إنَّك حينَ تفتحُ ذراعيكَ لتستقبل الحياة
تكون قد رسمت خلفك علامة الصليب
لويس أرغون
وقال البارودي: بعد أن اضطرب زمناً، بين أرض المنفى وارض المعاد:
«وكما أن دمشق لا تكون، دوما، دمشق البعث ودمشق الثورة، فكذلك البانة، لا تبقى
واحدة البان، فقد تصبح رمحا وقد تصبح عصا، غير أنها ربما أصبحت حية تسعى»
وحِينَ تَجلَّتْ |
وأمسيتَ كلاًّ لماذا تَوارتْ عَنِ الْقلبِ |
ولا نَقشوا اسْمكَ |
حتى الطُّلولُ ويعلو مع الصَّمتِ صوتٌ يقولُ:
|
ومنْفاكَ منفىً سحيقٌ وقِيلَ علا النَّقعُ والطَّعنُ ولم يبقَ إلاَّكَ |
وكفٌّ مُجوَّفةٌ ومِدادُ |
على خلاف كل قصائد الديوان ـ افتتح المجاطي
قصيدة وراء أسوار دمشق بعتبتين عتبة للشاعر الفرنسي اليساري لويس أراغون، تؤكد أن
إرادة الحياة لا تكون إلا بالتضحية. ففتح اليدين لاستقبال الحياة يقابله رسم علامة
الصليب في الخلف. والصليب رمز التضحية في الثقافة المسيحية.
العتبة الثانية لمحمود سامي البارودي
الشاعر العربي الذي شارك في ثورة عرابي ونفي إلى مدينة سرنديب، تؤكد هذه العتبة
التقلبات التي تسم الحياة، فالشيء قد ينقلب إلى ضده، فالبان الشجرة التي تستعار
للجمال واستواء القد قد تصير رمحا أو عصا، وبمعجزة قد تصير حية تسعى، كذلك دمشق
فتارة تكون دمشق العقيدة وتارة تتخلى عن عقيدتها لتمسي بدون عقيدة.
توحي هاتان العتبتان بأن القصيدة "وراء
أسوار دمشق" تؤرخ لسقوط آخر تجرعه الشاعر في دمشق كما تجرعه في قصائد سابقة.
يصف الشاعر دمشق التي تعود عليها تاء التأنيث
في بداية انتصاراتها بصفات أربع:
تجلت، تمازجت الريح والخمر
فيها، أمست ولادة حرف وفرحة بدء وفجر قصيدة، أمست دمشق العقيدة، وهي صفات إيجابية تساير
العتبة الأولى لأراغون، أي أن دمشق تفتح ذراعيها لتستقبل الحياة، فالتجلي وضوح
وشفافية وعلامة تحقيق انتصار، والريح حركة نحو الأمام والخمر احتفال بهذه الحركة
فكان التمازج، والولادة والفرحة والفجر بداية غد جديد، غد دمشق العقيدة.
إن هذه الصورة التي رسمها الشاعر لدمشق انعكست
على نفسيته وأخرجته من قلقه وتردده، فتجرد من شكوكه، فأمسى بحرا وغيما ونوءا،
وكلها صفات مائية تبعث الحياة، فصار هو الكل وهو الجزء. وبذلك تحقق الانسجام بين الذات وموضوعها، بين
الشاعر وبين دمشق العقيدة.
وكما أن
استقبال الحياة مرهون برسم علامة الصليب من خلف، كذلك هذا التجلي والهيمنة متبوع بضده،
بتواري دمشق عن القلب والنفي والإبعاد إلى سرنديب القصية، المكان المناقض لدمشق
العقيدة. وسرنديب هي منفى البارودي، فهي أرض الغربة والنفي والحزن. وقد أتبعها
الشاعر بنسيانه ونسيان اسمه :
وقيلَ نسوكْ/ فما أنتَ فيهِمْ سؤالٌ/ على وَترٍ
من رَبابِ/ ولا بيتُ شعرٍ على هامشٍ/ من كتابِ/ ولا نَقشوا اسْمكَ/ حتَّى على
شاطِئِ اللاَّذِقِيَّهْ.
إلا
أن نسيان الشاعر ونفيه لم يمنعه من البحث عن غوطة الغرب الدمشقية، الأرض الخصبة
المعطاءة في مكان النفي، مكان الهزيمة والانكسار أي في المكان البديل للواقع
المهزوم، يبحث عنها في كل ملهى وفي كل
حانة وفي كل درب هيمن فيها صمت البنادق، وفي كل كأس تجعله يحلم بالمستحيل.
إن هذه
الفضاء البديل يجعل الشاعر يرى الواقع الدمشقي الجديد في حالته الجديدة، إذ لا
ولادة ولا فرحة ولا فجر، فالهدوء والصمت سيد الموقف، لا ريح ولا موج، حتى سطح
الماء من بردى النهر المتدفق الجاري صار هادئا، لا صوت يعلو إلا صوت الحقيقة
المأساوية دمشق بانة، دمشق شاهد جفته المنون، دمشق تخون.
تضيء العتبة
الثانية لمحمود سامي البارودي هذه الصورة فدمشق بانة، البانة لا تبقى على حالة واحدة،
فقد تكون رمحا وقد تكون عصا وقد تصير حية تسعى، وكذلك دمشق لم تعد دمشق الثورة
دمشق البعث بل خانت وصارت حية تسعى.
فيتخيل الشاعر في ملهاه أمام كأسه تاريخ دمشق الأموية ماضيه وحاضره، زمانه
ومكانه، حتى القبور، كل يرحل، يبحر إلى آخر البحر، والشاعر على الليل ملقى بلا
إرادة ـ مطر بلا سيف ولا حرف حتى صارت الجروح دواة، والدواة زجاجة خمر.
إن زجاجة
الخمر هي ملاذ الشاعر بعد كل سقوط. الجروح دواة، لكن هذه الدواة صارت زجاجة خمر،
وبذلك يفقد كل شيء معناه، ويخرج منه سواه. لا فرق أن يثمر الحقل بانا أو أن يثمر
خنجر غدر. إن صورة البان المتحولة تتكرر وتهيمن فتتساوى مع خنجر الغدر.
إن هروب
الشاعر من الواقع إلى الحانة وإلى الكأس، وتحويل الجروح والدواة إلى زجاجة خمر،
ليس هروبا إراديا ولا نهائيا، فصوره بالمنفى السحيق، هو نفسه سرنديب القصية، هو
النسيان، لكنة ملكوت يبقيه حيا حتى وهو يموت.
هذه
الحياة تتجسد في أصوات يتردد صداها في دواخل الشاعر، ومتخيله، أولها صوت الخيانة
الذي يصور دمشق على سفح قاسيون بانة، والصوت الثاني وهو صوت أمل يجعل من السقوط
مجرد كبوة، فعلى الرغم من انتشار الفساد وجفاف الزرع والضرع والخمرة البابلية، بقي الشاعر حيا قادرا على
ركوب الليل والخيل والكلمة المستحيلة.
إن بقاء
الشاعر صوتا حيا يبقي الأمل في بعث دمشق القتيلة من قبة الموت ممسكا بقبضة فأسه
راسما وراءه الصليب.
لكن الشاعر
يقف عند التمني والأمل باحثا عن فاعل يكتب أمله حتى على قبضة من دخان تتلاشى ولا
تدوم:
دمشق تعود إلى
شاطئ الأطلسي تمد ظفائرها، تتجدد، تبعث من جديد، تغدو مرة أخرى ولادة حرف وفرحة
بدء وفجر حقيقة، تمزق قبة الموت وتصبح معشوقة وعشيقة.
على
الرغم من أن القصيدة صنفت في مجموعة السقوط، فإنها تظل حبلى بالأمل، فبعد كل كبوة
نهوض حينما يوجد الفارس الذي يحول الحلم الي حقيقية وفجر القصيدة إلى فجر حقيقة.
الانساق
الاستعارية في القصيدة، بنى الشاعر
أنساقه الاستعارية التي أغنت شعرية النص من رموز طبيعية اكتسبت غناها الدلالي من
الثقافة الشعرية ومن سياقها الدلالي داخل النص. ومنها: الريح والخمر وشجر
البان
استعار
الشاعر من الريح حركتها وفعلها في الطبيعة فكان الشاعر بفعلها بحرا وغيما
ونوءا، لكن سرعان ما هدأت وهدأ معها الموج وهدأت الطلول، فصار الشاعر منسيا منفيا
ملقى على الليل. وبذلك فالريح في سياقها النصي رمز للتحول الإيجابي، رمز للحركة
والإقدام.
الخمرة تمتزج مع الريح فتكون
رمزا للفرح والاحتفال، فارتقت بمخيلة الشاعر ليصير كلا وجزءا، لكن سرعان ما جفت
الخمرة البابلية.
شجر البان،
رمز الجمال والخضرة واستواء القد، وقد شبه الشاعر دمشق على سفح قاسيون بانة، لكن
البانة لا تبقى على حالة واحدة، فقد تصير بفعل فاعل رمحا وقد تصير عصا وقد تصير
حية تسعى، كذلك دمشق قد تكون دمشق البعث ودمشق الثورة، وقد تخون فتصير شاهدا جوفته
المنون.
إن الخيانة
ليست خيانة للثورة فقط، بل للتاريخ أيضا وبذلك يرحل عنها كل تاريخ الضام الأموي بل
ترحل عنها حتى قبور الشام، وضوء النهار ويلقى الشاعر في منفاه السحيق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق