الخميس، 10 أبريل 2014

lملاحظات حول كتاب "تناص قصيدة البردة مع الشعر العربي الحديث" .لفتح الله مصباح

              
                                                     
                                                                                   د علي المتقي

        كتاب تناص قصيدة البردة مع الشعر العربي الحديث في أصله المرقون أطروحة جامعية نوقشت سنة 2006 بكلية الآداب سايس بفاس . وكان لي شرف مناقشتها إلى جانب ثلة من الأساتذة الأخيار.وكان بودي أن يكون لدي الوقت الكافي لإعادة قراءتها اليوم وقد  اتخذت شكلها النهائي بين يدي القراء ، لكن ضغوط العمل في هذه المرحلة من السنة حال دون ذلك. إلا أن علاقتي بالنادي الأدبي و بصاحب الكتاب فرض علي أن أكون حاضرا هنا الآن لأدلو بدلوي في الموضوع . فرجعت إلى وثائقي القديمة باحثا عن ملاحظاتي القديمة التي سجلتها قبل سبع سنوات ،اسمحوا أن أبدي منها تلك التي احتفت بالعمل  لأنها ما زالت آنية.

       ما زلت أذكر لما عرضت علي المشاركة في مناقشة هذا العمل  استجبت للأمر دون تردد بحكم الانطباع الإيجابي جدا الذي خلفته في ذهني قراءتي لعمله الأول تناص البردة مع النص الشعري القديم الذي أعجبت  بلغته و أسلوبه في الكتابة و طريقة بنائه للموضوع و تحويل المنهج إلى آلية لبناء صرح معرفي متين ، وكنت على يقين بأن بحثه الثاني الذي يشكل امتدادا لبحثه الأول  لن يكون أقل قيمة منه إن لم يكن أعمق وأفضل لما تراكم لديه من خبرة ومن تجربة في تعامله مع نص البردة في تجلياته في مختلف نصوص الشعر العربي .  ولما استلمت البحث و تصفحته، لم يخب ظني فقد وجدت فيه مادة علمية دسمة تستحق القراءة، فقرأت ووافقت على مناقشته فورا مبررا ذلك بما يتميز به من مميزات تجعل منه عملا أكاديميا بامتياز.
       1 ـ على مستوى الأطروحة: يتضمن العمل أطروحة مركزة في مجموعة من التساؤلات تتبعها الباحث من خلال دراسته لمتن محدد.
       2 ـ على مستوى المتن : اختيار موفق، إذ اختار الباحث نصوصا تمثيلية لكل الاتجاهات التي تناصت مع قصيدة البردة .
        3  ـ على مستوى التصميم: بناء موفق، إذ تدرج البحث من المعارضات المباشرة إلى الكتابة برؤية جديدة. فقد أعاد المؤلف تصنيف المتن وفق تصور واع لتفاعل النصوص فيما بينها منطلقا من التفاعل  الأكثر جلاء الذي يمكن أن نطلق عليه تناص الاجترار إلى  النصوص الذي تفاعلت معها  بالامتصاص ثم  النصوص الني ارتقى فيها التفاعل إلى مستوى الحوار مع النص الأول .إن هذا التصنيف الذي اتبعه الأستاذ محمد فتح الله مصباح في اعتقادي تصنيف ملائم أو الأكثر ملاءمة لموضوع هذا البحث لأن السؤال الذي يحكمه هو سؤال التناص بالدرجة الأولى   .

        4 ـ على مستوى الدراسة: يتميز هذا البحث أيضا بخاصية أساسية تكاد تنعدم في الكثير من دراساتنا الجامعية هي التوازن بين عنوان الدراسة ومتنها إذا غالبا ما يكون المتن في كثير من الدراسات أكبر بكثير من العنوان وذلك بهيمنة التضخم النظري و السرد التاريخي على متن الدراسة،  ولا نجد  موضوع البحث المحدد في العنوان غالبا إلا في الفصل الأخير و في أحسن الأحوال الباب الأخير.
     يتميز كتاب مفتاح بعكس هذه الخاصية السلبية في أبحاثنا الجامعية فمتن الدراسة مساو لعنوان بحثه. فقد التزم  بموضوعه في كل الفصول موظفا المفاهيم التي سبق أن تحدث عنها في مدخله مما خلق نوعا من الانسجام بين مدخله النظري وبين الأبواب التطبيقية التي تتميز بعمق في التحليل، وقدرة  كبيرة على الاستقراء و الاستنتاج و الاستنباط.
        5. من مميزات هذا البحث أيضا قدرته على إخراج المصطلح البلاغي و العروضي من شرنقة البلاغة المدرسية القاعدية التي تكتفي بالتبويب و التصنيف ليصير مصطلحا نقديا قابلا لإنتاج معرفة به. و خير مثال على ذلك مصطلح التشطير الذي لم يعد في دراسة مفتاح مصطلحا تقنيا ينحصر في الجمع بين شطرين واحد للشاعر وواحد لغيره ، وإنما صار ممارسة إبداعية شعرية. و تفاعلا بين نصين، يرقى إلى انصهار وذوبان وامتصاص بل وحوار بين نصين. فالحديث عن الجمع بين شطرين حديث تعليمي لايميز بين الجمع الاجتراري التقليدي و الجمع الإبداعي الحواري المتولد عن التناص و التفاعل بين النصوص. من هنا فعلى الرغم من أن مفتاح يوظف مفاهيم ظهرت ونشأت في عصر البلاغة المتأخرة التي تميزت بجمودها وتعليميتها و علميتها فقد  بعث فيها الروح بأن صهرها في بوثقة المناهج الجيدة . وهذا  التصور للتشطير لا تقوله التعاريف اللغوية والاصطلاحية التي استشهد بها مفتاح ، ولكنه تعريف للتشطير كما أراده هو  أن يكون  بعد أن ولج عالم القراءة التفاعلية للنصوص.
      6 ـ  من خصائص هذه العمل أيضا قدرته على اقتحام موضوع دقيق يحتاج إلى صبر طويل وعين دقيقة وهو موضوع الرمزية الصوتية. فالشعر إبداع لكنه أيضا بناء و صناعة. و الشاعر الفذ من امتلك ناصية اللغة وبحث بحكم موهبته وحرفيته  عن الكلمات والأصوات الملائمة  للمعنى. ، فقد أنفق فتح الله وقتا ليس بالقصير في تأمل النصوص  و تدبرها للبحث في العلاقة المنسجمة بين خصائص الصوت والمعنى، و الربط بينهما سياقيا.  يقول في أحد تأملاته عن حرف الدال : إنه صوت انفجاري مجهور يحاكي الضغط النفسي الذي يحس به الإنسان. إلا أن الضغط سرعان ما يزول عند الانفجار وخروج الصوت بشكل مجهور لاحتكاكه بالوترين الصوتيين فيحدث فيهما اهتزازا فتتراقص النفس انشراحا كما يتراقص الوتران الصوتيان . ويضيف : و إذا أزحنا كل الهوامش و المتعلقات نكون أمام بنية تركيبية عميقة هي: المراد هي سعاد من السعادة. وعناوين التشطيرات تؤكد هذا التفسير و التحليل ، فأغلب العناوين التي تتناص مع البردة  تتماثل فيما بينها  فنيل المراد وتفريج الشدة وشفاء القلب الجريح تصب كلها في المعنى ذاته، أي الانتقال من حالة الضيق والسأم والألم إلى المراد و الفرج والشفاء.
       7 .من مميزات هذ البحث أيضا لغته الواصفة التي ترقى إلى مستوى اللغة الأكاديمية العلمية الرصينة الواضحة و المفهومة .و هي خاصية نادرة إذ غالبا ما نجد الكثير من الدراسات تنظر بلغة لكن عندما تنتقل إلى التطبيق تتكلم لغة لأخرى تقليدية لا علاقة لها بما ورد في التنظير. أو على العكس من ذلك نجد لغة مغلقة يوحي تعقيدها وكثرة مصطلحاتها إلى تشويش في ذهن صاحبها .  فهناك اجتهاد في البحث عن آليات التناص في القصيدتين .وهناك أيضا قدرة على اكتشاف الظواهر ووصفها وهناك توظيف موفق لمفاهيم حديثة أخرجت البحث من التكرار الممل و اجترار ما كتب في الموضوع. زيادة على ذلك ، مستوى لغته و أسلوبه في الكتابة الذي لم يسمحا للمناقشة بأن تهوى إلى مستوى  تتبع الأخطاء اللغوية والمطبعية، لأن عين المفتش التربوي مرت من هنا فصححت ونقحت، ولم تبق لمتصيدي  أخطاء الأطاريح ما يرضي فضولهم.   
     8. من خصائص هذا الكتاب أيضا أن المؤلف  بذل مجهودا محمودا  في تحقيق نص البردة وما أضيف إليه من أبيات شعرية في ما أسماه المؤلف  بسيرورته التداولية  وهو عمل جميل . فنص البردة ليس نصا عاديا ، إذ ارتقت به سيرورته إلى مستوى النص المقدس ، ونص في مثل هذه المكانة وما حيك حوله من أخبار وروايات ورؤى كان من الطبيعي أن يضاف إليه الكثير ، وتتعدد رواياته . وكان لا بد من وقفة لتحديد النص الأقرب إلى الأصل .لهذا ففتح الله مصباح و إن كان يبحث في موضوع حديث ، فإنه كان حريصا على أن يقوم بعمل المحقق الذي لا يرضى إلا بالعمل الكامل  .
     9. وكملاحظة أخيرة على هذا العمل ، أحاط بموضوع البردة وتجلياتها في الشعر العربي قديمه وحديثه منتبها إلى قيمة هذه القصيدة التي تتقاطع فيها خصائصها  كنص صوفي تعبدي وخصائصها  كنص شعري متميز.
  وما زلت أتذكر أني قرأت هذا العمل بشغف كبير، فاستمتعت به وتمنيت  أن يرى مطبوعا وهاهي تمنياتي تتحقق، ليحتل المكانة التي يستحقها بين دراسات الشعر العربي الحديث و ليستفيد منه عموم القرآء في المشرق و المغرب.
شكرا للنادي الأدبي الذي أتاح لي هذه الفرصة لأبدي وجهة نظري في هذا الكتاب بعيدا عن سلطة الامتحان بعد أن صار فتح الله زميلا 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق