السبت، 28 يوليو 2018

سلاما يا ثالث الأثافي سلاما : كلمة تأبين الأستاذ عبد الحي العباس



                        


        كان الوقت أصيلانا  ...الشمس تلتحف حمرتها ، تعالت الهواتف بالتنادي: نادى الحي عبده فلبى النداء. قلت: لا يملك المولى الطائع إلا أن يلبي نداء مولاه. فاض المساء بصمت الرسائل البكم، وعويل الهواتف الشؤم .. العباس مات ... العباس مات ... 




     استفقت من غفوتي واستسلمت لذاكرتي . أراه الآن جالسا بباب الإدارة يستوقفني محييا، أرد التحية بأحسن منها، يبادرني بالكلام مقدما نفسه معبرا عن رغبته في الالتحاق بكلية اللغة، تفاءلت بجمال المحيا وهدوء الطبع ولباقة الكلام، قلت  سعداء  بذلك نحن، سلمني ملفه، وودعني شاكرا حسن الاستقبال.
     حل العباس بهذه المؤسسة فحل الحزم و المسؤولية والعمل الجاد، ومواجهة ما يعتبره اختلالا في السير الإداري والتربوي، لا يخاف في الله لومة لائم، فعارض و اعترض، وواجه وتواجه، و أدى ثمن هذا كله غاليا. كان سريع الغضب، جاهرا بما يعتقده حقا، حريصا على احترام القانون،  مبادرا إلى القيام بالعمل دون تردد أو انتظار غيره ليقوم به،  مميزا بين العلاقات الإدارية و بين العلاقات الشخصية. كنا نقضي النهار كله في نقاشات مشحونة يعتقد من يحضرها أنها مقدمات لقطيعة نهائية بيننا، فإذا حل المساء  صفت القلوب، وبادرني العباس بزيارته لي  مبتسما محييا طالبا أن نخرج لنقوم بجولتنا المسائية المعتادة.
      كان العباس محبا للخير، مبادرا للقيام به دون أن تعلم يسراه ما قدمت يمناه، قوي الإيمان بالله، أخبرني بمرضه العضال دون أن تلون الكآبة وجهه مثل الكثير من المرضى أمثاله، أكبرت فيه تفاؤله وتشبثه القوي بالحياة، فقال ماذا يفيد الاكتئاب؟ لن أحكم على نفسي بالموت قبل أوانه، سأعيش حياتي حتى آخر يوم منها، لكن تشبته بأمل الشفاء لم ينسه لحظة واحدة أنه مقبل على رب غفور رحيم  يحسن الظن به،  فواظب على صلاة الجماعة و أكثر من الصدقات وداوم على قراءة القرآن إلى أن ودع هذا العالم بسلام.
       زميلنا العزيز كنت في الحي ثالث الأثافي، بك يستوي قدرنا على ناره الهادئة، تنير جلساتنا بابتسامتك المعهودة، وتغني جولاتنا المسائية وراء بيتك بنقاشاتك الرصينه. بصبر جميل وأمل كبير، واجهت المرض سنينا. وها أنت تتسلل ذات مساء رمضاني دون أن نسمع لك صرخة أو أنينا، فتزف بعلا إلى الأرض التي تكن لك وتكن لها حبا دفينا. فمن بعدك يكون ثالثنا، من بعدك يجالسنا، يروي لنا عجائب الطفل صفوان ، من بعدك يطرق أبوابنا كل مساء حاملا إلينا ما لذ وطاب من خضر وفواكه طازجة...
       امتطت الوالدة قطار الرحيل الأبدي، فأُخفي عنك الخبر رأفة بك، لكن القلوب المتحابة تتجاوب، فنداك قلب الأم أن هلم يا بني فقد آن أوان انطفاء فتيلة العمر بعدما جف زيت الحياة. ودون أن تلتفت وراءك، امتطيت القطار نفسه في الأسبوع نفسه ملبيا نداء الأم للابن لتلتقيا في جنة الرضوان في الموعد نفسه.
      أذكر وكيف لي أن أنسى جلساتنا المطولة في أيت أورير مع زملاء لنا تحبهم فلا نعود إلا بعد رحيل النهار. أذكر وكيف لي أن أنسى رحلتنا الرباعية إلى درعة الخير. أذكر وكيف لي أن أنسى جولاتنا المسائية بدروب الحي. كيف لي أن أنسى ما لا ينسى؟
    " فاجع موتك، موجع غيابك، في لحظة كنت فيها مأخوذا بشيم الصبر والنبل والعطاء"، مسكونا بالبحث والتنقيب بين سطور السور و آي الذكر الحكيم، وفيا لميراث أبي حيان و منهجه في التفسير.
      و الآن يا أحبائي بعد رحيل ثالث الأثافي، أستسمحكم في السؤال : ما قيمة الحياة بعد رحيل الأحبة ؟ ما طعم الرقاد بعد غياب الرفاق ؟ ما ترياق هموم السهاد بعد الفراق؟ معذرة يا أحبائي: لم يعد لي صوت أصرخ به أمامكم، بعدما سقيني رحيل العباس فاتحة الرّعد فأخرسَتِ الصوت. قلبي المصدوعُ  عاجز عن فهم كيفية احتضان قبرٍ لقلب ينبض بالحياة ، عبد الحي جدلته غمامة المرض حبلا من الردى، فطاش لفقده العقل و الفؤاد، وفُجعتْ لموته المدرجات والقاعات.
ما أمر الفقد با أحبائي ... عيناي من الدموع جفت .... حنجرتي  من الصمت كلت  .... و فوق الأرض كبدي سالت .، ... فأي لغة ترثيك يا عبد الحي ..؟  أي كلمات تؤبنك؟  أي قول يعزينا فيك ؟ "
      بالأمس ، كنتُ - أنا المفجوع بصمتك الأبدي  - وراء بيتك أسير وحيدا .... ألتحف صمتي ....أتأبط حزني وذهولي ، أحاول إقناع نفسي برحيلكم فلا يصدقني قلبي .... أتأبط فقدان لقائكم.... أترك ذاكرتي تستعيد ذكرياتي، أستعيد ثلاثين عاما قضيناها معا منذ اللقاء الأول لتكون النهاية وداعا... وداع يعانق اللقاء..  و أنا أعانق ذكرياتي وأمشي... أمشي قليلا أتوقف طويلا .... أتطلع إلى نوافذ بيتك عل ابتسامتك المعهودة تطل من عل... مسكين أنت يا أنا، لم تصدق بعد أن النجوم ضوؤها لا يدوم، مصيرها  الأفول،  لتضيئ  دياجير القبور.
  لن أنسى ما بيننا يا ثالث الأثافي  ... سأزورك...هناك ... وأجلس قربك هناك ... أتحدث إليك هناك... لكنني لن أرفع صوتي في وجهك كالعادة. أتدري لماذا لن أرفع صوتي قربك يا ثالث الأثافي ؟ لأن رحيلك شل حبالي الصوتية فعسكر الصمت في شراييني .
    سلاما عليك  يا ثالث الأثافي سلاما ... سلاما عليك  يوم كنت ويوم رحلت ويوم تبعث كما كنت نقيا طاهرا محبا ومحبوبا حاملا كتابك بيمينك سلاما سلاما...
    سلاما عليك شاهدا ومشهودا ...سلاما عليك وحدك الناطق في موتك ونحن الصامتون ... تنادينا، تصرخ فينا...ترفع صمتك الناطق في وجوهنا  " فلا نسمعك ، فترحل حاملا سرك الدفين آه ...يا أنا...  يا قليل الزاد يا أنا .... كم هو موحش درب الذهاب بلا إياب: ترمي  الطريق وراءك خطوة خطوة  .... تراكمت الخطى ... سارت ركاما يحجب الرؤية . وتكون النهاية ... أحبة نحن فرق بينهم التراب...أين حلمنا؟.ضاع الحلم في قرارة الغياب... فلم يبق وقت للجواب... شجرة الغياب اشتعلت فوداعا يا من لا أطيق معه وداعا....

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق