في عجالة
وجهان لعملة
واحدة
الحياة
قرأت هذا في
عظمة كتف
عثرت عليها
بالصدفة
بين أوراقي
بدون تاريخ
.الخط زناتي.و في الهامش
الوجود
أريكة
والعدم
صولجان
يرى الشاعر صلاح عبد الصبور متأثرا بالفلسفات
الميتافيزيقية عامة، والوجودية منها بشكل خاص أن "الوجود هو المعطى الأول
للإنسان"، وهو مهدد بالعدم. وبين الوجود والعدم، بين منبع النهر ومصبه، يعيش
هذا الإنسان حياة مليئة بالشرور والآلام " خالية من الحرية إلا تحت مستوى
الضرورة"، الشيء الذي يحول الأرض إلى جحيم، وحياة الإنسان إلى عذاب. وقد سعى
الإنسان منذ القديم إلى إعطاء معنى لحياته متوسلا الدين والفلسفة والفن
"فالنبي والفيلسوف والشاعر أصوات شرعية، وشرعيتها تشمل كل ألوان الحياة
الإنسانية بغية تنظيمها وتخليصها من فوضاها وتنافرها ومفارقاتها. ومجال رؤيتهم هو
الحياة الإنسانية في زمانها الذي هو الديمومة، وفي مكانها الذي هو الكون، وفي
حركتها التي هي التاريخ".
إن
الشاعر والفيلسوف والنبي ينظرون إلى العالم نظرة شمولية كلية يتداخل فيها الذاتي
والموضوعي، والواقعي والميتافيزيقي، والحياة والموت، والأمل واليأس ...وهذه النظرة
راجعة إلى أن العالم ناقص، وكل من هؤلاء يحمل بين جوانبه شهوة لإصلاحه، لكن الشك
والقلق يلازمهم، الشيء الذي يسم حياتهم بالقلق واليأس الأبديين، إلا أنه ليس يأسا
أو قلقا تشاؤميا، إنه يأس ناتج عن إحساس بالمسؤولية ووعي بها .
وقد سعت كل الديانات القديمة، أرضية كانت أم
سماوية، وكذا الفلسفات المادية والمثالية إلى البحث عن حل لهذه المعضلة الوجودية.
أما الشعر فيسعى إلى بناء تصور فرداني نابع من
تجربة فردانية عاشها الشاعر وتمثلها وارتقى بها إلى مستوى التجربة الإنسانية في
شموليتها، ثم صبها في صياغة فنية.
ومن الشعراء العرب الذين انشغلوا بالحياة
والموت وعبروا عن تجربتهم الفردانية طرفة بن العبد الجاهلي ، الذي واجه مصير
الإنسان المأساوي بالانغماس في المتعة
واللذة ، يقول في معلقته:
أَلا أَيُّهَذا
اللائِمي أَحضُرَ الوَغى
وَأَن أَشهَدَ اللَذّاتِ هَل أَنتَ مُخلِدي
فَإِن كُنتَ لا تَسطيعُ دَفعَ
مَنيَّتي فَدَعني أُبادِرها بِما مَلَكَت يَدي
أَرى قَبرَ نَحّامٍ بَخيلٍ بِمالِـــــهِ كَقَبرِ غَويٍّ في البَطالَةِ مُفسِدِ
تَرى جُثوَتَينِ مِن تُرابٍ عَلَيهِما صَفائِحُ صُمٌّ مِن صَفيحٍ مُنَضَّدِ
أَرى المَوتَ يَعتامُ الكِرامَ وَيَصطَفي عَقيلَةَ مالِ الفاحِشِ المُتَشَدِّدِ
أَرى العَيشَ كَنزاً ناقِصاً كُلَّ لَيلَةٍ وَما تَنقُصِ الأَيّامُ وَالدَهرُ يَنفَدِ
لَعَمرُكَ إِنَّ المَوتَ ما أَخطَأَ الفَتى لَكَالطِوَلِ المُرخى
وَثِنياهُ بِاليَدِ
فطرفة يرى الحياة قصيرة، ويرى
القبور متساوية لا فرق بين قبر بخيل بماله وقبر غوي مفسد، فاختار أن يعيش حياته منغمسا
في الملذات ما دام الموت قضاء حتميا.
أما أبو العلاء فرأى الحياة كلها تعبا
فانطوى على ذاته ورفض التوالد، فالحياة لا تستحق العيش.
تعب كلها الحياة فما أعـــــــــجب إلا من راغب في
ازدياد
ويعد محمد بنطلحة من الشعراء المعاصرين الذين
قاربوا الحياة والموت أو الوجود والعدم لا من وجهة نظر فلسفية أو عقدية، وإنما من
وجهة نظر فردانية ذاتية موظفا تصورا شعبيا مغرقا في القدم،مستنبطا من فهم خاص للنصوص
الدينية القرآنية والحديثية، لكنه ظل حاضرا في ذاكرتنا الشعبية حتى اليوم، فصاغه
بلغة شاعرية خاصة، كل كلمة فيها بنية رحمية لذاكرة ثقافية تغني النص الشعري وتسمح
بفتح نوافذ تأويلية لا نهائية تتعدد بتعدد القراء،
تتكون
القصيدة من ثلاث متواليات هي
1-
الوجود والعدم في عجالة وجهان
لعملة واحدة ،الحياة.
2-
قرأت هذا في عظمة كتف عثرت عليها
بالصدفة بين أوراقي بدون تاريخ .الخط زناتي.
3-
و في الهامش/ الوجود أريكة و
العدم صولجان:
المتوالية الأولى خلاصة تجربة، ترى الحياة
كالعملة التي لها وجهان هما الوجود والعدم، وهي خلاصة لم تصدر عن تفكير وتأمل
عقلاني وإنما هي خلاصة في عجالة، والعجالة ضد التدبر والتأمل والعقلانية.
وهي خلاصة تفارق التصور الديني الصادر عن الوحي المتصف بالكمال واليقين، والتصور
الفلسفي الصادر عن التأمل والعقلانية. فالشاعر
يكشف من البداية عن التصور الذي ينطلق منه وهو التصور الصادر عن التجربة المجتمعية
المعيشة الذي تتميز بلا عقلانيتها، لأننا نفكر من خلالها ولا نفكر فيها. وتشبيه الوجود والعدم بوجهي العملة ناتج عن
ارتباط بعضها ببعض، فالوجود متبوع حتما بالعدم.
الوجود تجربة معيشة والعدم تجربة متنبأ بها.
المتوالية الثانية عبارات سردية، توثق
لهذه التجربة وتفصح عن مصدرها الذي توحي به عبارة في عجالة. وتتميز بالبنيات الرحمية الآتية:
- عظمة
الكتف:
ترتبط في التصور الشعبي المعيش بالتنبؤ بالمستقبل الغيبي وقراءة الطالع، وبذلك فهي
آلية الكشف عن غد يظل في حاجة إلى الكشف بتعبير الشاعر الفرنسي روني شار.
- والخط
الزناتي
يوحي بالفئات الاجتماعية التي تتطلع إلى هذا الغد، وهي الفئات الشعبية التي عجزت
عن أن تعيش مترفة في وجودها، فظلت تمني النفس ببديل في العالم الأخروي، فبنت معرفة
اقترنت بالتصوف والطرقية والكرامات والولاية، تبشر بالآخرة وتزهد في الدنيا ،وتفصل
في دقائق أخبار الجنة والنار. ومن ممثلي هذه الثقافة عبد الله الزناتي صاحب كتاب"
كتاب الفصل في أصول علم الرمل" الذي انتشر انتشارا واسعا في هذه الأوساط
كمعرفة لا يتطرق إليها الشك. وعبارة الخط الزناتي الني وظفها الشاعر إلى جانب عظمة
الكتف توحي بهذه المعرفة.
وغياب
التاريخ عبارة توحي بأن هذا التفكير فوق الزمان والمكان أي معرفة مطلقة
كالمعرفة الدينية. إنها معرفة مستمدة من الماضي العريق ومستمرة حتى اليوم وستبقى.
وهي معرفة مفارقة للمعرفة العلمية المتسمة بالنسبية، والمرتبطة بسياقها الزمكاني
والمعرفي
المتوالية الثالثة : هامش الورقة
مكان للتفسير والتوضيح والكشف عن المبهم والغامض. وبذلك فالهامش يفسر ما ظل غامضا
في الخلاصة الأولى وهو تثمين وتقويم وجهي الحياة.
قال الرائي : الوجود أريكة والعدم صولجان
ترشح
كلمة أريكة بمعان عدة، فهي مكان للجلوس والاستراحة، مكان مريح ومطمئن، لكن
البقاء فيه مؤقت ينتهي بالمغادرة.
أما العدم فهو صولجان، والصولجان رمز الملك بكل
ما يعني من سلطة وجاه، وغنى وخدم وامتلاك الدنيا وما فيها وديمومة على العرش،
وبذلك فالصولجان بمعانيه أرقى وافضل من الأريكة ، وبذلك يكون وجه العدم أحسن من
وجه الوجود .
إن هذه الصورة هي التي تميز التفكير الشعبي المستمد من فهم خاص لبعض آيات
القرآن الكريم: يقول تعالى في سورة الأنعام32 : وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا
إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ۖ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ ۗ
أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾
وجاء في سورة الإنسان : إِنَّ الْأَبْرَارَ
يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا 5 عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا
عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا 6 ..... وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا
جَنَّةً وَحَرِيرًا 12 مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ ۖ لَا يَرَوْنَ
فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا 13 وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا
وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا 14 وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ
فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا 15 قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا
تَقْدِيرًا 16 وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا 17
عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّىٰ سَلْسَبِيلًا 18 وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ
مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا 19 وَإِذَا
رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا 20 عَالِيَهُمْ ثِيَابُ
سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ ۖ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ
رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا 21 إِنَّ هَٰذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ
مَشْكُورًا 22
إن الصورة الشعرية تعلي
من قيمة وجه الحياة المستقبلي المؤجل الذي لم يعش بعد ، وهو وعد للفقراء الذين لم
يعيشوا حياة مريحة في الوجه الأول للحياة أي الحياة الدنيا. فالصورة تعكس التصور
الشعبي الصوفي الطرقي الذي يزهد في الدنيا ويمني النفس بحياة الملوك في العالم
العلوي، ذلك التصور التي عبر عنه قارئو عظم الكتف وفصل القول فيه الخط الزناتي.
وقد عبر الشاعر عن هذه الفئة التي لم تجد
سبيلا إلى حظها في الدنيا فأرجأته إلى الآخرة وعظمت من شأنه و حطت من قدر العالم
الدنيوي مستدلة ببعض آي القرآن الكريم بالهامش، وعبر عن لا عقلانية تفكيرها بكلمة
في عجالة، وعبر عن لا تاريخية هذا التفكير بقوله
بدون تاريخ .
إن النص ليس نصا رؤياويا ، وإنما نص يعيد
إنتاج معرفة قديمة من أجل تعريتها وفضحها موظفا رموز الثقافة الشعبية وخلفياتها
التاريخية التي ما زالت سائدة حتى اليوم.
ملاحظة أخيرة استوقفتني في النص تخص كلمة
العدم . هذه الكلمة " تعني سلب الوجود عما من شأنه أن يكون موجودا، وقيل: العدم نفى الشيئية عما من شأنه أن يكون
شيئا". فكيف نتحدث عن وجه من
وجوه الحياة في العدم إذا كان هذا الأخير يفيد نفي الشيئية عن الشيء."
فهل يمكن تأويلها بالسخرية من التصور الشعبي الذي يعيش العدم في الحياة ويؤجل وجوده الحق إلى العالم الآخر - الذي هو اللا وجود -، مادام الوجود الأول عابرا، مجرد جلوس مؤقت على أريكة ، والآخر مُلْك دائم. ربما.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق