الجمعة، 3 يونيو 2016

شعرية التجربة في "سراج الأرق" لاسماعيل زويريق



        الشعر في بدايته ومنتهاه تجربة فردانية خاصة يعيشها الشاعر ويرتقى بها بواسطة الكتابة إلى مستوى التجربة الإنسانية، ويصوغها صياغة فنية تشد إليها أذنَ القارئ وقلبه قبل عقله، وتجعله يعيش التجربة التي عاشها الشاعر بطريقته الخاصة.
     وديوان سراج الأرق من الدواوين التي اكتسبت شعريتها من تجربتها الخاصة جدا. تجربة عاشها الشاعر لحظة لحظة. تجربة فقدان ابنه الشاب عدنان زويرق .

   قسم الشاعر تجربته إلى ثلاثة أقسام سماها سراج الأمل وسراج الأرق وسراج الحق. تشترك هذه العناوين في كلمة واحدة هي سراج، لكنها تفترق في الكلمات التي أضيفت إليها. هذه الكلمات تصل إلى حد التعارض بين البداية بما تعنيه من أفق مفتوح على الأمل والألق والحياة، وبين النهاية بكل ما تعنيه من انتهاء كل شيء إلى أقصى درجة الذي تعنيه كلمة حق و يقين ونهاية . وبينهما تمن مغلف بالألم واليأس لا أمل للذات الشاعرة  في تحققه. فأي سراج هذا الذي يضيء كل هذه المحطات في حياة الشاعر؟ هذا الذي يضيئه الأمل ولا يطفئه الأرق ولا الفراق الأبدي. لن يكون هذا السراج سوى الكلمةِ الشعرية التي تمنح التجربة المعيشة وجودها الحقيقي الخالد، وتضيء دواخل الشاعر ونظرته إلى الكون بكل محطاته، الشعر سراج للأمل وللأرق وللحق الذي لا حق سواه. فكيف عاش الشاعر هذه التجارب كلها؟ وكيف عبر عنها وارتقى بها لتصير تجربة إنسانية مكتملة؟
     عاش الشاعر تجربة الأمل ووثقها في حينها، لتصير سراجا لابنه في غد يضيئ  ماضيه وينير مستقبله، كما عاش تجربة الأرق وعبر عنا أيضا، أما تجربة الحق فقد عبر عنها غيره، من رفاقه وأصدقائه وزملائه، واستسلم لها رغما عنه إذ لا خيار له إلا الاستسلام لقضاء الله وقدره، لأنه يحمل كأي إنسان آخر في ذاته نقصا وعجزا أمام القضاء والقدر .  
    التجربة الأولى والثالثة في جلهما تجربتان نثريتان، والتجربة الثانية تجربة شعرية لأنها تشكل بؤرة التجربة وثقلها، كما تشكل المفارقة الكبرى التي بني عليها الديوان، لذا سمي الديوان باسمها. فالتجربة الأولى كانت وانتهت وصارت ذكرى، والتجربة الثالثة قضاء وقدر لا مفر منه، أما تجربة الأرق، ففيها أُعطِي القلبُ الحق في الإفصاح، فعبر عن معاناته جراء المفارقة بين ما تريده الذات الشاعرة أن يكون، وما يتحقق على أرض الواقع، بين الحلم واليقظة. فيقين الشاعر يحدّثه بفقدان ابنه، لكن قلبه وعواطفه تأبى هذا اليقين، فيحضر النداء ليشكل الأسلوب المهيمن في الديوان كله، وحضوره رفض مطلق صارخ  لهذا الغياب  الذي أصبح واقعا. وتحضر الصور الفوتوغرافية التي سماها الشاعر إضاءات بدءا من لوحة الغلاف و حتى نهاية الديوان، ومن الطفولة حتى عنفوان الشباب. أليس هذا رفضا للغياب؟ أليس هذا العمل حياة أخرى موازية للحياة الفانية لا يستطيع الموت أن يزورها. ألم يعلن الشاعر القديم:
   المرء ضيف في الحياة وإنني     ضيف كذلك تنهى الأعمار
   فإذا أقمت فإن شخصي بينكم     و إذا رحلت فصورتي تذكار
لم يناد الشاعر ابنه فقط، بل تمدد النداء ليشمل كل شيء يمكن أن يكون سببا في الفراق. نادى الداء  قبل الرحيل في ص 46
    حطمت ما أبقى الأسى من عودي  وفجعتني في آخر العنقود
الداء فاعل رئيس، ومفعوله ليس ابنه المصاب بالداء بل الشاعر نفسه (حطمت عودي –فجعتني...رابني من دائه ما رابني.  شجنا قعدت.قلبي توقفت نبضاته. أثار شرودي.النفس بالحزن الثقيل تنوء ... )
      ونادى الموت بعد الرحيل في الصفحة60 وص 89 فما أبقاه الداء من قلب حطيم أكمله الموت، فصار الشاعر سقيما شقيا  ميتا ملحودا أتلفه الموت كما أتلف المفقود.
ونادى ربه في قصيدة إلهي ص 62
      إلـــــــــهي أخذت ابني الأصغرا      فألهم فؤاديَ أن يصبـــــــــــــــــرا
      فما كان ينفعني  غيــــــــــــــــــــــــره      وقد قدر اللـــــــــــــــــه ما قـــــــــــدرا
و نادى الدهر ص88
      أيها الدهــــــر  ما عرفت الذي بي  فعلت ضربة الحمام الأخس
      قد توالت وشكت النفس أبعــــــا  ضا ولم ينفع أيها الدهر ترسي
     أيها الدهر ما عساك به تــأ تي  وقد لاح الفجر من غير شمس
     لم أكذب ما قد جرى لي ولـــــكن بعده صرت لا أصدق نفســــــي
        
 ونادى عدنان الحاضر وراء كل كلمة تارة باسمه وتارة بولدي وتارة أخرى بكاف الخطاب الذي يفيد الحضور الجسدي . وما كان ذلك ليكون لولا رفض الشاعر المطلق لهذا الفراق الأبدي .
في قصيدة يا موت ص50 وجه الخطاب إلى الابن ليفصح القلب عن صورتين: صورة الابن في قلب أبيه بين الماضي و الحاضر و التمني. و صورة الأب بعد فراق الابن. ففي الصورة الأولى  تواترت الصور الآتية:
صور الذكرى
صورة الحاضر
صورة التمني
- أنت صنو يوسف في حسنه المحسود .
- هنا لعبت مدللا 
- وهنا مع الأخوات تجلس في صباح العيد.
- ربيتُ أجمل ما احتواه منزلي للدود.
- تعود طائرا متحررا من قيدك المعقود.
إن الصور الثلاثة مبنية على المفارقة بين سراج الأمل و سراج الحق، فسراج الأمل يجعل من الابن كما يوسف مدلل ابيه الذي اختار أن يسمى باسمه، بل صنو يوسف في حسنه المحسود، وبين صورة الحاضر التي رسمت صورة قاتمة لواقع مأساوي. إن الصورتين معا تقفان على طرفي نقيض، الصورة الأولى تصور أجمل ما  في الشاب،  مما يوحي بانتظار مستقبل مشرق، فإذا بالصورة الثانية تقلب كل شيء إلى أقصى درجة، فتجعل كل فعل في الماضي يقود إلى النهاية المأساوية. أما الصورة الثالثة فتستقي من الماضي إيجابياته وتحرره من مأساة الحاضر ليعود الشاب إلى عالم أبيه في صورة ثانية .
      تبني القصيدة صورتها على أسطورة أدونيس، ذلك الشاب الجميل كما عدنان الذي رحل إلى عالم البقاء في حادث عارض، لكن معشوقته أفروديت أبت إلا  أن تعيده من العالم السفلي إلى العالم العلوي، وقد استجابت الآلهة لها شريطة أن يعود في صورة غير صورته الأولى. لا تختلف صورة عدنان كما رسمتها القصيدة عن صورة أدونيس كما حكتها الأسطورة. شاب جميل كأدونيس تعرض لحادث في شبابه رحل معه إلى العالم السفلي، وأب يتوسل بالشعر والمتخيل ليعيده في صورة غير صورته الأولى طائرا متحررا من القيود.
    صورة الابن الماساوية مارست تاثيرها السلبي على صورة الأب، وتحول معها كل شيء جميل إلى قبيح في عينه، فتواتر معجم مأساوي تحول الأب معه إلى مفعول مسلوب الإرادة إلا من التمني، محطم مفجوع سقيم شقي ملحود كاره لكل جديد، ملفوظ غير سعيد، مقصوم الظهر، وهو معجم يعكس مقدار المعاناة الداخلية للأب التي انعكست على كل شيء خارجي، فصار النهار دياجي سود، والبيت مكفهر ،والبدر قطعة صخر معدومة الحياة .      
      بني الديوان على مفارقة  لا يمكن أن تدرك إلا من خلال عيشها . هذه المفارقة قائمة بين أن تسمع عن التجربة، أو تشاهدها وتتحدث عنها وبين أن تعيشها وتكون موضوعا لها. فقد ظل الشاعر اسماعيل زويرق على امتداد عقود يعزي معارفه في مفقوديهم ويوصيهم صبرا، لكن لما عاش التجربة وكان موضوعا لها، أدرك كم كان يطلب المستحيل منهم، وكم كان واهما، وكم وكم. يتجلى ذلك واضحا في الديوان كله فما كان يطلبه في الماضي يرفض أن يطلب منه في الحاضر.
جاء في قصيدة يقولون صبرا و احتسابا
يقولون صبرا و احتسابــــــــــــــــــــا    و قلي بما يشجيه ذابــــــــــــــــــا
يقولون صبرا و احتسبـــــــــــــــــــه     وما جربوا هذا المصابـــــــــــــا
فلو جربوا ما جربتـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه    بموتك نفسي لن أعــــــابـــــــــــا
فكيف يلومون المعنَّــــــــــــــــــــــــــــــــى    لفلذته شق التـــــــــــــــــــــــــــــرابـــــــــــا 
إذا ما بكت عيني عليـــــــــــــــــــــــه    فما فعلت عيني صوابـــــــــــا
لأنك يا عدنان روحــــــــــــــــــــــــــــــــي   فكيف أرى الموت احتسابا
أرى الصبر يزداد ابتعــــــــــــــــــــادا   فلم أستطع منه اقترابـــــــــــــــــــــــــا
لو كان يدري عاتبي مـــــــــــــــــــا    أعاني ما اختار العتابـــــــــــا       
       وفي قصيدة   يقولون صبرا  ص57  يختزل الشاعر أقوال الآخرين في كلمة واحدة وردت مفعولا مطلقا "صبرا" لتفيد أقصى درجة التحمل. ويقابلها بجمل عدة تصف حالة القلب الذي فقد كل قدرة للصبر والتحمل
-       المصاب عظيم
-       قلبي مما دهاني حطيم
-       قلبي قطعة جمرة تحرق مني الصميم
 فهل تغير كلمة صبرا من حالة القلب شيئا ؟ هل تطفئ لهيب القلب الحطيم الذي شبه بالجمر؟
إن ما يشفي القلب و يطفئ هذا اللهيب هو حضور الفقيد. ألم تقل اليمامة لأمها الجليلة ومن معها:
أبي لا مزيد
أريد أبي عند بوابة القصر
               فوق حصان الحقيقه
                         منتصبا من جديد.
     كذلك الشاعر لا يلتفت إلى الآخرين ولا يستحضرهم إلا بضمير الجماعة الغائب يقولون، مما يفيد أن قولهم وعزاءهم رماه وراء ظهره، فهم لا يرحمون المواجع ولا فيهم قلب رحيم. ماذا ينتظر الشاعر من هؤلاء الآخرين حتى يصف قلبا منهم بالرحمة. لا يفصح عن ذلك، لكن حضور ابنه الغائب في ضمائر الخطاب تارة، واسمه الشخصي تارات أخري، و صفة البنوة ثارة ثالثة، يفيد أن القلب لن يعود إلى صوابه إلا بإعادة المفقود. و قد أطنب الشاعر في استحضاره فتكررت جمل متعددة :
-       إنك يا عدنان في مقيم
-       لم يبرح الطرفَ المقرح طيفُه
-       يستعيد ماضيه / سراج الأمل
 لكن الشاعر سرعان ما يستفيق من هذيانه و يدرك أن عدنان حلم عابر، وأن ما يطلبه أحلام تمحوها يقظة النهار، فيغيب طيف الابن و إن لم يغب حضوره في الشكوى ،لأنه القلب الرحيم الذي افتقده ليحل محله توالي الهموم  والحزن الساكن و الموت الذي يطرق الأبواب  والنار و القلب الهشيم و الهواجس و الظلام البهيم.
   و يزيد من شدة الألم المفارقة بين ما كان و ما يريده القلب أن يكون. فالطيف لم يفارق الجفن المقرح لكنه فطيم عن رؤيته، تتمنى النفس حضوره فلا تبقى إلا الرسوم، يخاف عليه يتمه فيصير هو اليتيم. ويختم الشاعر القصيدة بشاهد تراثي عله يجد فيه سلوته أنت يوسف الجميل و أنا الأب الأشقى . لم تقف هذه الصورة عند حدود الوصف لحالة الابن والأب، لكنها تستدعي تتمة القصة، فقد عاد الابن إلى حضن أبيه، وصارت شقاوته سعادة. ذلك ما يتمنى الشاعر أن يعيشه هو الآخر.كيف؟ ذلك ما يسكت عنه قلب الأب المحروق لكنه يريده وكفى .
خلاصة القول يرفض الشاعر العزاء والشفقة و يعيش الحلم العابر الذي يريد له أن يصير واقعا و لو في القصيدة .

    إن القصيدة إذن ترفض الموت المجاني، ترفض الأمر الواقع، ترفض البعد المفروض، فتبني من الحلم العابر واقعا آخر خارج الزمان والمكان يقهر الموت  وينتصر عليه. فالموت لم يغيب سوى جسد عدنان، أي الجزء الفاني منه، أما عدنان الحقيقي فلن ينزعه الموت من قلب أبيه. و حفاظا عليه، استودعه القصيدة تلو القصيدة. ذلك السراج المضيئ على مر الأزمنة . فالموت كالنار تحرق العود ليعرف عرف طيبه، لم نكن نعرف عدنان من قبل كما عرفناه اليوم، وستعرفه الأجيال القادمة. فالكتابة ولادة جديدة تقهر الفناء.  

هناك تعليق واحد:

  1. حين تتدخل لغة النقد المائزة لتحفر أخاديد المعنى وتبحث عن جذوره اللامرئية .ما أحوجنا طلابا وقراء لمثل هذه القراءات التي تسمو بنا وتجعلنا نكلف بديوان العرب .بورك يراعكم أستاذنا الكريم

    ردحذف