الخميس، 13 نوفمبر 2014

منارات جامعية


     
     هذه الكلمة ليست كلمتي اليوم، وإنما كلمة شاب يافع كنته قبل تسع وثلاثين سنة جاء من أقصى هذا البلد الأمين يسعى ليستقصي منابع العلم والأدب.  وفي محطة من محطات الحياة، كان اللقاء بمنارات علمية أضاءت طريقه. واليوم بعد مرور عقود على اللقاء الأول، تأبى الذاكرة إلا أن تسترجع ما تبقى لديها من تلك الأيام، فباح القلب بما يلي:

     وُضعت في السنة السابعة من عمري في بداية الطريق، و قيل لي انطلق، ومنذ ذلك التاريخ وأنا ألهث وراء غد لا يمكن اللحاق به. وفي كل محطة أتوقف فيها لأستريح، ألتفت ورائي متأملا ما قطعت من سنوات العمر، وما حققت من أهداف، فتنير ذكرياتي منارات مضيئة كان لها الدور الأكبر في توجيه رحلتي، وملء زوادتي  بما يلزم من زاد الرحلة الطويلة الأمد.
    وها أنا اليوم ألتفت متأملا سنوات بداية الثمانينيات في كلية الآداب في مراكش أتأمل مناراتها منارة منارة.
     يا الله أساتذة شباب يفيضون علما وعرفانا، وطلبة يافعون متعطشون للنهل مما تنضح به ساعات اللقاء مع أساتذتهم.  أتأملهم الأساتذة الآن واحدا واحدا.
1- المنارة الأولى :
   محمد أمنزوي منارة "النحو والصرف المطبوخ بتوابل السياسة." 

    أسلط ضوء ذاكرتي على المنارة الأولى محمد أمنزوي أستاذ مادة النحو والصرف في  السنة الأولى من الكلية عام 1979. تعود بي الذاكرة تسعا وثلاثين سنة كاملة، كانت مادة النحو كما عهدناها في كتب شروح الألفية تستعصي على الهضم بشواهدها المكرورة، ودروسها التقليدية المعتقة و شواردها الإعرابية، وصرامتها العلمية. على خلاف هذه الكتب، كانت تستهوينا كتب الشعر و الفلسفة و التاريخ التي تتيح لنا إمكانية التعبير عن أحاسيسنا و أفكارنا و أيديولوجياتنا في فترة كانت الأيديولوجية الغذاء الأساس في مطعمنا العلمي.
    لكن منذ الدرس الأول مع الأستاذ محمد أمنزوي أدركنا أننا نتنفس هواء جديدا، ونتناول غذاء لغويا مختلفا طعمه عما ألفناه من أغذية تقليدية. فلأول مرة توقف العنف في شواهدنا النحوية، ولم يعد زيد ضاربا و لا عمرو مضروبا. غاب زيد وعمرو عن دروسنا ليستريحا من فعل الضرب الذي لا ينتهي، وبنينا الشواهد النحوية  بأسمائنا ومن واقعنا السياسي الذي  يغلي، وانتقل الفاعل من اسم مجهول لا يوجد بيننا اسمه زيد إلى ضمير النحن الجماعي، وصار الفعل صادرا عنا وبإرادتنا ليقع على مفعول من اختيارنا. وصارت مادة النحو مجالا لشحذ أفكارنا وآرائنا. ما زلت أحفظ ذلك الامتحان الذي امتحنا فيه في آخر السنة الأولى : يقول النص الذي صاغة الأستاذ أمنزوي: " كل منا يستثقل كلام أنور، لأنه إنما ينفذ كلام مسخريه. ومن صدقه فقد انخدع". طُلب منا استخراج الحروف الزائدة ودلالاتها من النص . لأول مرة في مادة النحو نتذوق النص ونستشعر دلالة الأفعال المزيدة. فأحسست بثقل فعل يستثقل لأنني بالفعل كنت أستثقل خطاب أنور الإعلامي، و بالإكراه الذي يوجد في فعل ينفذ، لأن الفعل لم يكن صادرا عن إرادة الفاعل، وبألم الخديعة في فعل انخدع. فأدركت من كل هذا قيمة الحروف الزائدة في تغيير معنى الفعل.
     لم نشك لحظة أن النص صاغه الأستاذ أمنزوي، وشحنه بموقفه من قضايا عصرنا الحارقة، وما كنت لأحفظ هذا النص في ذاكرتي كل هذه السنين لو لم أجد فيه ما يشدني إليه، لغته التواصلية البسيطة التي تخلصت من الشواهد الجاهزة. مضمونه الحارق الذي يعبر عن موقف. امتحان تطبيقي وظيفي. لقد كان الأستاذ أمنزوي ينتمي إلى جيل من الأساتذة الشباب الذي تحملوا عبء تدريس علوم النحو و الصرف و فقه اللغة، وهي علوم استهلكت بحثا و تنقيبا، وتمت قولبتها في دروس تقليدية تحكمها المنظومات و شروحها وشروح الشروح. وكان الأستاذ أمنزوي مهووسا بطرح الأسئلة تلو الأسئلة على هذا الموروث اللغوي الغزير، وكيفية الاستفادة منه، وتحديد وظيفة النحو والصرف في الدراسات اللغوية المعاصرة، و كيفية تقريبه للطلبة و تحبيبه إليهم. 
      ولم يكن الأستاذ أمنزوي يشدنا بعلمه ومعرفته ودروسه فحسب، بل كان يشدني شخصيا بأخلاقه العالية، وتعامله التربوي النظيف مع طلبته. فما رأيناه يوما منفعلا، ولا منزعجا من أخطائنا البليدة. فقد كان يتسم بهدوئه ورده المقنع. 
     لما عدت إلى مراكش أستاذا مساعدا، كان الأستاذ أمنزوي من بين أساتذتي القلائل الذين احتضنوني، وفتحوا لي صدورهم و أحسسوني أنني زميل لهم. وباقترابي منه أكثر، اكتشفت فيه الباحث المحقق المنقب في مصادر اللغة العربية ومعاجمها. وهو عمل لايستطيعه إلا من أوتي علما كثير و صبرا جميلا.

       المنارة الثانية:

 الأستاذ مصطفى غلفان ردم الهوة بين النحو التقليدي و اللسانيات الحديثة.
                                      
     إذا كان الأستاذ أمنزوي قد أنزل الشاهد النحوي من برجه التراثي، فإن الأستاذ مصطفى غلفان ، أخرجه من من دائرة الأيديلوجيا التي  وسمته في دروس الأستاذ أمنزوي لنبحث عنه في حياتنا اليومية المعيشة، في لغتنا التي نتكلمها كل يوم، فتحول النحو من مجموعة من القواعد المحفوظة إلى درس  لإنتاج الكلام والتعبير عن المعنى، ففرق كبير بين أن تستشهد بالشاهد الجاهز الذي لن تسمعه خارج مدرجات الكلية ، وبين أن تبني أنت نفسك الشاهد، وتنتج الكلام، فالأول تعليم بنكي يشحن الطالب بمعلومات جاهزة، والثاني نحو وظيفي حي يستقي شواهده من المتن اللغوي المتداول في اللغة اليومية المكتوبة. 
     لقد كانت مدرسة الأستاذ غلفان مدرسة لسانية محضة  تفصل  بين ما هو سياسي وما هو لساني محض، فكانت الشواهد من المتداول المألوف، فأصبح التركيز على اللغة في ذاتها ولذاتها أي بوصفها أنساقا تحكمها قوانين يجب تمثلها لبناء كفاءتنا اللغوية. وهي مدرسة مرفوضة عند التراثيين، أذكر أنني استشهدت بمثال لغوي من حياتنا اليومية في درس الأستاذ المهدي الوافي رحمة الله عليه، فقال لي بالحرف "لو تعاملنا مع النحو بهذه الأمثلة لضاعت اللغة العربية منذ زمان .يجب أن تستشهد بما استشهد به القدماء."
     إن ما قام به الأستاذ غلفان آنذاك هو محو المسافة الفاصلة بين درس النحو ودرس اللسانيات، والخروج بهذا الأخير من إطاره النظري ليصير درسا وظيفيا لوصف لغتنا اليومية المعاصرة.
     وقد كان من حظنا في السنة الثالثة أن أسندت مادة اللسانيات إلى الأستاذ غلفان ، فكان المطبوع الذي ما زال الكثير منا يحتفظ به حتى اليوم بداية تعرفنا  على المدارس اللسانية الأربعة .
    لا يشك أحد من جيلي ممن تلمذوا في هذه المدرسة اللسانية الحداثية أن الأستاذ غلفان إلى جانب ثلة من الأساتذة الذين لن ننسوا فضلهم قد بصموا تكويننا وساهموا في انفتاحنا على الدرس اللساني الحديث في بعده النظري أولا  وفي بعده الوظيفي ثانيا. وقد كان ما تلقيناه عنده هو البذرة الأولى التي تعمقت في السنوات الموالية و أثمرت جيلا من الباحثين في الدرس اللساني الحديث وفي مناهج الدراسات الأدبية .
      أختم بطرفة بلاغية ما زالت ذاكرتي تحتفظ بها منذ أربعة عقود. أذكر ذات مساء من سنة1981 أن الأستاذ غلفان كان يشرح درسه في قاعة دار الشباب بعرصة الحامض، وأمام باب القاعة كانت هناك طالبة قاعدية تنشط حلقة طلابية. خرج الأستاذ غلفان إليها وطلب منها أن تبتعد قليلا حتى لا تزعج من يريد متابعة الدرس. فأجابته الطالبة ماشي أنت اللي غادي تقولها ليا، فقال لها بلكنته البيضاوية الساخرة "واشكون اللي غادي يقولها ليك : قالت له: حتى تقولها ليا القاعدة . وتقصد القاعدة الطلابية. فأجابها الأستاذ غلفان بحسه الفكاهي الماكر: واش القاعدة النحوية، دخلي تصنتي ليها من الصباح وهي كتخاطبك، فضحك من بالحلقة و اضطرت الطالبة إلى الانسحاب ناكسة رأسها.
    ذلك هو الأستاذ غلفان في ذاكرتي، أستاذ باحث  حداثي منفتح على المناهج الحديثة، ذو حس فكاهي وعقل هادئ راجح ، وقد التقيته بعد ذلك ، فوجدته كما تركته برجاحة عقله وحسه الفكاهي.
     حفظكم الله ورعاكم أستاذنا الجليل بما حفظ به الذكر الحكيم، وجزاكم الله خيرا عما قدمتموه من علم ومعرفة نفعت البلاد والعباد، وكونوا على يقين أن من تتلمذ على يدكم في هذه المؤسسة العامرة ما زال يذكركم بخير، ويحن إلى تلك السنوات الجميلة التي ما زالت ذكرياتها تضيء ذاكرتنا.  
المنارة الثالثة : 
المشمول بعفو الله المرحوم محمد أيت الفران : 

عندما يقترن العلم بالأخلاق يكون محمد أيت الفران


    أسلط ضوء ذاكرتي هنا و الآن على قامة أستاذنا المشمول بعفو الله ورحمته محمد أيت الفران. أتأمله واقفا ممسكا بمكبر الصوت يعلمنا كيف نتهجى أبجديات اللسانيات،,وعلاقتها بمختلف العلوم، ومفاهيمها الرئيسة التي سنصادفها خلال سنوات الإجازة، فأراه قامة من بين قامات كثيرة في هذا البلد الأمين، وقامات الرجال أنواع كما الجبال أنواع، فيها الجرداء، وفيها الخضراء الوارفة الضلال، وفيها التي تفيض شلالات وأنهارا على السهول و الوديان و الواحات لتهب الحياة أنعاما مما خلق الله وأناسي كثيرا .
     محمد أيت الفران  واحد من هذه القامات الأخيرة، خضراء وارفة الضلال، وفوق هذا وذاك تفيض شلالات وأنهارا ، إنه واحد من هذه القامات علما ومعرفة وقيما وعقيدة وإيمانا.
    فسلاما على هذا المقام  شاهدا على عطاء هذه القامة، سلاما سلاما سلاما.

    هو الآنَ يركضُ في شارعِ الذكرى،  شمسا متلألئة  لا يلحقها الأفول." آثار على الأرض تبقى، كحبات قمح.... نثرها محمد أيت الفران لما مر من هنا..  أمطرت السماء،  فاهتزت الأرض وربت و سرّت الناظرين، كل حبة أنبتت سبع سنابل، و في كل سنبلة مائة حبة .... وبين شتاء وربيع، صارت الأرض حقولا  بآلاف الزهور.... بآلاف السنابل ....بآلاف الأصوات تضحك حبلى بمصيف آت: هديل... هزيج ... صفير ....حنين .. تشكل مجتمعة سمفونية فرانية  ما زالت قاعات جامعة القاضي عياض ومؤسساتها تردد صداها.      

       لا ألقي الكلام على عواهنه، فما أنا إلا رجل جاء من أقصى هذا الوطن يسعى، ومن جاء من أقاصي الأطراف ساعيا لا يقول إلا حقا....كما شهد بذلك الكتاب العزيز مرتين.... كان أول من التقيته محمد أيت الفران، فتفيأت ظل السماحة والأخلاق، و شربت من نبع  العلم و المعرفة، فأدركت أن البيت الشعري القديم

     ليس يخلو المرء من ضد ولو ***  حاول العزلة في رأس الجبل

لم يعد مثلا حجة. فهذا أيت الفران كما عرفته  يخلو من الضد، فما سمعته يوما يتكلم بسوء عن أحد، ولا سمعت أحدا يتكلم عنه بسوء في زمن اختلط فيه الحابل بالنابل، ولم يعد أحد يفرق فيه بين الحق و الباطل. ولا اشك أن هذه الحادثة التي جرت في عهد النبوة ما زالت تتكرر اليوم من خلال أناس أحدهم الأستاذ محمد أيت الفران.

      تقول كتب الحديث :عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : كنا في المسجد عند رسول الله (ص) فقال: ((يدخل عليكم من هذا الباب رجل من أهل الجنة))، فدخل رجل من الأنصار، تنطف لحيته من وضوئه، فسلم على النبي وجلس. ولما كان اليوم الثاني قال (ص): ((يدخل من هذا الباب عليكم رجل من أهل الجنة))، فدخل ذلك الرجل الذي دخل بالأمس، ثم في اليوم الثالث، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ " ، فدخل ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ مَرْتَبَتِهِ الأُولَى قال عبد الله بن عمرو بن العاص: فقلت في نفسي: والله لأختبرن عمل ذلك الإنسان، فعسى أن أوفّق لعمل مثلِ عمله، فأنال هذا الفضل العظيم ، فأتى إليه  فقال: يا عم، إني لاحيت أبي – أي خاصمت أبي – فأردت أن أبيت ثلاث ليال عندك، آليت على نفسي أن لا أبيتها عنده، قال: لا بأس، قال عبد الله: فبت عنده ثلاث ليال، والله ما رأيت كثير صلاةٍ ولا قراءة، ولكنه إذا انقلب على فراشه من جنب إلى جنب ذكر الله، فإذا أذن الصبح قام فصلى، فلما مضت الأيام الثلاثة قلت: يا عم، والله ما بيني وبين أبي من خصومة، ولكن رسول الله ذكرك في أيامٍ ثلاثة أنك من أهل الجنة، فما رأيت مزيد عمل!! قال: هو يا ابن أخي ما رأيت، قال: فلما انصرفت دعاني فقال: غير أني أبيت ليس في قلبي غل على مسلم ولا أحسد أحداً من المسلمين على خير ساقه الله إليه، قال له عبد الله بن عمرو: تلك التي بلغَتْ بك ما بلغْتَ، وتلك التي نعجز عنها - رواه أحمد.
      لا تختلف أخلاق السي محمد أيت الفران عن أخلاق هذا الرجل الأنصاري:((....سلم المسلمون من لسانه و يده، و انتفع الناس من علمه و خلقه، لم يحقد على أحد و لم يكره أحدا، و لم يخرجه عن طوره الهادئ الحكيم أحد. ...) فقد كان وما زال وسيظل منارة يهتدى بهديها، و عينا صافية يرتشف من مائها، فما أسعد اللحظات التي كان فيها بيننا،وما أشقى اللحظات التي نفتقده  فيها . 
أستاذي الجليل :
       عليك سلام الله وقفا فإنني ***رأيت الكريم الحر ليس له عمر.

المنارة الرابعة 
عباس ارحيلة

                                                                 

          الحديث عن عباس ارحيلة استحضار لأكثر من ثلاثة عقود من الزمن، كان خلالها الجيل الذي أنتمي إليه تائها باحثا عن ذاته في خطواته، بلا بوصلة توجه هذه الخطوات في فضاء ثقافي وسياسي تتصارع فيه التيارات . في هذه الأثناء كان عباس ارحيلة يؤسس لتصور علمي هادئ، يبتدئ من حيث نحن، طلبة تائهون، حظهم من المعرفة العلمية قليل وطموحهم كبير، فكانت الخطوة الأولى أن نتعلم كيف نتعلم، وأولى خطوات التعلم ألا نعادي ما نجهل، وأن نقرأ قبل أن نحكم، وأن نعود إلى مصادر الثقافة العربية منقبين وموثقين ومحققين، حتى نستطيع أن نتكلم عن علم ومعرفة،  فاكتشفنا النقد القديم و البلاغة القديمة و كتب التفسير و المعرفة العلمية الدقيقة، فنهلنا من هذه العين الصافية التي كان لها كبير الأثر في توجيه تكويننا العلمي. ولم يكن عباس ارحيلة ليشد إليه عقولنا، نحن القادمين من هوامش هذا البلد الأمين، لو لم نجد فيه شيئا من أخلاقنا البدوية السمحة، ولولا دماثة خلقه وجميل صبره وسماحة طبعه، يستمع لحديث هذا، ويمتص غضب ذاك، و يبتسم في وجه الأخر، فوجدنا فيه أستاذا وصديقا محبا لكل من جاء حلقته.
      ونرحل من مراكش إلى الرباط لنلتقي شيخه أستاذ الأجيال الذي طالما حدثنا عنه عرضا في محاضراته، أمجد الطرابلسي ليؤكد لنا أهمية ما تعلمنا من أبجديات في مرحلة الإجازة، من القراءة السليمة للنص، إلى التوثيق العلمي، إلى الحفر في آراء القدماء ونقدهم وخلفيات آرائهم، فازداد إدراكنا لقيمة ما كنا نتلقاه على يد الأستاذ عباس ارحيلة. وبعد العودة إلى مراكش أساتذة مساعدين، احتضننا عباس ارحيلة إلى جانب ثلة من زملائه أساتذتِنا القدامى ، وجعلوا منا زملاء وأصدقاء، فزرعوا في قلوبنا الثقة بالنفس، وعلمونا أن نميز بين الوهم والعلم، وبين الشحم والورم، كان يستمع إلينا أكثر مما يتكلم، ومع مرور السنوات، تحولت هذه التلمذة والزمالة إلى صحبة طيبة قادتنا إلى الرحيل بعيدا في تخوم المغرب الشرقي مع الأستاذ عباس مرات متعددة دون أن نمل من صحبته أو يكل من رفقتنا، وأينما حللنا من الراشيدية مرورا  بورزازات حتى زاكورة نجد في طريقنا بيوتا تفتح، وألسنة تلهج باسم السي عباس.
    كان السي عباس الذي لم يتجاوز في رحلته الجنوبية - قبل رحلتنا- أيت أورير  يتوقف في منعرجات جبال تيشكا وأيت ساون في واحات قلعة مكونة و الراشيدية وورزازات فيقف مشدوها هناك، في صحراء مترامية الأطراف تبدو في أفقها جبال تدور، ونجوم تضيء سابحة  في ملكوت الله  و 
إبل سارحة، فيقرأ قول الله عز وجل: "أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت .....الآية.
    ذات ليلة كانت الساعة تشير إلى الثانية صباحا لما طلبت منه أن ينتعل حذاءه لأننا سنخرج لنتأمل ليل الصحراء وفجر الواحة، فلم يتردد ليرافقني كلمترات قليلة خارج زاكورة، فاكتشف مكانا غير المكان، وزمنا غير الزمن، فجلس يتأمل النجوم ويعيش بزوغ الفجر لحظة بلحظة، بقي هناك لساعات طويلة . ومنذ ذلك الحين و عباس مرتبط بالجنوب يحن إليه حنينا. 
                                   المنارة الخامسة
                                 عبد العزيز كسوس
                                   

    

         شاب ذو لون مراكشي أصيل ،  التحق بالكلية في سنتها الثانية، هادئ الطبع، قليل الكلام. دخل القاعة الواسعة العريضة المملوءة عن آخرها، وجلس صامتا لدقائق معدودات، حتى إذا ساد الصمت  وتطلع الكل إلى منصته بدأ درسه بالحديث عن مفهوم النقد ونشأته وتطوره، فقدم درسا بيداغوجيا  منظما  يلخص أهم قضايا النقد القديم في مرحلته الأولى، والتمس للتوسع العودة إلى مصادر ومراجع حددها لنا. فعدنا إليها واعتكفنا على قراءتها، ووجدنا وراء كل نقطة من النقط التي أملاها علينا بعد شرحها شرحا مفصلا تراكما معرفيا أغنى معرفتنا النقدية ووسع مدراكنا،  فبدأ حسنا  النقدي يتشكل شيئا فشيئا، وبدأت المفاهيم النقدية القديمة تترسخ في أذهاننا مفهوما مفهوما.

      وعلى الرغم من اعتكافنا على مصادر ومراجع متعددة ، فإن ما يقدمه الأستاذ عبد العزيز جسوس في القسم  لا نجده في هذه الكتب لأنه من بنات أفكاره الناتجة عن قراءة متأنية لمصادر النقد القديم، لذا لم تكن هذه المراجع المصادر لتغنينا عن حضور حصته، والإصغاء إلى شرحه.

    وعلى خلاف الكثير من الأساتذة الذين يفتحون علاقات لا حدود لها مع طلبتهم، كانت علاقة الأستاذ عبد العزيز جسوس بطلبته محدودة جدا يسودها الكثير من الاحترام والوقار والهيبة، وكانت حصته من الحصص التي يسودها الصمت والنقاش الرصين. وكان همنا الأول والأخير أن نصل من خلال الأسئلة التي يطرحها ومن خلال شرحه إلى طبيعة السؤال الذي يمكن أن يطرح في الامتحان.

وقد كانت دروسه المنظمة مساعدة لنا في تلخيص ما قرأناه وما اطلعنا عليه من مصادر ومراجع.

     في نهاية السنة كان سؤاله النقدي يقيس قراءاتنا وقدراتنا على التحليل والتركيب، سؤال يرصد إشكالا من إشكالات المقرر كله على الطالب أن يتتبعه في كل الدروس التي قرآناها، فما فاز إلا من كان له حس نقدي وقدرة على الاستقراء والاستنتاج والاستنباط .

      تعلمنا  من الأستاذ جسوس ليس المعرفة النقدية فحسب، بل القدرة على صياغة الأسئلة التركيبية والقدرة على تفكيكها والإحاطة بكل خيوطها. تعلمنا منه حدود العلاقة بين الطالب والأستاذ الذي زادته احتراما عندنا .

إذا تذكرت اليوم عبد العزيز جسوس تذكرت هدوءه وابتسامته الخفيفة وتحليله العميق للظواهر النقدية، وقدرته على التحليل والتركيب. 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق