حجمه بكثير صفة الناقد وصفة المفكر هو اعتراف منكم بما بذلته من مجهود في خدمة هذه المؤسسة، وطلبة هذه المؤسسة- كل طلبة هذه المؤسسة دون تمييز عرقي أو قبلي أو جهوي.- و أعلن أمام الله عز وجل و أمامكم بعده أنني أحبكم في الله جميعا مواطنين و أجانب طلبة وأساتذة ، ولا أشك أنكم تبادلونني حبا بحب، فقد تحملتم انفعالاتي و امتصصتم ردود أفعالي المتشنجة أحيانا ، فأدركت بذلك أنكم كنتم وما زلتم وستظلون  بالنسبة لي كالماء بالنسبة للسمكة إذا خرجتم من بينكم أموت.
     أيها السادة الأفاضل اسمحو لي أن أقف وقفة خاصة وقفة إجلال واحترام وتقدير أمام زملائي وطلبتي الذين أبوا إلا أن يحتفوا بي في هذا اليوم، و أن يربطوا هذا الاحتفاء باليوم العالمي للغة العربية تلك اللغة التي يتكلم بها لساني ويلهج بها قلبي في سري وعلانيتي، حافظا لها مكانتها الوطنية و القومية و العقدية مدركا لقيمة أختها في الوطنية والهوية و الثقافة والتربية والعادات والتقاليد  اللغة الأمازيغية التي لن يكتمل تميزنا المغربي في تعدديته وغناه إلا بهما معا وبمختلف اللهجات واللغات الأخرى التي يؤكدها دستورنا المغربي ويفتخر بها مجتمعنا .

حفظ الله هذا البلد الأمين في أمنه واستقراره ، وأبعد عنه كل الفتن، وجعلنا متحدين آمنين مطمئنين تحت لوائنا الوطني ونشيدنا الوطني وشعارنا الخالد الله الوطن الملك.      

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق