الاثنين، 31 مارس 2014

مكانة العلماء في ظل الأشراف العلويين عبد الرحمان المتقي

                                    بسم الله الرحمان الرحيم 

                أمة نطق كتابها أول ما نطق بقوله:اقرأ، لا يمكن إلا أن تجل كل قارئ. أمة تتلو صباح مساء، ومنذ خمسة عشر قرنا قول رب العزة:( هل يستوي الذين يعلمون و الذين لا يعلمون) لا يمكن إلا أن ترفع الذين أوتوا العلم درجات. أمة يقول كتابها: إنما يخشى الله من عباده العلماء، و يشير آمرا: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون،  تجد أن استفتاء علمائها في أمورها واجب، و إذعانها لما أشاروا به مستوحين كتاب الله أو مستشفين مقاصد الشريعة طاعة. ومن هنا، المكانة العلية للعلماء في ظل الدولة الإسلامية. من هنا تلك المواقف المشهودة التي يتحفنا بها التاريخ لملوك العالم الإسلامي و قادته الذين اختاروا الخضوع لأمر الله بسؤال أهل الذكر،  و انقادوا لما أشار به العلماء الأشاوس ـ و لو عارض أحيانا مرادهم البشري العارض ـ ففازوا بحسنى الدارين، وللعلماء الأعلام الذين جعلوا كتاب الله هاديهم، وأخلصوا التوجيه والنصح لله ولمن أمروا بمحضهم النصح، فقاموا بواجبهم الشرعي على الوجه الأكمل، مع مراعاة المآل و المصالح المرسلة، يبتغون فضلا من الله و رضوانا. وهم بحمد الله كثر في أمة قال نبيها الكريم:( يبعث الله لهذه الأمة على رأس كل مائة عام من يجدد لها دينها) مما يفيد دوام العلم و العلماء ما تعاقب الحدثان و توالت الأزمان كما يعلق الأستاذ الفقيه عبد الكبير العلوي المدغري. 

    و لكل مهتم أن يتصفح كتب التاريخ، فهي حافلة بالمواقف النيرة من الطرفين.  ولأن الحيز الزمني المخصص لا يسمح باستعراض أمثلة تاريخية مفصلة، فسنكتفي بالإشارة إلى أن زيد بن ثابت رضي الله عنه ركب يوما، فأخذ ابن عباس رضي الله عنه بركابه ـ و هو من هو ـ فقال له زيد: خل عنك يا ابن عم رسول الله! قالها تقديرا للعترة النبوية الشريفة، فقال ابن عباس: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا. فقبل زيد رأسه، و قال: هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا. و يكفينا هذا دليلا على مكانة العلماء في فجر الدولة الإسلامية، وعلى الود المتبادل بين علماء الأمة و قادتها، خاصة إذا كانوا من آل البيت النبوي الشريف. و لئن كانت العلاقة بين الطرفين علاقة بشرية، فإن المتفق عليه بين المؤرخين هو أن مكانة العلماء كانت في الغالب عالية في ظل الدولة الإسلامية، و أنها تزداد رفعة و سموا كلما كان رأس الهرم في السلطة من المتعلمين، أو من الفقهاء المتمكنين، كما هو الشأن مع الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، و مع عمر بن عبد العزيز، بل و مع رشيد بغداد الذي تحدثنا كتب التاريخ أنه كان يذعن أمام العلماء، بل و يبكي أحيانا أمام الرأي الشرعي متى قذفه في وجهه هذا العالم أو ذاك.(تراجع قصته مع سفيان الثوري).
      و سيكون بإمكاننا أن نجزم أن مكانة العلماء في ظل الأشراف العلويين بالمغرب  لم و لن تخرج عن النموذج المشار إليه أعلاه، مع مراعاة الخصوصية المغربية، و أن العلاقة بين ملوكنا الأشراف و فقهائنا الأعلام كانت في الغالب دافئة كما سنبين. غير أننا قيدنا الموضوع بفجر الدولة العلوية الشريفة، فلزم والحالة هذه أن يقتصر كلامنا من سلسلة الأشراف على الإخوة الثلاثة: المولى محمد والمولى الرشيد والمولى إسماعيل، و أن نحصر العلماء ممن عاصر الأشراف المذكورين في نموذجين: الشيخ محمد بن ناصر الدرعي الأغلاني، والشيخ الحسن بن مسعود اليوسي. و ربما عرضنا لبعض من عاصر  هؤلاء الملوك الأوائل  استشهادا و تمثيلا. فأما الأول فكان بمنأى عن عاصمة الدولة الوليدة، و لكنه كان قطب زاوية علم و تصوف وازنة بدرعة، وهي منطقة كانت عصرئذ مسرحا لصراعات قوى متجاذبة في مرحلة تاريخية حاسمة، و طبيعي أن تنال الزاوية حظها من  لحظ مختلف القوى باختلاف رؤيتها إليها. وأما الثاني وهو تلميذه الذي التحق به يافعا وتوثقت علاقته به، فقد كان قرب العين و دار الخلافة بفاس أو مكناس أو غيرهما، فكان يرتوي بمائها حينا، وربما اكتوى ببعض نيرانها أحيانا.                        .                                 
   و بالنظر إلى الإرث التاريخي لهيئة العلماء في ظل الدولة الإسلامية،  فقد استن العلماء المغاربة في الغالب لأنفسهم سننا تحترم في علاقاتهم بعامة الناس و خاصتهم ـ وهم يعلمون قطعا أنها علاقة شرعية لها ضوابطها ـ فاضطلعوا بمسؤولياتهم على الوجه المطلوب، مستوحين شرع الله و تاريخ مؤسستهم، متسلحين بكتاب الله و سنة رسوله. يقول الأستاذ العلوي المدغري متحدثا عن الفقيه اليوسي:(.. و من أول شروط العلم وأنبل صفات العلماء الجهر بالحق والتزام الصراحة والصدق وإخلاص النصيحة لعامة المسلمين  و خاصتهم... و من شاء فليقرأ رسائله إلى المولى إسماعيل، و ليقرأ فتاويه و سائر آثاره، فسيرى من الصراحة و ثبات العقيدة ما يثبت فؤاده. ( المدغري ـ الفقيه اليوسي ـ ص 223 )        
   مكانة العلماء في ظل الأشراف العلويين:                               
 سنتناول هذا الموضوع من خلال نقطتين متكاملتين:                                       
       1) العلاقة بين مؤسسة السلطان والمؤسسة العلمية.                                               2)الأدوار التي كان الفقهاء يقومون بها على عهد الأشراف الأوائل.                     .              1ـ)العلاقة بين مؤسسة السلطان و المؤسسة العلمية: و سنلجأ إن شاء الله إلى أهل الاختصاص من المؤرخين قدامى و محدثين فنصغي إليهم وهم يحدثوننا عن مواقف الملوك العلويين المذكورين من العلم و العلماء. يقول اليوسي في رسالته إلى المولى إسماعيل:... ثم إن الملوك لم يزالوا مختلفين فيما ذكرنا حسب اختلافهم في حب العلم و أهله و الرغبة فيه... و لم يزل العلماء يترحمون على من أحيا الله العلم على يديه.( القبلي ـ رسائل أبي علي ـ ص 144).  و يقول الأستاذ أحمد عمالك:...مما يدل على حضور المخزن بدرعة و التجاوب الذي وقع بين السلطان و شيخ الناصريين الذي أصبح يسدي النصح إليه. بل إن ذلك صار بالنسبة لمحمد بن ناصر من قبيل التحدث بالنعم، فقال في رسالة إلى تلميذه عبد الملك التجموعتي:....من حسنات أمير المؤمنين سدده الله، وهي تولية قضاء درعة سيدي محمد بن علي الدادسي.(عمالك ـ حوض وادي درعة ص 57ـ نقلا عن إتحاف المعاصر)، كما نجده يرحب في بعض رسائله بقدوم السلطان المولى الرشيد إلى درعة، و يبدي انصياعه لأوامره، و يقدم فروض الطاعة، ثم يسدي إليه النصائح...(عمالك ـ حوض وادي درعة ص58). أما الفقيه اليوسي فنجده يستعرض حالة العلم و العلماء على عهد الأشراف العلويين  الذين عاصرهم، فيقول:...ثم جاء المولى محمد بن الشريف... فأحيا العلم في بلده وأعطى الفقهاء و أكرمهم وخالطهم، و حرر أهل البلاد للقراءة في القصبة، فأقام لهم بذلك التحرير مقام العطاء، وتسارعوا حتى إن الرجل المسن من أهل سجلماسة يكتب الجرومية في لوحة يقرأها. و كثرت لمجالس، و كنا هنالك، حتى إن أكثر الأيام لا نذوق طعاما إلا مع الاسفرار لانشغالنا بطلب العلم، و تقلبنا في المجالس طول النهار...ثم جاء المولى رشيد بن الشريف، فأعلى مناره، و أوضح نهاره، و أكرم العلماء إكراما لم يعهد، و أعطاهم ما لا يعد ـ لا سيما بمدينة فاس ـ فضح من قبله، و أتعب من بعده، و لو طالت مدته لجاءته علماء كل بلدة.(القبلي ـ رسائل أبي علي ص145 و ما بعدها). و يقول الناصري:... وكان رحمه الله ( المولى الرشيد) محبا في جانب العلماء، موثرا لأغراضهم، مولعا بمجالستهم، محسنا إليهم حيث كانوا. و من نوادره معهم ما حكي أن العلامة أبا عبد الله محمد المرابط الدلائي حضر يوما بمجلس السلطان المذكور، و ذلك بعد الإيقاع بزاويتهم و تغريبهم إلى فاس، فأنشد السلطان معرضا بالفقيه المذكور قول أبي الطيب المتنبي:     
    ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى     عـدوا لـه ما مـن صداقـتـه بد.            
        ففهم أبو عبد الله المرابط إشارته، فقال: أيد الله أمير المؤمنين، إن من سعادة المرء أن يكون خصمه عاقلا. فاستحسن الحاضرون حسن بديهته و لطف منزعه.(الناصري/الاستقصاء ج6 ص62). ومن تواضع المولى الرشيد رحمه الله مع أهل العلم ما حكاه الضعيف الرباطي. قال: إن مولانا الرشيد استدعى ذات يوم أحد الفقهاء ليقرأ عليه، فامتنع ذلك الفقيه، و قال كما قال الإمام مالك رضي الله عنه:العلم يؤتى ولا يأتي...فلما رجع الرسول إلى مولانا الرشيد، وأخبره بقول الفقيه وامتناعه، قال: صدق! فكان مولانا الرشيد يذهب لداره فيقرأ عليه. (الضعيف الرباطي ـ تاريخ الدولة السعيدة/ ص 55)، الشيء الذي يكشف حرص المولى الرشيد على طلب العلم و حرمته لديه. و يضيف الضعيف: ...ثم دخل(م رشيد) المدرسة المصباحية، فتعرض له أبو علي اليوسي مع فقيه آخر، فأعطى لكل واحد منهما مائة مثقال. و ما اجتمع مع علماء وقته إلا و حضر في مجلس اجتماعه معهم على نشر العلم و بثه و إتقانه و تحقيقه و تعظيم طلبته، فأقبل الناس على التعلم و التعليم، وعمرت أسواق العلم بعد ما عفت من قديم.(الضعيف الرباطي ـ تاريخ الدولة السعيدة ـ ص 56). وقد ذكر صاحب ( نشر المثاني) أنه كان يحضر مجلس الشيخ اليوسي بالقرويين.(الاستقصاءج6 ص 62 و ما بعدها) ويعلق الناصري: و هذه لعمري منقبة فخيمة و مأثرة جسيمة. فرحم الله تلك الهمم التي تعرف للعلم حقه، و تقدره قدره. ثم بعد ذلك، ينقل عن اليفرني قوله: و في أيامه كثر العلم و اعتز أهله، و ظهرت عليهم أبهته.(الاستقصاء ص 63). أما الأستاذة فاطمة خليل القبلي فتقول: و لقد قامت بين اليوسي والمولى الرشيد علاقة تتسم بالاحترام والولاء من طرف اليوسي، والإكرام والإجلال من طرف المولى الرشيد. نقله هذا الأخير إلى فاس للتدريس، فأقبل عليه اليوسي بنية صالحة...و كان (المولى الرشيد) يحب العلماء و مجالسهم، و يكرمهم و يعظمهم، ويكرم اليوسي كواحد منهم، له منزلة خاصة عنده. اقترح عليه القضاء و الفتوى فرفض اليوسي ذلك فسكت الرشيد... و لم يتخل اليوسي عن وفائه للزاوية الدلائية، و رثاها بقصيدة سارت بها الركبان دون أن يلحقه الرشيد بسوء، بل احترم فيه هذا الوفاء،   و لم يخالجه شك في حسن طوية العالم...فيظهر جليا( و الحالة هذه) أن اليوسي والطبقة المتنورة من العلماء و الفقهاء في عصر الرشيد كانوا على درجة عليا من الحرية في اتخاذ مواقفهم.( القبلي ـ رسائل أبي علي ص 70/71)..أما على عهد المولى إسماعيل، فإن العلاقة صارت أوثق وأبين وأدق. يقول الأستاذ المدغري تعليقا على رسالة من الفقيه اليوسي إلى المولى إسماعيل:... و هذه الرسالة كما نرى ذات أهمية كبيرة من وجوه...( منها)علو همة المولى إسماعيل و سمو أخلاقه الملوكية، و حرصه على سماع النصيحة الصادقة. و هذا دأبه مع سائر العلماء...نعم، إن صراحة اليوسي سببت له في شيء من الإزعاج و التغريب. وكان وراء ذلك حاشية السلطان..... ولكن اليوسي بقي محفوظ المكانة عند السلطان، و بقي هو وفيا مخلصا له، صامدا في مواقفه القائمة على ما يجب للسلطان شرعا من النصيحة والصدق، والطاعة والإخلاص.( المدغري ـ الفقيه اليوسي ـ ص 227 و ما بعدها). 
      ولنا تعليق على هذه الرسالة وغيرها مما سبق ذكره من المواقف: فعلى الرغم مما أبداه الشيخ اليوسي و بحرص شديد في كل رسائله من فروض الطاعة و الولاء والإذعان للسلطان، و ما عبر عنه من التسليم لكل ما يقوله السلطان أو يفعله به، نتساءل: هل كان يجرؤ هو أو غيره على مخاطبة ملوك زمانه بما خاطبهم به لو لم يكن مطمئنا على وجود تعاقد بين السلطان والعلماء، يقبل بموجبه الأول ما جاء به الأواخر ما دام له وجهه الشرعي، و مهما كان طعمه؟ هل كان يفعل لو لم يكن متأكدا من وجود أذن واعية لدى المخاطب تلتقط درر الشريعة و يواقيت السنة؟ و هل كان ممكنا أن يكون أبين لو لم يكن واثقا أنه يخاطب ذهنا متفقها عالما بحدود الشريعة ودروب السنة، يلتمس الصواب مهما كان طريقه شائكا و يطلبه؟ إن المولى إسماعيل كان فقيها متبصرا، و عالما مجتهدا، و كثيرا ما كان يحرص على معرفة آراء العلماء في ما كان يقوم به، و كان يستفتيهم في العديد من النوازل. يقول الفقيه المدغري: و الفتوى ابتلاء و امتحان لاسيما إذا كان العالم في عصر ملوكه متعلقون بأحكام الشريعة، متطلعون إلى رأي العلماء في كل صغيرة و كبيرة مثل عصر اليوسي الذي اشتهر فيه السلطان المولى إسماعيل على الخصوص بكثرة استفتائه للعلماء، مما كان يوقعهم في حرج كبير...( المدغري ـ الفقيه اليوسي ـ ص 192) لأن السلطان لم يكن يقنعه إلا الرأي المجلل بالحجة الدامغة، و إلا راجع صاحبه و حاجه كما وقع مرات. أما الفقهاء فقد كانت لهم قواعد تتبع في فتاويهم و آرائهم، و إليها يشير اليوسي عندما يقول: لاشك أنه يجب على أهل العلم أن يتكلموا على الحق و يبينوا الحلال و الحرام، و لكن فيما يظن قبوله و لا يخشى عليه فتنة. أما ما لا يقبل و تقع الفتنة به فساقط عنهم. (القبلي ـ رسائل أبي على ص 226). غير أن الرجل كان يذعن أمام كلمة الحق في كل الظروف. يقول الناصري معلقا على كلمة صدرت عن السلطان في حق الفقيه أبي العباس اليحمدي: وهي منقبة فخيمة للمولى إسماعيل في الخضوع للحق والاعتراف به.(الاستقصاء ـ108) و هل هناك أدل على ذلك من سكوته عن القاضي أبي عبد الله محمد العربي بردلة الذي صلى على المولى محمد العالم اقتناعا بقوة حجج الفقيه الشرعية و التاريخية أيضا.( تراجع الحجج التي أوردها القاضي في الرد على رسالة السلطان في الموضوع في الاستقصاء ج 6 ص 117).  بل إننا نجد اليوسي نفسه في إحدى رسائله يحمد الله على أنه هو في دولة سلطان هاشمي علوي فاطمي، يستمع إلى الحق و لا يأنف عنه.( القبلي ـ رسائل أبي علي ص71) . و قد بلغ من تتبع المولى إسماعيل لأمور العلماء أنه كان يستدعي بعضهم لمناقشته فيما قد يكون صدر عنه أو بلغه. يقول صاحب الاستقصاء: كان السلطان المولى إسماعيل بن الشريف رحمه الله قد استدعى الشيخ سيدي أحمد بن ناصر( وهو ابن الشيخ محمد بن ناصر الذي تولى مشيخة الزاوية بعده)...فجاء إلى الشيخ جماعة من العلماء الأعلام.. و قد تخوفوا عليه...و قدم الشيخ المذكور على السلطان...( الذي) جاء إليه بنفسه وهو في روضة الشيخ أبي عثمان سعيد بن أبي بكر، و تلقاه بالقبول و التعظيم و التبجيل و التكريم. و صافحه بيده، و جلس معه في داخل القبة ساعة. و لما خرج السلطان رحمه الله من عنده جعل ينادي بلسانه في أصحابه ويقول: زوروا سيدي أحمد بن ناصر يا الناس... و يكررها من صميم قلبه.( الناصري ـ الاستقصاء ج6 ص 137). بل إن الأمر يتجاوز ذلك إلى تتبع أعمال الفقهاء و تقويمها، والإشارة إلى ما يجب عليهم فعله. يقول في رسالته الشهيرة إليهم:...وأنتم علماء المسلمين و أئمة الدين...بلغني أنه حصل منكم تقصير في التعليم حتى كاد أن يضيع العلم من فاس وهي أم مدن المغرب، فيكون في غيرها أضيع. فنامركم أن ترجعوا لما كنتم عليه من الاجتهاد و نفع الحاضر و الباد، و اعملوا بما ينفعكم يوم المعاد. وستعمكم عطايا تعم المعلم والمتعلم.(المدغري ـ الفقيه اليوسي ص 85). و نختم هذه الكلام في هذا الموضوع بالإشارة إلى تلك المكانة التي لقيها العلماء الدلائيون في فاس بعد إخلاء زاويتهم، فقد(كان لهم المزيد من الحظوة و الشفوف منذ الأيام الأولى التي وطئت أقدامهم فيها أرض فاس، حتى إن السلطان الرشيد كان يوليهم كثيرا من الإجلال والتقدير...  و يجالس في قصره اليوسي و محمدا المرابط الدلائي و يتحدث إليهما من غير كلفة و لا احتراس. و قد سلك السلطان إسماعيل الخطة نفسها التي سلكها معهم أخوه الرشيد من قبل، فأحاطهم بمظاهر الإكرام و الاحترام... و تطور مركز الدلائيين في فاس بسرعة،  و لم يعد أعلامهم يضاهون العلماء الفاسيين، بل بزوهم و غبروا في وجوههم، و احتلوا الصدارة الأرستقراطية الدينية  والفكرية في فاس.(محمد حجي ـ الزاوية الدلائية ـ ص 264/265).                 .                          
     2 ـ) أدوار الفقهاء في فجر الدولة العلوية: و لو شئنا أن نحدد الأدوار التي كان الفقهاء يقومون بها عصرئذ لوجدناها متعددة متنوعة، تبدأ بالتصدر للتدريس زكاة لعلمهم، و تمر عبر سلسلة من المهام الشرعية و المدنية كالإمامة والخطابة، والفتاوى الشرعية، وإصلاح ذات البين بين الأشخاص أو القبائل، و بيان وجه الشرع في ما يعرض للناس من تقلبات الدهر و نوازله، ولا تنتهي جزما بالتصنيف العلمي و إخلاص النصح للملوك و القادة من الخاصة قبل العامة. ولن يكون بإمكاننا أن نقف عندها واحدة واحدة،      و لذلك، سنكتفي بالوقوف عند التصدر للتدريس مهمة مدنية، ثم بعد ذلك سنعرج على بعض ما له علاقة بأولياء الأمور مما يزيد أدوار العلماء توضيحا:                                      .              
       ـ2ـ1) التصدر للتدريس: أول واجبات العلماء الشرعية تصدرهم للتدريس، و إفادة العباد بما من به عليهم رب العباد. ولا يكاد أحدهم يقتعد مقعدا بزاوية أو مسجد حتى يتقاطر عليه الطلاب من كل الأصقاع، خاصة إذا كانت له نية صالحة في الإفادة، و سار بذكر علمه الركبان. يقول أبو علي اليوسي: فالتعليم متى أمكن بنية صالحة مع وجود أهله لا ينكر فضله، فهو من أفضل العبادات و أرفع القربات.( القبلي ـ رسائل أبي علي ـ ص188). وطلب العلم و الاشتغال بالتعليم نوع من الجهاد، بل هو الجهاد الثاني، بل هو أهم الجهادين.( القبلي ـ رسائل أبي علي ـ ص138).و قد اضطلع علماؤنا القدامى رحمهم الله بهذه المهمة بهمم عالية و نوايا حسنة سيرا على نهج أسلافهم. يقول الأستاذ حجي عن العلماء الدلائيين: ...فقد أخذوا يشتغلون بالتدريس كما كانوا يفعلون في الدلاء، و انتشروا في مساجد المدينة الإدريسية و مدارسها يعقدون المجالس العلمية و يفيدون الطلبة الذين أقبلوا عليهم إقبالا عظيما.( حجي ـ الزاوية الدلائية ـ ص 263). و يقول اليوسي متحدثا عن شيخه ابن ناصر:وكان رضي الله عنه...لا يخل بعلم الظاهر تدريسا وتأليفا و تقييدا و ضبطا....     فانتفع به الخلق.(الاستقصاء ـ ص 131). أما الأستاذ محمد حجي فيقول عنه:.... ثم آل أمر زاوية تمكروت إلى محمد بن ناصر و قصده المتعلمون من جميع جهات الصحراء. فكانت ثالث مركز قروي يدرس فيه كتاب سيبويه لهذا العهد، بينما لا نجد أثرا لدراسة( الكتاب) في فاس أو مراكش وغيرهما.(حجي ـ الحركة الفكرية ـ ص 228). و نختم برأي الأستاذ أحمد البوزيدي الذي يقول عنه:...و ذكر صاحب الدرر المرصعة أن محمد بن ناصر...تصدر للعلم بزاوية أبيه، وعرف بالعلم و الدين...فتحولت الزاوية في أيام مشيخته    و مشيخة ابنه أحمد بن ناصر إلى أهم زاوية في الجنوب المغربي على الإطلاق لكثرة أتباعها و تعدد طلاب العلم بها. ( البوزيدي ـ التاريخ الاجتماعي لدرعة ـ ص 130  و ما بعدها). هذا عن الشيخ ابن ناصر.أما الشيخ اليوسي فالحديث يطول عن تصدره للتعليم،      و عن اعتزازه بعلمه و طريقته، بل و تحديه لأهل فاس و هو يعتلي منابرهم بأمر السلطان المولى الرشيد الذي كان حضوره في مجلسه بالقرويين قيمة مضافة للشيخ اليوسي. و تحدثنا كتب التاريخ و يحدثنا هو نفسه عن كثرة طلاب مجلسه وخلو مجالس غيره، الشيء الذي أثار حفيظتهم، و عملوا على إخراجه من فاس.أما مع المولى إسماعيل فقد عاد اليوسي إلى  البادية مسايرة لطبعه، و اتخذ لنفسه زاوية عجت بالأوراد و الأذكار، و تضوعت مجالسها بالعلوم و المناظرات. بل إننا نستغرب من قوة ردوده على المولى إسماعيل وقد طلب دخوله إلى المدينة ليفيد الناس بعلمه. ولم لا يفعل و قد وصفه أستاذه أبو عبد الله المرابط في أجازته بالقول:.. فارس الإملاء و التدريس،.. ذو التدقيق المعهود...المتمسك من الرواية بأسبابها،    و من الدراية بأهدابها؟ (المدغري ـ الفقيه اليوسي ـ ص 164 /165).و يقول الناصري:.. و لما دخل مراكش تصدر بها لإقراء علم التفسير بجامع الأشراف...فعجب الناس من غزارة مادته مع أنه ربما بات في ضريح بعض الأولياء...فلا يطالع كتابا...فإذا أصبح و جلس على الكرسي أطلق لسانه بما يبهر العقول... و بالجملة، فهو آخر العلماء الراسخين، بل خاتمة الفحول من الرجال المحققين.(الاستقصاء ـ ص 135).                      .                                   
       ـ2ـ2) إسداء النصيحة للقادة: هذه المهمة واجب شرعي على العلماء لقادة الأمة وعامة الناس. قال صلى الله عليه و سلم: الدين النصيحة... الحديث. و قد اضطلع علماؤنا القدامى بها بهمة على عهد الملوك الأشراف رحمهم الله، و لم يذخروا جهدا في أداء رسالتهم في هذا المجال. الملاحظ أنهم يحرصون قبل كل شيء على أداء فروض الطاعة     و الولاء، و على بيان أن النصيحة جاءت استجابة لرغبة السلطان أو طمعا في فوزه بخير الدارين، وأنهم يراعون أقصى حدود اللياقة في خطابهم لمعرفتهم بمكانة المخاطبين، ويختمون دوما بصالح الدعاء.(و في هذا كله بروز واضح للخصوصية المغربية). و مع ذلك يبقى صوت الحق مجلجلا. و إن القارئ لمصنفاتهم أو لرسائلهم ليعجب من قوة أسلوبهم      و جرأة حججهم و استدلالاتهم الشرعية و التاريخية التي لا تنضب. وهي مصنفات و رسائل ـ وإن كانت ترفع من قيمة أصحابها ـ إلا أنها تكشف عظمة المخاطبين بها رجالا و قادة مسلمين يلتمسون المستند الشرعي لما يقومون به، و تكشف أيضا وجود ما أسميناه من قبل بالتعاقد بين الطرفين على أداء العلماء للنصيحة، و قبول السلطان لها ما دامت تطابق الشرع. و سنكتفي ببعض الأمثلة الدالة من المرحلة التي نتحدث عنها: فهذا الشيخ محمد بن ناصر الدرعي يرحب في بعض رسائله بقدوم السلطان المولى الرشيد إلى درعة، ويبدي الانصياع لأوامره، و يقدم فروض الطاعة، ثم بعد ذلك يسدي النصائح للسلطان، ويحمله مسؤولية استخلافه في الأرض، و ما يتطلبه ذلك الاستخلاف من الوقوف على ساق الجد في أمور الرعية.( عمالك ـ حوض وادي درعةـ ص 58/59). و هذا الشيخ اليوسي يدعو المولى إسماعيل إلى التشبه بالخلفاء الراشدين الذين كانوا يرغبون في النصح و يطلبونه، وأن علماء زمانهم عرفوا منهم ذلك فأخلصوا لهم التوجيه...ثم يختم بحمد الله على أنه في  دولة سلطان هاشمي علوي فاطمي، يستمع إلى الحق و لا يأنف عنه.( القبلي ـ رسائل أبي علي/ ص 71). و يقول في رسالة أخرى:... و كنا كثيرا ما نرى من سيدنا التشوق إلى الموعظة   و النصح... فأردنا أن نرسل إلى سيدنا ما إن وفق إلى النهوض إليه رجونا له ربح الدنيا و الآخرة، و الارتقاء إلى الدرجات الفاخرة،  و رجونا و إن لم نكن أهلا لأن نعظ أن يكون سيدنا أهلا لأن يتعظ.(الاستقصاء ـ ص 110). و نختم أمثلة النصح بمقتطف من رسالة أخرى يقول فيها:.. و ليسأل من معه من الفقهاء الثقات، الذين يتقون الله ولا يخافون في الله لومة لائم. فما أمروه به فعله، و ما نهوه عنه انتهى. هذه طريق النجاة إن شاء الله تعالى. نسأل الله تعالى أن يرزق سيدنا توفيقا و تسديدا، و أن يصلح بوجوده البلاد والعباد.آمين و الحمد لله رب العالمين.(الاستقصاء ـ ص 113).                           .                         ـ2ـ3) إبلاغ السلطان شكاوى الناس و التشفع لديه، و حثه على المكرمات:  وهذه مهمة جسيمة، العلماء أولى الناس بالقيام بها لمكانتهم عند السلطان، وإن كان بعضهم يأنف من التشفع كما سنرى. ( فقد أنكر محمد بن ناصر شيخ تمكروت أشياء على قاضي درعة محمد بن الحسين التكمادارتي، فرفع أمره إلى السلطان الذي تدخل على التو، و عين قاضيا آخر.( نقلا عن طلعة المشتري ـ ج1 ص 144 و ما بعدها) و تدخل لديه مرة أخرى ليقترح عليه تولية الفقيه السيد العربي بن عبد العزيز فتوى درعة و سجلماسة، و ختم بقوله: ذلك أقسط و أقوم للدين، وأمهر لثبات ملكك و استقامة الأحوال، إذ بصلاح قضاة الملك تصلح الأمور كلها...و لم يأل جهدا في التدخل مباشرة لدى السلطان يترفقه و يستعطفه في إطلاق سراح رجلين من منطقة الزركان.( عمالك ـ حوض وادي درعة ص 57). أما الشيخ اليوسي فيقول:... ثم لما رآني الناس أطلع على السلطان لبعض الأحيان، جعلوا يتعلقون بي طلبا للشفاعة و يثقلون علي، و أنا ما أحب أن أفتح ذلك الباب علي لأني لا أقدر على ذلك     و لا أصلح له...إنما أنا رجل بدوي.( القبلي ـ رسائل أبي علي ـ ص 170 ).أما في الحث على المكارم, فنقرأ لليوسي قوله:...ثم قد انتهت النوبة اليوم إلى سيدنا( المولى إسماعيل)       و مصباح زماننا, و شمس غربنا. فأي شيء يمنعه و همته أعلى، و خزائنه أملا، و قريحته أقوى، و بصيرته أضوا، من أن ينتهض إلى بناء هذه المكارم، و تأسيس هذه الدعائم،         و تجديد هذه المعالم، و إحياء هذه المراسم، فيملأ مساجد فاس و مكناسة و سلا و تطاوين     و مراكش وسجلماسة و درعة بمجالس العلم و فرسان البحث و الفهم..فإن بيوت المال بالحواضر وافرة، و أمناؤها بأبوابها حاضرة، ولم يبق إلا الأمر السلطاني بالإعطاء، فإذا الدنيا زاهرة، و أهل العلم متظافرة...فمن وفقه الله من الملوك فأنفق المال في نشر العلم،       و أقام المرتبات، و أحسن الجوائز، حيي التعليم في زمانه، وأزهرت رياضه، و تفجرت حياضه( القبلي ـ رسائل أبي علي ص 147)                     .                                               
    ـ2ـ4) مشاركة السلطان همومه، و توظيف المعارف لتهوينها عليه: و هذه من مهام خاصة السلطان من العلماء في الغالب، القريبين منه مكانة و مكانا، و ربما اضطلع بها من رأى نفسه أهلا أن يفعل و إن نأت الديار، و ذلك لحاجة الملوك و قادة الأمة إلى من يلذذ الحار من لقم العيش و يثلج الساخن من جرع الحياة كما عبر الأستاذ أحمد شحلان في موقف مشابه. و سنكتفي بمثال واحد دال: قال أبو عبد الله أكنسوس: حدثني بعض الثقات أن السلطان المولى إسماعيل رحمه الله لما أعياه أمر ابن أخيه ( المولى أحمد بن محرز) أصبح ذات يوم كئيبا. فقال لوزيره الفقيه أبي العباس اليحمدي: إني رأيت في هذه الليلة رؤيا أحزنتني إلى الغاية! فقال: و ما هي يا مولاي؟.. قال: رأيت كأن هذه الجنود التي معنا ما بقي منها أحد، و لم يبق إلا أنا و أنت مختفيين في غار مظلم. فسجد الوزير شكرا لله تعالى وأطال السجود. ثم رفع رأسه و قال: أبشر يا مولانا، فقد نصرنا الله على هذا الرجل! فقال له السلطان: و من أين لك ذلك؟ قال: من قوله تعالى: ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا. قال صلى الله عليه و سلم: فما ظنك باثنين الله ثالثها؟ فسر السلطان بذلك غاية السرور، و أسري عنه ما كان يجده من الغم.( الاستقصاء ـ ص 89).                 و نريد أن نستمر في استعراض أدوار العلماء والاستشهاد لكل دور بوقائع وأقوال، مما يكشف عظمة هذا التاريخ الذي تقف عليه بلادنا بشموخ. غير أن الوقت لا يسعف. و عليه، نقول إجمالا: إنه كان لعلمائنا الأعلام مكانة لا يعلى عليها منذ فجر الدولة الشريفة بشهادة المؤرخين و الباحثين، و أن قادة هذه البلاد كانوا منذئذ متشبثين بالشريعة،   و كانوا يقدرون الفقهاء و يحملونهم مسؤوليات البت في النوازل والفتوى و التدخل كلما دعا داع لضمان الاستقرار وسريان نفوذ السلطة المركزية بما هي سلطة شرعية. و بالنظر إلى مكانتهم لدى السلطان و في المجتمع، أصبحوا يلعبون أدوارا اجتماعية هامة في حياة الأمة، خاصة منهم أصحاب الزوايا. يقول الأستاذ أحمد البوزيدي:...و قد كانت مثل هذه الأعمال كافية لأن تجعل المرابط صاحب الزاوية وليا مشهورا، و رجلا صالحا يلتمس الناس بمختلف طبقاتهم بركة دعواته، و لا يترددون في اتخاذه واسطة لفض نزاعاتهم المستعصية، وعقد الصلح بين القبائل، كما كانوا يستحرمون به من تعسفات الشيوخ...وعمال المخزن مهما كبر شأنهم.(البوزيدي ـ التاريخ الاجتماعي لدرعة/ ص 125).                                  .                      
و الله من وراء القصد، يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.                  .




            
المراجع المعتمدة:

     1) الدرر المرصعة بأخبار أعيان درعة ـ محمد المكي الناصري ـ صورة مخطوط في ملكية الأستاذ أحمد البوزيدي.                                       .                                         2)الحركة الفكرية في عهد السعديين ـ محمد حجي ـ منشورات دار المغرب للتأليف  و الترجمة و النشر ـ 1976.                                          .                              
        3) رسائل أبي علي الحسن بن مسعود اليوسي ـ جمع و تحقيق و دراسة فاطمة خليل القبلي ـ دار الثقافة ـ الطبعة الأولى ـ 1981.                                         .                         4) تاريخ الدولة السعيدة ـ للضعيف الرباطي ـ نشر دار المأثورات ـ الطبعة الأولى ـ 1986 5) الزاوية الدلائية و دورها الديني و العلمي و السياسي ـ محمد حجي ـ مطبعة النجاح الجديدة ـ الطبعة الثانية ـ 1988.                                                                       

6) الفقيه أبو علي اليوسي / نموذج من الفكر المغربي في فجر الدولة العلوية ـ عبد الكبير العلوي المدغري ـ مطبوعات وزارة الأوقاف و الشؤون الإسلامية ـ 1989.     
  . 7) التاريخ الاجتماعي لدرعة ـ أحمد البوزيدي ـ مطبعة آفاق متوسطية ـ 1994.         
      8) حوض وادي درعة ملتقى حضاري و فضاء للثقافة و الإبداع ـ منشورات كلية الآداب و العلوم الإنسانية بأكادير ـ 1996.                  
   9) الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى ـ لأحمد بن خالد الناصري ـ تحقيق و تعليق الأستاذ أحمد الناصري ـ منشورات وزارة الثقافة و الاتصال بإشراف الأساتذة محمد حجي، إبراهيم بوطالب، أحمد التوفيق ـ ج 6 ـ مطبعة النجاح الجديدة ـ البيضاء ـ 2001.                                                        

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق