السبت، 19 فبراير 2022

الفقيه علي بن محمد التامكروتي ونفحته المسكية

 

ا                               

                                        

         تمهيد: كانت بلاد درعة الوسطى في القرن العاشر بلاد علم ومجمع علماء وفقهاء. وانتشار الزوايا على امتداد الوادي أثر دال على هذه الظاهرة، إلا أن هذا الانتشار لم يحقق تراكما علميا ومعرفيا في القرون الموالية، مما يدفعنا إلى التساؤل: أين أثر القرن العاشر في ما بعده، ولماذا اضمحل العلم وقل العلماء بعد هذا القرن؟

       يرجع الباحثون السبب الرئيس في ذلك إلى توالي الأوبئة التي أبادت الكثير من الناس، وإلى الهجرات المتوالية التي فرضتها الظروف المناخية، إذ لم يكن وادي درعة واديا دائم الاخضرار، فقد توالت عليه فترات جفاف قاتلة عصفت بالأخضر واليابس، مما دفع بالكثير من رجالاته وعلمائه إلى الهجرة منه كما جاؤوا إليه في فترات اخضراره.

     1.ومن بين الذين جاؤوا إلى وادي درعة واستقروا به، وأسسوا زواياهم بجهاته، وتفرغوا للتدريس بها  العالم العلامة السوسي الأصل سيدي علي بن محمد الجزولي البكري التمكروتي المتوفى حوالي 940 ه وهو عالم صالح لقب بشيخ الإسلام  وقدوة الأنام([1]). وهو حسب محمد حجي أول قادم من هذه الأسرة السوسية إلى تامكروت. أسس زاويته المعروفة باسمه، وخلف بعد وفاته ولدين عالمين هما: عبد الله بن علي التامكروتي ومحمد بن علي التامكروتي، اللذان تلقيا العلم  على شيخ تونس عبد العزيز القسنطيني، وذاعت شهرتهما في المشرق. وكانت لمحمد رسائل مع شيخ الفلكيين المصريين الذي راسله في شأن انحراف قبلة المساجد في المغرب. وقد خلف هذا العلامة ثلاثة أبناء: عبد الله بن محمد بن علي التامكروتي، ومحمد بن محمد بن علي التامكروتي الذي كان سفيرا لعبد الله الغالب إلى الباب العالي بتركيا، وأستاذا للسلطان أحمد المنصور الذهبي. والثالث مؤلف النفحة المسكية علي بن محمد بن علي التامكروتي الذي تلقى العلم النافع عن مشايخ منطقة درعة، وتفرغ للتدريس بزاويته إلى أن استدعاه السلطان أحمد المنصور الذهبي للقدوم عليه في فاس سنة 997 هـ. ولما مثل بين يديه، كلفه برئاسة وفد سفاري إلى الدولة التركية ليحمل رسالة سلطانية إلى الباب العالي. وكان ضمن الوفد الكاتب المغربي المشهور العلامة محمد بن علي الفشتالي والكاتب محمد بن علي بن أبي القاسم. وبعد عودته تفرغ لكتابة رحلته التي وسمها بعنوان النفحة المسكية في السفارة التركية . توفي رحمه الله في بداية القرن الحادي عشر حوالي سنة 1003 ه.

 

      2. كتابه النفحة المسكية في السفارة التركية([2]).

 1.2.مفهوم الرحلة السفارية : جاء في اللسان: السَّفِيرُ: الرَّسول والمصلح بين القوم، والجمع سُفَراءُ؛ وقد سَفَرَ بينهم يَسْفِرُ سَفْراً وسِفارة وسَفارة: أَصلح. وفي حديث عليّ أَنه قال لعثمان: إِن الناس قد اسْتَسْفَرُوني بينك وبينهم أَي جعلوني سفيراً، وهو الرسول المصلح بين القوم. يقال: سَفَرْتُ بين القوم إِذا سَعَيْتَ بينهم في الإصلاح. ([3])

      وفي الصحاح في اللغة: السَفيرُ: الرسولُ المصلِحُ بين القوم، والجمع سُفَراءُ. وسَفَرْتُ بين القوم أَسْفِرُ سِفارَةً: أصلحْتُ. فالسفارة في اللغة إذاً الإصلاح. أي العمل الذي يقوم به السفير لإصلاح ذات البين بين طرفين وإرجاع الأمور إلى نصابها. ([4])

        وقد كانت  العلاقات المغربية التركية مشوبة بالحذر، مما استدعى تعدد السفارات بينهما، إذ لم يتوقف السفراء بينهما طيلة قيام الدولة السعدية حفاظا على الهدنة القائمة بينهما، وإطفاء نار الفتن التي يعلو دخانها بين فينة وأخرى . يقول صاحب الاستقصا في أخبار المغرب الأقصى الجزء الخامس ص 97 : «وقال صاحب خلاصة الأثر:  "كان المنصور موادعا لسلاطين آل عثمان فيرسل إليهم بالهدايا في كل سنة، وكانوا هم يرسلون إليه بالمكاتيب والخلع السنية، حتى إن السلطان مراد بن سليم كتب إليه أثناء مكاتبيه:« لك علي العهد أن لا أمد  يدي  إليك إلا للمصافحة، وإن خاطري لا ينوي لك إلا الخير والمسامحة. »  وكانت رسله دائما تأتي إلى القسطنطينية من جانب البحر، ويمكثون زمنا طويلا ويتعهدون الوزراء، ومن له قرب من الدولة من جملتهم الرئيس الأديب محمد الأمين الدفتري فقد ذكر صاحب خلاصة الأثر أن هذا الرئيس كان يجمع نفائس الكتب ويبعث بها إلى المنصور. فبسبب ذلك كانت المراسلات بينهما غير منقطعة. » ([5]).

         وتعد نصوص الرحلات السفارية من أهم النصوص والوثائق التي جسدت التواصل بين الأمم، والتعريف بالفضاء الجغرافي والاجتماعي للآخر. وقد تتجاوز ذلك إلى اندماج ذات المؤلف في صياغة المرئي مما يجعل منها مصدرا من مصادر تقويم المتخيل البصري للإنسان العربي، وبلورة الوعي بالهوية والخصوصية السياسية والاجتماعية والعقدية والمذهبية للذات من خلال الاحتكاك المباشر مع الآخر([6]).

        الرحلة السفارية أيضا اختبار متعدد للقدرات الدبلوماسية لصاحبها ولمؤهلاته في رصد خصوصيات الآخر وبلورة نص متعدد يجمع بين الوصف والرصد والتمحيص والتحليل والمتعة الأدبية([7])، خصوصا إذا كان هذا النوع من النصوص قد كتب تحت الطلب، لإن المبعوث يكون في هذه الحالة عين الباعث فيصف الأمكنة والمسافات والأشخاص ....

      فالنفحة المسكية إذًا نص جامع متعدد، كتب بعد القيام بمهمة السفارة التركية بكل وظائفها. و يمكن أن نميز فيه أربعة أنواع من الخطاب:

     -الخطاب الجغرافي التاريخي الذي كان فيه المؤلف مجرد  واصف للفضاء التاريخي والجغرافي والاقتصادي والاجتماعي.

     -الخطاب السياسي الدبلوماسي  المغلف بالشرعية الدينية.

     -الخطاب  الديني والعقدي الذي أفصح فيه عن هويته وخصوصياته العقدية والمذهبية والصوفية التعبدية.

     -الخطاب الأدبي الذي تحرر فيه  من جبة الفقيه وقبعة الدبلوماسي ليطلق العنان لذاته  في مجال الواقع ومتخيله.

       فيما يخص الخطاب الأول، يتجسد في وصف المدن التي مر بها الوفد، من وهران حتى القسطنطينية: واقعها وتاريخها وأهميتها العلمية والاقتصادية، ومداخلها البحرية والبرية،  ومواقعها في خريطة الصراع السياسي بين المسلمين والنصارى.

        ونكتفي هنا بإيراد مثل واحد يقول عن مدينة تونس : "مدينة عظيمة، دار علم وتجارة وفضل، هي كرسي مملكة افريقيا بعد القيروان، فيها مساجد عامرة بذكر الله و أسواق عامرة بفضل الله مفيدة، إلا أنها اليوم في غاية الضعف لتوالي الفتن عليها، أخذها الترك من بقية الحفصيين، ثم أخذها النصارى بواسطة من بقي من الحفصيين فقسموا البلاد بينهم وبين من بقي تحت أيدهم من المسلمين نصفين . ... " ([8]) .

         كما عرف بعلمائها، وجالس الأحياء منهم، وتحدث عنهم بإعجاب، فتحدث عن شيخه عبد العزيز القسنطيني، وزار قبر عمه عبد الله بن علي الذي كان ملازما لشيخه إلى أن توفاه الله هناك، وغيرهما من العلماء والصالحين([9]). وانتقل للحديث عن منارتها العلمية جامع الزيتونة قائلا: " وزرنا جامع الزيتونة، وما أدراك ما الجامع، جامع عظيم البركة، يعلوه نور ومهابة وانشراح من أثر من سلكه من العلماء والصالحين، ينبسط فيه القلب وينشرح الخاطر، لا يحب داخله أن يخرج منه، مرفوع على أساطين وأعمدة من رخام ملون عديم النظير بديع الصنعة مبني كله بحجر منحوت، له صحن فسيح بديع الحسن بهيج المنظر.([10])

     ولم يكتف المؤلف بواصف واقع البلد بل عاد إلى التاريخ وتحدث بتفصيل عن هذه المدينة كما تحدث عنها البكري والبلوي وابن عبد ربه . وبذلك يجمع الكتاب بين معرفتين:

-     المعرفة الأولى: ما تمت معاينته من الواقع في حركيته، وهو " المصدر الرئيسي للحقيقة لأنه مكفول بتجربة الملاحظ."[11]

-     المعرفة الثانية: ما استقاه من كتب البكري والبلوي وابن عبد ربه. وهي " معرفة مكملة ومدعمة لنتائج الملاحظة المباشرة ."[12]

      وقد انتقد الكثير من الدارسين الاهتمام بهذه التفاصيل التاريخية والنقول عن كتب أخرى([13])، إلا أننا نرى أن هذا الوصف كان في صلب اهتمامات الوفد السفاري. فالدولة السعدية تهتم بأمرين: الزوايا أينما كانت لأنها مصدر تكوين الدول ومصدر اشتعال الفتن، لذا ينبغي معرفة كل الزوايا العلمية وعلمائها واهتماماتهم العلمية والسياسية لتوظيفهم في الوقت المناسب، وقد ضيق محمد الشيخ على الزوايا في المغرب وطالبهم بأموال الوطاسيين من أجل إفقارهم واتقاء فتنتهم.([14])

        المسألة الثانية، طموح السعديين في التمدد شرقا بعدما تم لهم التمدد جنوبا حتى السودان. لذا فمعرفة المدن وأهميتها العلمية والاقتصادية والعسكرية ومداخلها وتاريخها أمر مهم لتحقيق الطموح السياسي. لذا ما يهم في وصف التامكروتي وما يجب الانتباه إليه، هو قيمة المعلومات التي ينتقيها عن هذه المدن، فهو يتحدث عن مداخلها، وقوتها وضعفها، وعلمائها الأموات منهم والأحياء، والمراكز العلمية والسلطة التابعة لها ومراكز الحراسة. يقول في وصف حصون البر العثماني: "وهذه كلها حصون منيعة جدا بالأنفاض والأسوار والأبراج والرجال والعدد والعسس، لا يغفلون ساعة ليلا ونهارا حذرا من النصارى ...وعلى المرسى حصن منيع  واسع جيد البناء كله بالحجر المنحوت ثم منه إلى جزيرة على فم البوغاز الذي يدخل منه إلى القسطنطينية. ومعنى بوغاز عندهم الحلق الضيق في البحر.  وبداخل البوغاز حصار، وهو حصنان متقابلان على حافتي البوغاز مشبكة كلها بالأنفاض وهي المدافع الكبرى على وجه الأرض . تضرب مدافع هذا بكورها تجوز على وجه الماء حتى تقع في أساس هذا الآخر، وكذلك هذا الآخر بحيث لو كان على ظهر الماء عود أو طائر لأصابته، وهو باب القسطنطينية لا تجوز عليهما سفينة داخلة أو خارجة إلا بإذن من أهلها، وهم أناس أقامهم السلطان هناك لرعاية البحر من العدو ولا يفترقون ليلا ولا نهارا، إذا جاءت سفينة عدو أو كفار يرصدون غفلة، خوفوهم بالمدافع وأغرقوهم وإلا عوقبوا عقابا شديدا."([15])

        يتضح من هذا الوصف على أن السفير التامكروتي حريص على معرفة ما يقوم به الترك من تحصين وحماية مدن امبراطوريتهم.

       ويؤكد ما ذهبنا إليه الخطاب الثاني المبثوث بين ثنايا الكتاب، والذي يؤكد شرعية الشرفاء السعديين في زعامة العالم الإسلامي وتوحيده تحت رايتهم . ومن تجلياته :

        -ما ورد في ص 98 في وصف جور الترك وظلمهم، وحنين الأهالي إلى حكم الشرفاء السعديين. يقول: "والترك جاروا على أهل تلك البلاد كثيرا يقصد طرابلس وأفسدوها وضيقوا على أهلها في أرضهم وديارهم وأموالهم حتى استباحوا حريم المسلمين، وحتى إن بنت الإنسان من الأعيان والأكابر إذا كان لهم فيها غرض لا يقدر أحد أن يمنعها منهم أعني بالنكاح ولا أن ينكحها لغيرهم إلى غير ذلك من الذل والإهانة التي هم فيها معهم. هكذا أهل افريقيا كلهم معهم فأوجب ذلك استماعهم لكل ناعق، واتباعهم لكل قائم رجاء أن يجدوا الفرج معه. وقد رأينا منهم العجب العجاب في كثرة اشتياقهم وحنينهم إلى حكم موالينا الشرفاء، وما كان فيه معهم من الراحة والعدل والرفق والنعمة. تالله لقد كان ممن تحدثنا معهم من خيار أهل تونس وأعيان مصر الذين لقيناهم بالقسطنطينية يبكون على ذلك بالدموع وينتحبون ويودون لو يجدون سبيلا إلى الانتقال إلى المغرب والتخلص إليه لاشتروه بالدنيا وما فيها. فرج الله عليهم وأدام علينا أهل المغرب ما خصنا به. وخلد ملك موالينا ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يصلي سيدنا عيسى وراءهم وحتى تقوم الساعة آمين."([16])

       ما ورد في ص 166 من إسقاط لشرعية حكم العثمانيين . يقول: "إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر " وإن كانوا ( يقصد العثمانييين) إنما حملوا الإمارة وقلدوا الأمر في الحقيقة نيابة وأمانة يؤدونها إلى من هو أحق بها وأهلها وهم موالينا وسادتنا الشرفاء ملوك بلادنا المغرب الذين شرفت بهم الإمامة الخلافة وكل مسلم لا يقول عكس هذا ولا خلافه."([17])

       وقد أورد مجموعة من الأحاديث التي تثبت الشرعية للشرفاء دون غيرهم، ويختم كلامه بقوله  : "وهاهم ساداتنا الشرفاء خلد الله ملكهم بعدما حصنوا أرض المغرب ونفوا عنه رجس الكفر امتثلوا السنة في الابتداء بميامن الأرض، فيدخلون بلاد السودان ويملكونها ويستولون على سائر أقاليم الأرض ويملكونها منهم بنص حديث المهدي الذي يملك الأرض ويطهرها من ظلم جبابرة الأعاجم وجورها. يرضى به ساكن السماء وساكن الأرض، ويؤم نبي الله عيسى في النافلة والفرض، فلا تذع إذ ذاك السماء من مطرها شيئا إلا صبته ولا الأرض شيئا من نباتها إلا أخرجته. حتى يتمنى الأموات حياة الأحياء من الخير والخصب وشمول الأمن والعافية والحمد لله"([18]) .

        يتبين من هذه الأقوال والسرود أن المؤلف يؤكد شرعية حكم السعديين وأحقية حكمهم لبلاد المسلمين شرقها وغربها بل وأضاف من الأحاديث ما يؤكد خلافة أحمد المنصور نفسه إذ روي عن رسول الله (ص) قوله لو لم يبق من الدهر إلا يوم لطوله الله عز وجل حتى يملك رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي، يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا. وفي رواية أخرى يصل الديلم والقسطنطينية ويفتح أنطاكية.

       يتبين من خلال هذه التصورات أن وصف المدن والحصون وقوتها وضعفها ومداخلها وزواياها ومكانتها العلمية لم يكن ترفا معرفيا، بل إن المؤلف ينتقي المعلومات المهمة التي تفيد في فتح هذه المدن بعدما تم الله فتح الجنوب.

        -الخطاب الديني التعبدي :لم يكن هذا النوع من الخطاب أن يغيب عن النفحة المسكية إذا علمنا أن المؤلف فقيه علامة اهتمامه الأول هو العلوم الشرعية واللغوية . ويتجسد هذا الخطاب في :

     -اهتمامه بختم البخاري قبل ركوب البحر في تطاون، يقول: «فأقمنا في الثغر يقصد تطوان ثلاثة أشهر رجب وشعبان ورمضان ننتظر ورود السفينة علينا من الجزائر، فما وردت إلا لليلتين بقيتا من رمضان بعد أن سردنا صحيح البخاري وختمناه وركبنا البحر إثر ختمنا له ووجدنا له بركة عظيمة في سفرنا » ([19]). وختم البخاري عادة مغربية منتشرة في كل ربوع المغرب ، فبالإضافة إلى ختمه العادي كل سنة  في مختلف الزوايا، لا يقدم المغاربة على أمر عظيم ذي بال إلا بعد ختم البخاري، ولا يخرج أحمد المنصور الذهبي من مراكش إلى فاس أو العكس إلا بعد ختمه.

      وقد ربط التامكروتي نجاته من الغرق في البحر وتيسير رحلته إلى هذا العمل التعبدي، حتى إن بعض الراكبين معه الذين اعتادوا السفر في البحر أكدوا له جميعا أن هذه الرحلة تختلف عما سبقها من الرحلات من حيث التيسير والسهولة ورفق البحر بهم . يقول: «ثم إن الله سبحانه سخر لنا البحر، ووهب لنا ريحا طيبة وأرسلها علينا من خزائن رحمته على قدر الحاجة ، حملتنا وسارت بنا سيرا معتدلا ، وشاهدنا في ذلك من لطف الله سبحانه ما لم يخطر ببالنا حتى تعجب البحريون وقالوا: قط ما رأينا هذا التيسير والسهولة في هذه المواسط فيسر الله علينا بفضله. ». ([20])ولعل هذا ما يقصده التامكروتي بقوله أعلاه وجدنا له بركة عظيمة في سفرنا.

-الإشارة إلى اعتماد الأتراك للقبض في الصلاة على خلاف المغاربة الذين بسدلون

-الإشارة إلى الخلاف المذهبي بين الأتراك الذي يعتمدون المذهب الحنفي والمغاربة المالكيين

- الدعاء بالأراجيز المنظومة ، وأهمها تلك التي نظمها وهو راكب البحرَ في طريقه إلى تركيا طبق فيها ما يدعو إليه الدين الحنيف والقرآن الكريم. "فأما بنعمة ربك فحدث". فتحدث عن فضل الله عليه في طفولته ورعايته في يتمه، فأغناه بعد فقره ، وعلمه بعد جهله، وحفظه من كل الشرور، ثم دعا بأن يمن عليه بفضله فينجيه من هذا الأزرق، ويقصد به البحر. وتتكون من 119 بيتا مما يدل على طول نفسه وإلحاحه في الدعاء وعدم انقطاع الذكر طول مكوثه في البحر.

 

-     يا رب ما عودتني      سوى الجميلِ المطلـــــــــــــــــقِ

             كنت يتيما جاهلا     فقرٌ وضعفٌ مُوَثقــــــــــــــــــــــــــــي

            آويتَ مني مهملاً       أغنيت فقري الضيـــــــــــــــــــــــقِ

            علمتني العلمَ الذي      ينجِي من الجهلَ الشقي

             حمدا وشكرا للذي     بفضله مُطوقــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي

            رب الذي أحسن لي     كل الأيادي السبَّـــــــــــــــــــــق

             أرجوه أن ينجيني        من كل ما مضيقــــــــــــــــــــــي

             فعلمه بحالتي           حسبي فيما أتقـــــــــــــــــــــــــــــــــــــي

              فإنني وديعة           أودعها العبد التقي

              في حرز رب عالم       في العز عال مرتقي

              أدعوك رب دعا         عبد ذليل مطرق

              غوثا إلهي فإنني          بابكم تعلقـــــــــــــــــــي

              رب فسلم مهجتي      من شر هذا الأزرق

فهذه الأدعية المتعددة كانت حرزا تحصن به المؤلف في ركوبه البحر وعودته سالما إلى أهله وبنيه.

-التنويه بالاحتفال بعيد المولد النبوي الشريف " وهي عادة مغربية أصيلة أقرها المغاربة منذ العهد المريني وصارت عليها الأسر الملكية التي جاءت بعده. وقد وافق رجوع التامكروتي من تركيا احتفال المغاربة بهذه المناسبة التعبدية فأطنب في وصف احتفال أحمد المنصور الذهبي في قصر البديع بمراكش مع رجالات الدولة وعلية القوم. ويتميز هذا الاحتفال بزينة الشموع بمختلف ألوانها التي ما زالت حتى اليوم في مدينة سلا المحروسة. وإطعام الناس وهي عادة أيضا ما زالت في مختلف الزوايا التي تحتفل بموسمها في هذه المناسبة، وتعطير الأمكنة بمختلف العطور الجاوي والعنبر والعود، وكلها عطور لها قدسيتها في المخيال المغربي. وإنشاد القصائد والمقطعات التي نظمت في مدح النبي عليه الصلاة والسلام والتي يصطلح عليها بالمولديات ، والدعاء للسلطان المنصور. وتختتم الاحتفالات في اليوم السابع بتوزيع أعطيات السلطان. وختم وصفه بقوله: "«وهذه سيرة مولانا الخليفة أيده الله أيضا في مواسم الأعياد وفي رمضان شهر الصيام  عند ختم صحيح البخاري. »

  إذن فالمغارية منذ قرون كانوا يحتفلون بعيد المولد النبوي الشريف ويتعبدون بقراءة صحيح البخاري ويتبركون بختمه. ويتوسلون بقراءته في قضاء مآربهم العظيمة .

      الخطاب الرابع الذاكرة الثقافية والمتخيل البصري : لم يكن المؤلف ليهمل إبراز ذاكرته الثقافية التي تظهر علمه ومعرفته بالتراث الشعري وكتب التاريخ فهو الفقيه والمثقف والعالم الذي لا يشق له غبار. لذا استشهد بكل النصوص الشعرية الملائمة للحالة النفسية الذي وجد نفسه فيها ، فعبرت أصدق تعبير عما يخالج نفسه في مواقف محددة ومن بين هذه المواقف وداع أهله بدرعة: فقد استشهد بروائع الشعر العربي في ذكر الأوطان والخروج منها، و أغلب هذه النصوص مأخوذة من رحلة خالد بن عيسى البلوي " تاج المفرق في تحلية علماء المشرق" بل إن الكثير من المقاطع السردية مأخوذة من هذا الكتاب حرفيا مع حذف بعض المقاطع التي لا تتوافق ورحلته. وهذا أمر مستعمل في الكثير من كتب التراث إذ ينقل بعضها عن بعض. وما يهمنا هنا هو ما تعكسه هذه النصوص من الحالة النفسية التي يوجد عليها المؤلف وهو يغادر مسكنه بدرعة الآمنة.

وإذا كان هناك من إبداع  في نص الرحلة ، فيكمن في متخيله البصري وسأورد هنا نموذجين:

  النموذج الأول: وصفه للسفينة وهي تتقاذفها الأمواج يقول في ص50 « فلما سافرنا من بجاية عشية يوم الأربعاء هبت علينا ريح شديدة تلك الليلة، وعظم الموج وهاج البحر واشتدت الريح، وصار الموج كالجبال الشوامخ، يضم السفينة كلها ويميلها يمينا وشمالا كالبهيمة التي تتمرغ في التراب. وأيس الناس من السلامة والنجاة وأيقنوا بالهلاك والغرق .... والقوي المتماسك منهم من قدر على أن ينطق بالشهادة ويستعد للموت »"([21]) فاستعارة البهيمة في المراغة للسفينة صورة إبداعية دالة على الحالة التي توجد عليها، وهي صورة مستقاة من البيئة الدرعية الأصيلة.

     النموذج الثاني مقارنته بين الريح في البحر والريح في درعة: يقول: «ومما كتبته أباسط به أصحابنا وأمازحهم به أنا كنا في بلاد درعة لا نعبأ بالريح ولا نلقي لها بالا هبت أو سكنت إلا في زمن سقوط الثمار من النخيل. أما نحن في البحر إذا هبت فكأنما أرسلت لقبض أرواحنا. ومما يحكى في بلادنا أن رجلا ممن امتحن في البحر، وابتلي ببلائه حلف ألا يسكن إلا في بلد لا يعرفون البحر ولا آلاته. فرفع مقذافا وجعل يسير به من بلد إلى بلد ويعرفه الناس إلى أن أتى به درعة فقال لأهلها ما هذا؟ فقالوا هذه آلة يُدخل بها الخبز في الفرن ويُستخرج بها فسكن هناك. »"([22])

     هذه المستملحات مما يميز النفحة المسكية، وهي تعكس الأثر الذي خلفه ركوب البحر في نفسية المؤلف مما جعل منه الموضوع الأساس لرحلته وما تفرع عنه من أدعية تحصن راكبه من الهلاك.  يقول في مقدمة الكتاب: « الحمد لله الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم، وفضله على كثير من خلقه تفضيلا وحمله في البر والبحر حملا جميلا، وخلق في الأرض فجاجا سبلا، وجعلها له ذلولا، وسخر له البحر وهداه في تياره وظلماته إلى قصده سبيلا، إن في ذلك لآية لمن وفق إلى تدبرها وبرهانا قاطعا على وحدانية الله وعلمه، وإرادته وقدرته،  سبحانه وحجة ودليلا»...

        بعد الحمد، انتقل إلى تحديد موضوع رحلته هو وصف ما شهده من عجائب ركوب الفلك وما ينبغي أن يدعو به المسافر من الأدعية والأوراد للتقرب إلى الله عز وجل ويتحصن بها في مثل هذه الأخطار. والتعريف بالشيوخ الذين أخذت عنهم هذه الأدعية.

      فالهدف الظاهر إذن هو تدبر آيات الله عز وجل من خلال وصفه لسبل البر والبحر والوصول من خلال التدبر إلى وحدانية الله عز وجل. والهدف الخفي هو الهدف الدبلوماسي والسياسي المبثوث بين ثنايا الكتاب دون لأن تشير إليه المقدمة.                                              

المصادر والمراجع

1.  حجي ،  (محمد) . الحركة الفكرية بالمغرب في عهد السعديين . منشورات دار المغرب للتأليف والترجمة والنشر سلسلة التاريخ . مطبعة فضالة ، 1978.

2.  الدرعي ، (علي بن محمد ).  النفحة المسكية في السفارة التركية .. تحقيق وتقديم محمد الصالحي . دار السويدي للنشر والتوزيع أبو ظبي .

3.  الزاهي (فريد ): الممانعة والفتنة متخيل الرحلة السفارية المغربية إلى أوروبا. مجلة الكوفة، السنة الثانية ، عدد 2، ربيع 2013،

4.  ابن منظور: لسان العرب دار المعارف .تحقيق : عبد الله علي الكبير ومحمد أحمد حسب الله .وهاشم محمد الشاذلي .

5.  كليطو، (عبد الفتاح) ، المقامات السرد والأنساق الثقافية ، ترجمة عبد الكبير الشرقاوي ، الدار البيضاء ، دار توبقال للنشر، الطبعة الثانية ، 2001

6.  الناصري،  (أحمد بن خالد) . كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى. تحقيق وتعليق جعفر الناصري ومحمد الناصري . دار الكتاب الدارالبيضاء 1997 الجزء الخامس .

 

 



[1].  محمد حجي ، الحركة الفكرية بالمغرب في عهد السعديين . منشورات دار المغرب للتأليف والترجمة والنشر سلسلة التاريخ . مطبعة فضالة ، 1978. ص 546

[2] . النفحة المسكية في السفارة التركية . علي بن محمد الدرعي  . تحقيق وتقديم محمد الصالحي . دار السويدي للنشر والتوزيع أبو ظبي . المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت . الطبعة الأولى 2007

[3] . ابن منظور : لسان العرب دار المعارف .تحقيق : عبد الله علي الكبير ومحمد أحمد حسب الله .وهاشم محمد الشاذلي . مادة سفر

[4] .الصحاح في اللغة : مادة سفر

[5] . الناصري أحمد بن خالد .كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى.تحقيق وتعليق جعفر الناصري ومحمد الناصري . دار الكتاب الدارالبيضاء 1997 الجزء الخامس . ص 97

[6] . فريد الزاهي: الممانعة والفتنة متخيل الرحلة السفارية المغربية إلى أوروبا. مجلة الكوفة، السنة الثانية ، عدد 2، ربيع 2013، ص 169

[7] . نفسه ص169

[9] . نفسه ص 57

[10] . نفسه ص 58

[12]. نفسه ص15

[13] . ينظر مقدمة محقق النفحة المسكية محمد الصالحي ص16 وما بعدها.

[14]. ينظر أحمد بن خالد الناصري : الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى  الجزء الخامس ص26

[15]. النفحة المسكبة في السفارة التركية ص 108

[16] . النفحة .... ص 98

[17] . نفسه  ص166

[18] . نفسه ص168. ورد في التحقيق المعتمد "حتى يتمنى الأحياء حياة الأموات" . وأعتقد أنه خطأ ، والصحيح ما أثبتناه.

[19] . الناصري أحمد بن خالد .كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى.تحقيق وتعليق جعفر الناصري ومحمد الناصري . دار الكتاب الدارالبيضاء 1997 الجزء الخامس . ص 97

[20] . نفسه ص 108

 

[21] . النفحة المسكية ص 50

[22] . نفسه ص 170

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق