جميل
جدا أن نحتفي بالشعر والشعراء في شهر تبدع فيه الطبيعة بألوانها الزاهية، والأجمل
أن نحتفي بشاعرة عصامية أصيلة أبدعت وتبدع كما أبدع أسلافها من الخنساء حتى نازك
الملائكة بروح حداثية دائمة التجدد، تُطوع الزمان والمكان والأحداث والأشخاص،
فتبني مملكة شعرية لا تحدها حدود طبيعية أو عرقية أو عقدية، مبدأها الحرية في
بعدها الوجودي، والإنسانية في بعدها الشمولي، والغنائية في بعدها
الإيقاعي. مملكة تنتصر على الزمن، إذا أشرقت شمسها لا يلحقها الأفول. كلما
داهمها ليل مكتئب تُشرع حلمها، تخطف الشمس إلى مغربها، فتطرد ظلام اليأس بمصباح
شعرها، إنها الشاعرة والباحثة والمناضلة في زمن كان النضال فيه نهرا جارفا يصب في
محيط متلاطم الأمواج، الشاعرة مليكة العاصمي.
وموضوع حديثي في هذا الاحتفاء هو بناء الدلالة في ديوان أشياء تراودها
-كتاب العصف([1])-
النص الأدبي "نسيج من الكلمات المرتبة
ترتيبا يحمل معنى"([2])
قد تكون له في القراءة الخطية علاقة بالعالم الخارجي، لأن وحداته المتتابعة لها
مرجعها الخارجي المتعدد والمعقد، لكنه في المستوى الثاني من القراءة قد يحطم هذا
النوع من العلاقة المبنية على المحاكاة ليبني دلالته في جدليته مع قارئه الذي يؤسس
له مرجعيته الخاصة. هذا التصور نابع من طبيعة النص الأدبي، فلغته الترميزية تتطلب
قارئا له من الكفاءة والقدرة ما يساعده على فك مغاليقها، ويؤهله إلى محاورته وسد
البياضات التي تملأ هذه اللغة.
إن العلاقة التي يقيمها القارئ مع النص هي ما
يصطلح عليها بالقراءة. وهي الوجه الثاني للكتابة
إن لم تتجاوزها. فالكتابة فعل منته محصور بين بداية ونهاية، أما
القراءة ففعل مفتوح يحقق تراكما في إنتاجية النص، إذ تتعدد بتعدد القراء، وبواسطتها
يصبح النص فضاء تتنازعه احتمالات دلالية متنوعة لا يتم تحققها إلا بواسطة سلسلة من
القراءات المختلفة. هذه المرجعية الخاصة والتي يمكن أن نطلق عليها المرجعية النصية
أو الأدبية تنبني أساسا على تجاوز المرجعية الحرفية التي تفصح عنها القراءة الخطية
لعدم تلاؤمها مع الأساس الذي تقوم عليه استراتيجية الخطاب الأدبي. إن عملية القراءة تسعى بواسطة التأويل إلى بناء معنى ممكن ضمن
إمكانيات أخرى يشكل ثابتا بنيويا يحكم الخطاب الأدبي من أوله إلى نهايته. وهو ما
اصطلح عليه ريفاتير بالدلالة([3]).
هذا ما سأحاول القيام به وأن أمسك بين يدي
ديوان" أشياء تراودها _ كتاب العصف_ للشاعرة المغربية مليكة العاصمي لبناء
دلالته. وهو ديوان يضم بين
دفتيه مجموعتين شعريتين: المجموعة الأولى، "أشياء تراودها" وهي التي سمي
الديوان باسمها، وتضم ثمان قصائد. والمجموعة الثانية "مدن من سراديبها "
تتضمن ست قصائد. فالديوان في مجموعه أربع عشرة قصيدة ذات نفس قصير.
يستوقف القارئ عنوان الديوان أشياء
تراودها. كتاب العصف. هي أشياء نكرة غير محدودة النوع أو العدد لكنها مقيدة
بوصف" تراودها". وهذا التقييد يمنحها خصوصيتها وتميزها،
ويحولها من أشياءَ نكرةٍ إلى أشياءَ متفردةٍ لها ارتباط بالذات الشاعرة، فالمراودة
تفيد معنى المراجعة والإلحاح ، أي أنها تدخل في علاقة خاصة مع الذات
الشاعرة. فما هي هذه الأشياء التي
تراودها؟ ومن تراود؟ هل هي الذات الشاعرة
التي جعلت من نفسها شخصية أخرى تتقمص كل الضمائر تارة متكلمة وتارة مخاطبة وتارة
غائبة، أم أن ضمير الغائب يعود على الأشياء؟ من يراود من؟ هل الأشياء هي التي
تراود الذات الشاعرة وتلح عليها؟ أم الشاعرة هي التي تراود هذه الأشياء وتريد أن
تحولها من العابر إلى الثابت حينما تمنحها وجودا داخل الخطاب الشعري؟
العنوان الفرعي "كتاب العصف". الكتاب تصنيف لنوع ضمن أنواع أخرى
إذن فهو تقييد وحصر لأشياء يربط بينها رابط هو اندراجها ضمن ما يمكن وصفه بالعصف،
تقييد وحصر لنوع من العلاقة التي تقيمها الذات الشاعرة بعواطفها وانفعالاتها وسلوكها
مع ذاتها أولا، ومع محيطها ثانيا. الكتابة تقييد وحصر، والعصف من
العاصفة التي لا تبقي ولا تذر([4])،
لأنها تخلخل وتزلزل وتخسف. وهي وصف عام تتقاطع فيه عواصف متعددة. فأي علاقة بين المراودة بما فيها من مراجعة
وإلحاح، والعصف بما يحمله من قوة وعنف.
لنعد إلى الديوان لنحاول استكناه طبيعة
الأشياء وطبيعة العلاقة الخاصة بينها وبين الذات الشاعرة. هل هي عصف أم نسيم؟
وليكن منطلقنا عناوين القصائد نفسها ما دام العنوان هو مبتدأ النص: لنتأمل
العناوين: مقصلة، وجع، المساء الأخير، رياح الشتاء، الفجر، عصف، فاصلة، جنون.
يمكن
إيجاد علاقة بين هذه العناوين وبين العصف، فالمقصلة آلة عصف، والوجع مظهر من
مظاهره، والمساء الأخير نهاية عاصفة لمرحلة. ورياح الشتاء عاصفة بطبيعتها،
والفاصلة قطيعة عاصفة، والجنون عصف بالعقل. والمراودة قد تبدو هادئة وتنتهي عاصفة.
نميز
في هذه العناوين أيضا بين خمسة أشياء نكرة هي: مقصلة -وجع -عصف -فاصلة- جنون، وبين
ثلاثة معرفة هي: المساء الأخير والفجر ورياح الشتاء.
الأشياء النكرة أشياء مبهمة طارئة غير مألوفة وغير
متكررة، تطرأ فجأة من غير ميعاد، فتقع المراودة وتتحول من شيء طارئ عابر إلى تجربة
فردانية ترتقي بها الشاعرة إلى أن تصبح تجربة إنسانية. وحينما تنتظم في بناء لغوي
تصير شكلا له وجود لا يمحوه النسيان.
والأشياء المعرفة تقع في الزمن الممتد المألوف
المساء الأخير، رياح الشتاء، الفجر، لكنها تمنحه خصوصيته الشعرية.
لنتأمل
بعضا من هذه النصوص، ولنبدأ بنص مقصلة: يوحي العنوان كما سبقت الإشارة بآلة القتل
العنيف الإرادي. فأي مقصلة هذه ولمن نصبت؟
تقول الأسطر
الثلاثة الأولى
عَناكِبُ المسَاء
أسْبلتْ خُيوطَهَا
علَى أَريكةٍ
تَقبع في زاوية المتكئ المهجور. ([5])
تعكس الأسطر الثلاثة الأولى من النص صورة
ثابتة توحي بالغياب والفراغ والصمت المطبق والكآبة، لا إنسان ولا حياة، المساء وحده بكآبته يمارس سطوته، ويخرج عناكبه
لتسيج المكان وتحكم صمتها عليه، فالأريكة التي تكون في المساء متكأ للراحة صارت
مهجورة، والمساء زمن الراحة له عناكب تحكم خيوطها على الأريكة، وهي صورة تجعل
المكان موحشا ومخيفا، وتحول أنس المساء وهدوءه إلى وحشة قاتلة.
تتجسد هذه الوحشة القاتلة من مرجعية الصورة
الخارجية المتخيلة، فالمساء ليست له عناكب إلا تخيلا، والعناكب مخيفة ولا تسكن إلا
في أماكن الخراب والصمت المطبق.
في الأسطر الموالية:
لعلهم بادو
ونحن في انتظارهم
نعالج الآمال والقصائد المنفعلة
يقتلنا الوقت المقيت
ساعة
نقتله للحظة ([6]).
تحضر
الذات الشاعرة (ضمير النحن) من خلال توجساتها وانتظاراتها وانفعالاتها، ونسج آمال
عودة الغائبين إلى دفء المساء وألفته.
تتراوح هذه التوجسات بين اليأس والأمل، تعيش حالة صراع مع وقت الانتظار المقيت
الذي يمارس فعل القتل فينا ساعة ونمارسه فيه للحظة، والمقابلة بين ساعة ولحظة تعكس
الصراع غير المتكافئ بين الواقع القاهر وبين الذات، كما يصور المعاناة والعذاب
الذي تعيشه الذات الشاعرة بين اليأس والأمل. فساعة من الانتظار مقدارها خمسون ألفا
وعمر من الصبر. أما اللحظة فوقت عابر.
لقد وصفت الشاعرة جيدا حالة الانتظار
المسائية القاتلة التي تطول ولا تنتهي، فيتوهم القارئ أن المقصلة مقصلة وقت
الانتظار نصبت لتقطع رقبة الذات الشاعرة ومن معها.
إن هذه الوحدة في علاقتها بمرجعيتها الخارجية
المتخيلة تصف حالة انتظار قاتل، وكل الصور المتتابعة مجرد أنساق استعارية تعيد
إنتاج البنية الرحمية([7])
التي تختزلها كلمة واحدة لها علاقة بعنوان القصيدة الموت البطيء بمقصلة الانتظار.
وفي
أوج الصراع بين الواقع بزمانه ومكانه وعناكبه، ترفض الذات االشاعرة الاستسلام للانتظار
القاتل، فتغير حالتها مائة وثمانين درجة، وتنتقل من حالة إلى نقيضها في لحظة وجيزة
دون مقدمات ولا استئذان.
ولحظة
يخرج من ردائه
ويرتدي
قبعة الجنون
فيفتح
الشعر له بابا
ليدخل
القصيدة.([8])
هذا الانقلاب من منطق العقل إلى منطق الجنون
يفقد معه الوقت سيفه القاتل، ويتحول من وقت له مرجعيته الخارجية التي يحكمها منطق
العقل إلى وقت شعري له مرجعيته النصية المتخلية. إنه لم يعد انتظارا قاتلا لأنه
أصبح مشغولا بفضاء الشعر وبناء متخيل القصيدة، بناء مقصلة من نوع خاص لتكون
المواجهة بين الواقع وبين المتخيل.
هذا الانفتاح والمتخيل سيغير
من نظرة الشاعرة للمكان.
فتخسف الأرض
وتختفي أرائك مع
انتظارها
في المقصلة.([9])
يتخلص
الوقت من زمنيته التي تعد بالثواني والدقائق، يتخلص من منطقه، من علاقته بالعقل
والانتظار والخوف القاتل، ويرتدي قبعة الجنون. تقطع الذات الشاعرة علاقتها بالواقع
المحكوم بالعقل والمنطق والساعة الرتيبة. الجنون تخلص مما يربطك بالزمان والمكان
والمحيط لتنكفئ على ذاتك ودواخلك وتخلق حياتك الفردانية.
بواسطة
الجنون ينفتح باب آخر هو باب الشعر، مسكن الجنون، فيتحول الواقع إلى نقيضه (العنكبوت
يمج خيطه، والأرض تخسف، وتُنصب المقصلة للأرائك مع انتظاراتها.).
تفر الشاعرة
من الواقع الرتيب الممل إلى عالم الحلم والخيال، فتخرج من حالة الغثيان بمفهوم
سارتر للمصطلح إلى حالة الإشراق والتجلي، وبدلا من أن يمارس عليها القتل البطيء في
واقع مرفوض، تنصب بواسطة الشعر مقصلة لهذا الواقع بأشيائه. وما يثير الانتباه أن
المقصلة النكرة في العنوان صارة معرفة في نهاية القصيدة، والأريكة وانتظاراتها ظلت
نكرة. المقصلة صارت معرفة لأنها من صنع الذات الشاعرة، أما الأرائك وانتظاراتها
فصارت نكرة لأنها لم تعد تربطها مع الذات أي علاقة.
تعكس
القصيدة إذن أهمية المتخيل الشعري الذي يخلص الذات الشاعرة من رتابة الحياة
وانتظاراتها، تصبح خارج الزمان والمكان فيختفي الواقع بكل تجلياته وميكانيكيته
ومنطقه وعقله وعنكبوته وانتظاراته وأرائكه في المقصلة.
وإذا كانت
التجربة التي عاشتها الشاعرة تجربة ذاتية، فقد ارتقت بها إلى تجربة إنسانية
بتجريدها من كل ابعادها الواقعية الخاصة من زمان ومكان وحدث، ثم حولت التجربة
الإنسانية إلى تجربة شعرية بواسطة اللغة
بإيقاعها وصورها الاستعارية المتتابعة التي تعيد تنظيم الأشياء والعلاقات خارج مرجعية اللغة
اليومية الذي تتسم بالاجترار والتكرار والتعيينات والتسميات المتداولة.([10])و تلغي نظرة العقل والمنطق للوقت لتحل محلها نظرة الجنون
والمتخيل والشعر ، فحررتنا من سلطة الرتابة والاجترار والتكرار، وحققت
الحرية بفعل الدور الي تقوم به في خلخلة
اللغة وإبداعها من جديد.
إن دلالة القصيدة لا تكمن في معانيها ومحاكاتها للواقع
المتخيل المبني بالاستعارات المتوالية، بل في أهمية المتخيل في الخروج بالإنسان من
اليأس ورتابة الانتظار إلى حالة النشوة والاحساس بقيمة الحياة. وتوظيف كلمة مقصلة
تفيد القطع المطلق مع سلطة الواقع المألوف التي تمارس علينا الموت البطيء
بالانتظار المقيت.
لا تختلف
القصيدة الثانية "وجع"([11])
عن القصيدة الأولى، فالزمن هو هو ( المساء – الليل)، وصفاته هي هي وإن اختلفت
الصور، ففي قصيدة "مقصلة" له عناكب تنسج خيوطها على الأريكة المهجورة ،
وفي وجع أسندت إليه صفة الكآبة.
والليل مكتئب
ماله صاحب أو حبيب
([12])
المكان في القصيدة الأولى مهجور موحش لا
حياة فيه، وفي القصيدة الثانية المدينة محزونة موجعة. في القصيدة الأولى يمارس وقتُ
الانتظار فعلَ القتل، وفي القصيدة الثانية يمارس فعل التعذيب بضربات المطارق وغربة
الطير وهجرة النوارس ولوعة الشعراء وموجة اليأس وصراخ المدينة.
في
القصيدة الأولى يواجَه الواقع بالجنون والشعر، فينصب له الشعر مقصلة، وفي القصيدة
الثانية تواجه نوبات الوجع بالحلم المشرع .
كلما
داهمت قلبها نوبة
أشرعت
حلمها([13])
فدلالة القصيدة وبنية رحمها
هي انتصار الإيمان بالحلم على الألم، كما انتصر الجنون والشعر على الانتظار
المقيت.
والفرق بين القصيدة الأولى والثانية يكمن
في الصراع الفردي والصراع الجماعي. في القصيدة الأولى الوجع وجع فردي، وسلاح
الانتصار على الانتظار المقيت والزمن الكئيب هو الشعر والمتخيل. وفي القصيدة
الثانية الوجع وجع جماعي وجع المدينة في الزمن نفسه الزمن الليلي، وسلاح الانتصار
أكبر من الشعر إنه الحلم المشرع على الفجر.
في
قصيدة "عصف"([14])،
بنيت دلالة القصيدة على وصف حالتين لذات واحدة. الحالة الأولى، حالة الذات التي
يعود عليها الضمير المؤنث الغائب، وقد طاف بها طائف عاصف، فصمدت في وجهه وقاومت كل
أوجهه التي رسمتها الاستعارات المتوالية:
ما تثاءبت
او
عصفت بها الرياح
لحظة
او
استفاقت من سباتها على سنابك الخيل
مجددا
ولا
على صهيلها
الجامح
او عواء الذئب
او تبرج الفراشه.
كان لها في بؤرة المساء غيهب تسكنه
وتختبي
حيت نزول الليل تارة
وتخطف
الشمس على مخدعها طورا
وتشعل
الظلام.
كم
اغرق الصبح جنونها
وقد تثاقلت في فمها عقارب الحروف.([15])
الحالة الثانية تتحقق مع لحظة الوعد الكبير،
فيهدأ العصف وتغدو بلسما بهية وارفة تحتضن الكون بعشقها الأنيق ثم تمتص الندى من
المساء.
فدلالة القصيدة في كل هذه النصوص لا تبرز إلا
في نهاية النص بعد اكتمال اللغة الاستعارية الواصفة، وتتحقق في أهمية المقاومة
العاصفة، وعواقبها البلسمية الندية.
يمكن أن نميز في هذه النصوص الثلاثة بين
التمثيل الأدبي للواقع (المحاكاة) وبين دلالة القصيدة ووحدتها، فالتمثيل الأدبي
للواقع يتغير باستمرار لأنه يُؤسس على مرجعية اللغة أي على علاقة الكلام بالأشياء
الخارجية واقعية كانت أم متخيلة. المحاكاة
تضاعف المعنى وتعدده لذا نجد في كل نص معاني متعددة، ومتغيرة كما يقول ريفاتير([16]).
لكن إذا تأملنا هذه المعاني لا في نص واحد وإنما في الديوان كله، نجده يحقق وحدة
دلالية من خلال ثابت واحد تدل عليه، اصطلح عليه بالبنية الرحمية التي صارت القصيدة
أو القصائد تنويعا عليها، ولا يمكن الوصول إلى بنائها إلا في نهاية القصيدة بعد
قراءة استرجاعية([17])
من النهاية إلى البداية. وبذلك تصير المعاني مجرد متغيرات لهذه البنية الرحمية خصوصا
إذا كانت القصيدة مبنية من قطبين أو أكثر، فالقطب الأول يكون قائما على محاكاة
مباشرة، لكن عندما ينظر إليه انطلاقا من القسم الأخير من القصيدة، يتغير معناه
ليصب في دلالة القصيدة فتتغير وظيفته ويستدعي تأويلا أخلاقيا وإنسانيا. وبذلك
فالنهاية هي التي تنظم فهم القارئ للبداية. يتحقق هذا الفهم في قصيدتين قصيدة جنون
و"مدن من سراديبها". قصيدة "جنون" تبدأ بأفعال وسلوكات جنونية
مرفوضة من قبل المجتمع لأنها لا تصدر إلا عن ذات تعيش على هامش المجتمع تنتقم منه.
أقفز
فوق الشهب مع الجني المتقافز في رأسي
وأطير
مع الطير
وأفتن
خلق الله([18])
هذه الأفعال الثلاثة توحي بشخصية المتكلم فهي
أفعال مرفوضة يُتجنب صاحبها، وتأتي تفصيلاتها في ما يتبعها من أفعال:
أقمش ذاك
أدس أصابع كفي في عين الأعداء
أسطح
رأس العابر بالصخر
وأرجم
هذا بالجمر ـ
وأحرق
تلك
أقطع
طرق الأمن
وأصنع
كارثة في الكون.([19])
في القطب الثاني من القصيدة يتغير فهمنا
للقطب الأول، لأن الأفعال تنتقل من أفعال عدائية إلى أفعال عقابية من الظلم إلى
العدل.
مالي أرحم من لا يرحم
مالي أتركهم يلتحفون غوايتهم
سأعاقبهم
إييه غادي ندير فضيحة. ([20])
هذه
الجملة الأخيرة على الرغم من أنها من طبيعة الأفعال الأولى، إلا أنها تختلف عنها
لأنها جاءت في نهاية القصيدة. في البداية تفهم على أنها فضيحة الذات الشاعرة، وفي
النهاية تفهم على أنها فضيحة ضمير الجامعة الغائب "الهُمْ" الذي يلتحف
غوايته.
في "مدن من سراديبها"([21])
بنيت القصيدة على تعداد ما كان يمكن أن تقوم به الذات الشاعرة ولم تقم به من أفعال
وسلوكات، فتوهم القارئ بأنها نادمة على كل ذلك لأنه الوسيلة المعتمدة في الوصول
إلى القمة، لكن الجملة الأخيرة تقلب المعنى الأول، وتبين أن الشاعرة فاتها ما
فاتها اختيارا منها، لأن ما فاتها من مكر ودهاء ووصولية ونفاق لا يندرج ضمن نسقها
القيمي. إذن فالجملة الأخيرة هي التي تبني دلالة القصيدة.
إذن
فاتني
دونما
أسف
كل
شيء
وإذن
لم يفت أي شيء
أبدا لم يفتني شيء.([22])
فدلالة القصيدة هي: أنا لست
من يفعل ما فات. وبلغة ضدية، هذه قيمهم وهذه قيمي. إن النص يرسم لوحة للحياة في
سراديب المدن، وموقف الشاعرة منها.
نخلص
من خلال قراءتنا لهذه النصوص أن ديوان " أشياء تراودها"، وإن تعددت
قصائده وتنوعت استعاراته، وتلونت أساليبه الشعرية، فإنه تمطيط لبنية رحمية واحدة
تختزلها كلمة العصف التي وردت في العنوان. وتعكس رؤية الشاعرة للواقع، وكيفية
تفاعلها معه، بعدم الاستسلام له، سواء كان واقعا ذاتيا، أو واقعا اجتماعيا. ويتبين
من خلال تتبعنا للنصوص أن أسلحة الشاعرة في مواجهة هذا الواقع بكل تلويناته متعددة
منها: الاحتماء بالمتخيل الشعري، والحلم بغد
أفضل، ورفض الوصولية، والمواجهة والمعاملة بالمثل، لكنها - وإن تعددت - فإنها تحقق
النتيجة نفسها، وهي الانتصار على الواقع المعطى وعدم الاستسلام له.
[1] . مليكة العاصمي،
أشياء تراودها – كتاب العصف- منشورات بيت الشعر في المغرب ، مطبعة البيضاوي الطبعة
الأولى 2015 .
[2]
. ينظر محمد خرماش،
النص الأدبي وإشكالية القراءة والتأويل، مجلة قراءات، جامعة محمد خيضر، بسكرة
الجزائر، المجلد 2، العدد الأول، ماي 2010 من ص1إلى ص10. ينظر أيضا : محمد خرماش في.p1 https://www.aljabriabed.net/n67_03kharmach.htm
[3]
.ينظر: يقول مايكل ريفاتير، : «السمة المميزة للقصيدة
وحدتها، وهي وحدة شكلية ودلالية في آن واحد. و من ثم فكل مكون في القصيدة يشير إلى
ذلك الشيْ الآخر، الذي تدل عليه ، سيكون ثابتا، وسيكون بما هو كذلك قابلا لأن يميز
تماما من المحاكاة، هذه الوحدة الشكلية و الدلالية التي تحتوي قرائن اللامباشرة
كلها أسميها الدلالة. » دلائليات الشعر، ترجمة ودراسة، محمد معتصم، منشورات كلية
الآداب والعلوم الإنسانية جامعة محمد الخامس الرباط ، مطبعة النجاح، الطبعة الأولى
1997. ص 9
[4]
.
ابن منظور، لسان العرب، دار صادر، مادة عصف
[5]
.
ديوان، أشياء تراودها – كتاب العصف- م. س
ص4
[6]
.
نفسه، ص 4-5
[7]
.
يعرف مايكل ريفاتير البنية الرحمية بقوله: «مفهوم تجريدي لا يتحقق في ذاته أبدا،
بل يصبح ظاهرا في متغيراته فقط. أي في اللانحويات، شأن البنى كلها....يمكن تلخيص
البنية الرحمية في كلمة واحدة.» دلائليات الشعر. م. س ص21 -22
[8]
.
ديوان أشياء تراودها، م.س ص 5
[9]
.نفسه
ص 5-6
[10] .
ما يصطلح عليه مايكل ريفاتير بالمحاكاة في القصيدة . يقول : «ما يصنع القصيدة
ويشكل رسالتها لا علاقة له بما تقوله لنا أو باللغة التي تستعملها ، بل له العلاقة
كلها بالكيفية التي يحرف بها المعطى اللفظي شفرات المحاكاة باستبدال بنيته الخاصة
ببناها.» دلا ئليات الشعر ص21
[11]
.ديوان
أشياء تراودها .. ص 7-10
[12]
. نفسه ص 7
[13]
.نفسه
ص 10
[14]
.
ديوان أشياء تراودها ص 28-33
[15]
.نفسه
ص 29-31
[16]
.يميز
مايكل ريفاتير بين مصطلح الدلالة وبين
مصطلح المعنى الذي يحتفظ به« للخبر
الذي ينقله النص على مستوى المحاكاة ، فالنص من وجهة نظر المعنى، سلسلة من وحدات
الخبر المتتابعة ، وهو من وجهة نظر الدلالة وحدة دلالية واحدة. » دلائليات
الشعر ص9
[17]
.
يميز ريفاتير بين نوعين من القراءة : القراءة الاستكشافية للنص وهي القراءة الخطية من أول النص إلى
نهايته. و القراءة الاسترجاعية وهي القراءة التأويلية . ينظر دلائليات الشعر ص 17
و ما بعدها
[18]
. ديوان أشياء
تراودها ص 39.
[19]
.
نفسه ص 40
[20]
.نفسه
ص41
[21].نفسه ص 43-57
[22]
.نفسه
ص 56-57