الجمعة، 29 مايو 2015

قراءة في قصيدة : ثمّة متسع للحلم للشاعرة توليب محمد



       الشاعر كالنبي والفيلسوف والعراف يتنبأ ويقرأ الغد، ويتطلع إلى أفق أرحب. هذا ما يرشح به عنوان هذا النص" ثمة متسع للحلم". فعندما يعجز الواقع عن استيعاب طموح الذات الشاعرة، تلجأ إلى الحلم الذي لا تحده حدود لتعيش حريتها، فتتحرر من قيود  الزمان والمكان والحدث لتحلق في اتجاه آخر السماء .
من شهقة الغيم الأخيرة
انهمر الصّوت...
صوت قابع شرق المدينة
يحفر مجرى نهر
لاكتناز الحلم
لنسغ الضّوء
       المقطع الأول مقطع وصفي لواقع تغيب عنه أفعال الذات الشاعرة . ينبني هذا المقطع من المزج بين حقلين دلالين حقل الماء وحقل الصوت، يتولد الصوت وينهمر من شهقة الغيم ليرسم للنهر مجراه. ومن تزاوج الغيم والصوت يبنى الحلم ويسيل الضوء، والعلاقة بين الماء والصوت علاقة تكامل فالماء مصدر الحياة ومنبعها، والصوت ضد الصمت المرادف للموت. فهو تعبير عن وجود الذات، فالصوت إذن يكتسب من الماء صفة البعث والحياة، و الماء يكتسب من الصوت الفعل الواعي الحالم بغد أفضل. 

أتعبنــي ضباب المسافات
ضيّعتني نوافذي
في أزقّة السّتائر المسدلة
وأرصفة الخطوات الملغومة
والطّــرق الغائمة
فكيف ألملم شرودي؟
    في المقطع الثاني تظهر الذات الشاعرة مجسدة في ضمير ياء المتكلم " أتعبني .... ضيعتني" إلا أنها لم تكن فاعلة، بل اقتصرت على أن تظهر مفعولا لأفعال سلبية في جملتين، وتائهة في البحث عن فعل لها لم تجد سبيلا إلى تحقيقه ورد في صورة استفهام: كيف ألملم شرودي؟ .إلا أن وراء هذه الأفعال أفعال أخرى تبرز محاولات الذات الشاعرة تجاوز أسر الواقع و ثباته، فالتعب يقتضي فعلا ينتج عنه، ولن يكون إلا فعلا إنسانيا يساهم في حفر مجرى النهر لاكتناز الحلم.
           تجد الذات الشاعرة نفسها أمام عوائق تتخذ صورا عدة لكنها في نهاية المطاف تمطيط و إسهاب لصورة واحدة  تحجب الرؤية الواضحة لأفق الحلم
      * ضباب المسافات 
     * أزقّة السّتائر المسدلة
     * أرصفة الخطوات الملغومة
     * الطّــرق الغائمة
             فالمسافات والأزقة و الأرصفة و الطرق كلها تنتمي إلى حقل دلالي واحد ينم عن رغبة الذات الشاعرة في التحول و الانتقال من واقعها المظلم المتسم بالشرود إلى أفق أرحب و أوسع يساهم في حفر مجرى النهر، إلا أن هذه الكلمات مقيدة كلها بصفات تعكس صعوبة الفعل بسبب انعدام الرؤية فالمسافات بها ضباب، و الضباب يحجب الرؤية، و الأزقة مسدلة الستائر، و الستائر كما الضباب تحجب الضوء و بالتالي الرؤية. و الأرصفة ملغومة مما يهدد بالانفجار و توقيف الفعل الإيجابي و الطرق غائمة و الغيم له الدور نفسه الذي للصفات السابقة أعلاه.و أمام هذه العوائق المتعددة لم يتبق أمام الذات الشاعرة سوى الاستفهام المتسم بالحيرة والضبابية و اللايقين : كيف ألملم شرودي؟
كيف لفرح منسي بخطو طفل
أن يركض على أرضكَ؟
كيف لحرف معلّق
على مشجب الانتظار
أن يسكن القصيدة
ويهجر الالتباس؟
كيف لي..
أن أنفض رماد الغبار
العالق برئتيّ؟
        في المقطع الثالث تتناسل الأسئلة، وتتفرع من السؤال الأخير في المقطع أعلاه.لتصير  أكثر وضوحا. 
·       كيف لفرح منسي بخطو طفل أن يركض على أرضك؟
·       كيف لحرف معلّق على مشجب الانتظار أن يسكن القصيدة ويهجر الالتباس؟
·       كيف لي..أن أنفض رماد الغبار العالق برئتيّ؟
       فالاستفهام منصب على كيفية تحقق الفعل/الحلم الذي يتخذ صورا متعددة، تسعى الذات الشاعرة إلى تحققه: أن يركظ  الفرح المنسي بخطو طفل على أرضك، أن يتحرر الحرف  من شرنقة الانتظار ليسكن القصيدة، أن ينفظ الغبار العالق بالرئة .
      إن الذات الشاعرة لم تفقد الأمل، لا ولم تستسلم لشرودها، وإنما تبحث عن سبل تحقيق الفعل المرتبط بالحلم  الذي يسكن الذات الشاعرة ليتجسد في البحث عن مكان للحرف/ الصوت في القصيدة في تطهير الرئة من الغبار لتتنفس هواء القصيدة  .
أدقّ باب الرّجاء
بكفّ مطعونـة بالرّحيل
للّجـــوء..
إلى أرض أكثر دفئا
لحدائق لا يُصادَر فيها الورد
لسماء تمنحني البقاء
على قيد القلب
لشمس لا تولّي وجهها
عن زهر يعـبـُدها
ثمّـــة متّــسع للحلــم
     في بداية المقطع الرابع تفعل الذات الشاعرة فعلها الأول :أدق باب الرجاء وهو فعل إيجابي يطرد عنها اليأس القاتل وتواصل الرحيل بحثا عن أرض غير الأرض الباردة الذي توجد عليها سمتها الدفء بكل ما يعنيه من  إحساس إيجابي ، بحثا عن حدائق تحتفظ بورودها و بهائها وجمالها، بحثا عن سماء تمنح قلبها البقاء بكل ما يحمله القلب من أحاسيس و مشاعر، بحثا عن شمس سمتها الوفاء لزهر يعبدها .
      في هذا العالم التي تسعى الذات إلى الحلول فيه ثمة متسع للحلم.يتحقق الحلم بتحقق شروطه، هذه الشروط التي أبدعت الذات الشاعرة في التعبير عنها بصور متعددة مستقاة من زمن الربيع الدائم حيث تبعث الحياة من جديد وتعد بمصيف مثمر آت.
         القصيدة في كليتها رحلة في اتجاه حلم تصر الذات الشاعرة على استمراريته وتحققه يمنحها وجودا حقيقيا. حلم له مجراه الخاص ينساب فيه الصوت/ الشعر، فيحررها من حالة الانتظار.
   خطاطة القصيدة: مقطع وصفي للحلم متبوع بعوائق تحققه يجسدها فعلان أتعبني و ضيعتني ثم تناسل الأسئلة حول كيفية تجاوز العوائق و أخيرا أفعال الذات الشاعرة الإيجابية لتجاوز هذه العوائق : دق باب الرجاء والرحيل إلى مكان تتحقق فيه شروط الحلم ثمة متسع للحلم. 
       إن المكان الذي تختزله كلمة ثمة في العنوان هو بؤرة النص ، لذا يتصدر جملة العنوان ، و يسهب المقطع الرابع في وصفه بصفات إيجابية يفتقدها مكان الحاضر .
- أرض أكثر دفئا .
- حدائق لا يصادر فيها الورد
- سماء تمنح البقاء على قيد القلب
- شمس لا تولي وجهها عن زهر بعبدها
أرض هذه صفاتها هي أرض اكتناز الحلم.      
         


القصيدة
 القصيدة
من شهقة الغيم الأخيرة
انهمر الصّوت...
صوت قابع شرق المدينة
يحفر مجرى نهر
لاكتناز الحلم
لنسغ الضّوء

أتعبنــي ضباب المسافات
ضيّعتني نوافذي
في أزقّة السّتائر المسدلة
وأرصفة الخطوات الملغومة
والطّــرق الغائمة
فكيف ألملم شرودي؟

كيف لفرح منسي بخطو طفل
أن يركض على أرضكَ؟
كيف لحرف معلّق
على مشجب الانتظار
أن يسكن القصيدة
ويهجر الالتباس؟
كيف لي..
أن أنفض رماد الغبار العالق برئتيّ؟

أدقّ باب الرّجاء
بكفّ مطعونـة بالرّحيل
للّجـــوء..إلى أرض أكثر دفئا
لحدائق لا يُصادَر فيها الورد
لسماء تمنحني البقاء
على قيد القلب
لشمس لا تولّي وجهها
عن زهر يعـبـُدها
ثمّـــة متّــسع للحلــم 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق