تأبين
كانَ الوقتُ أصيلًا.... حينَ تعالتٍ الهواتفُ بالتَّنادي:
نادَى الرحمانُ عبدَه فلبَّى النداءَ. فاضَ المساءُ بطوفانِ الرسائلِ، وعويلِ
الهواتفِ.. عبدُ الرحمانِ مات ... المتقيُّ التقيُّ النقيُّ فاضتْ روحُه وعُرجَ
بها إلى السَّماءِ.
ستونَ سنةً
ونَيفٌ منَ اللُّحمةِ الأخويةِ
جمعتْنا، ذُقْنا
فيهَا ما ذقْنا منْ فواكهِ الزمانِ حُلوِها ومرِّها، أتأملُها الآن صورًا
تتسابقُ نحوَ ضوءِ الذاكرةِ، تتلونُ بأحزانِنَا وأفراحِنا. قال لسان الحال:
كُنَّا كَغُصنَينِ فِي جُرثومةٍ سَمقـــــــــــــــَا حِيناً بأحسنِ مَا تَسْمُو لَهُ الشَّجَرُ |
حتَّى إذا قيلَ قدْ طَالَتْ فُروعُهمَا فَطَابَ فَيئَاهــُـمَا واسْتنظرَ الثَّمَــــرُ |
أخنَى علَى واحدٍ ريبُ الزمانِ ومَا يُبقِي الزمانُ علَى شْيْءٍ وما يَذرُ |
كانت أخوتُنا خيمةً نَلُوذُ
بها كلَّمَا اشتدَّ حرُّ الهَاجِرةِ، علَى جَنَبَاتِهَا عينُ ماءٍ جاريةٍ، وشُجيراتُ
نخيلٍ تسّاقطُ علينا دونَ أن نَهزَّها رٌطبًا جنيًّا. نتفيَّأُ
ظلالَ المَحبَّةِ والوفاءِ التي زُرعتْ فِينا سَوِيًا، فأيْنَعَتْ وأزهرَتْ ثم
أثمرَتْ. كُنتَ أنتَ أيها الأخُ الأكبرُ جذعَها المتين، وكنتُ أنَا وإخوتِي أغصانًا
تهزُّها الريحُ كُلَّما هبَّتْ شرقيةً، فنجدُ في فروعِ الجِذعِ الذِي كنتَه ملاذًا
يَقينَا صقيعَ شتائِها، وظِلاًّ ظليلًا يردُّ عنَّا شُواظَ صيفِها، ... فكانتْ
خطانَا على امتدادِ الزمنِ العنيدِ جداولَ صافيةً يُسمعُ لحصَاها رنينٌ نَسْتَلذُّه
تارةً، وتارةً يكونُ لها أنينُ.... فتكونُ أنتَ أنتَ بَلْسَمَ جرحِه ...فَيتحوَّلُ
الأنينُ إلى حنينٍ.
أيها
الأخ الوفيُّ الذي كنتَ، .... ماذا تَبقى منكَ الآنَ، .... ممَّا كانَ.... أيُّهذا
الغيثُ الذي يلازم الغمامَ، كنتَ الناطق في مثل هذا المقام، فهل تسمح لي في غِيابِكَ
بالكَلام، وإن كان الكَلام لا يشفي الكِلام؟.....لأُعلنَ أمامَ كلِّ الأنام، أنني
فَقدتُ بفقدكَ الأخَ الصديقَ الرفيقَ الصبورَ السموحَ الصبوحَ. كنتَ وما زلتَ وستظلُّ حتى في غيابكَ.. ظلًّا ظليلًا يُتفيَّأُ
في صَحْراءَ لا ظلَّ فيهَا لِي إلا ظلُّك، أَستظلُّ بهِ حينَ تغيبُ الظلالُ.
كنتَ فِي أسرتِنَا الصغيرةِ ثالثَ الأثافِي، بكَ
يستوي قِدرُنا على نارِه الهادئةِ، نَرمي بكَ مُلمَّاتِ مشاكلِنا، وباسقاتِ همومِنا،
فتنيرُ حياتَنا بنصائحِك المحفوظةِ، وتُغني جلساتِنا باحاديثكَ المعهودةِ.
بصبرٍ جميلٍ، وأملٍ في الله كبيرٍ، واجهتَ الداءَ سنينَا. وهَا أنتَ تَتسللُ ذاتَ خميسٍ - وَسماءُ اللهٍ ممطرةٌ - دونَ أنْ نسمعَ لكَ صرخةً أو أنينَا، فتُزَفُّ بَعْلًا إلَى الأرضِ التِي تُكنُّ لكَ وتُكنُّ لهَا حبًّا دفينَا. فمن بعدكَ يبقَى لنَا، من بَعدَكَ يكون ثالثَنَا، منْ بعدكَ يُجالسُنا، يُشاركُنا حنينَ طفولتِنا، يحكِي لنَا عنْ شِيمِ الوالدِ الذي ودَّعنَا ونحنُ حُمْرُ الحواصِلِ، وعنْ صبرِ الوالدةِ التِي كانتْ لنَا حصنًا متينَ الأواصرِ.
فَلِمَنٍ أَقُولُ إذا تُلمُّ مُلمَّةٌ
أرِنِي بَرَأْيِكَ أمْ إلَى مَنْ أَفْزَعُ
" فاجعٌ موتٌك يا ابنَ أمِّي وأبِي، موجعٌ غيابُكَ، فِي لَحْظَةٍ كنتَ فيهَا مأخوذًا بشيمِ الصدقِ والنبلِ والوفاءِ والعطاءِ"، مُحِبًّا للخيرِ، مبادرًا للقيامِ بهِ دًونَ أن تَعلمَ يُسراكَ ما قَدَّمتْ يمناكَ، قويَ الإيمانِ باللهِ راضيًا بِقَدرهِ. لمْ يَشغَلْكَ المرضُ عنِ القيامِ بمهامكَ المهنيةِ التِي كُلِّفتَ بِها، لَا ولَا دَعوةَ أحبائكَ إلى مَجالسِ الأحاديثِ المؤنسِةِ، ناسيًا أو متناسيًا أن لمْ يَبْقَ لكَ فِي هذهِ الدُّنيا في أحسن الأحوالِ إلا سنواتٌ معدوداتٌ، كان بلسمَ قلبِك ونسيمَ تفاؤلِكَ اسْتحضارُك في كل لحظةٍ أنك مُقبلٌ على ربٍّ غفورٍ رحيمٍ تحسنُ الظنَّ بهِ، فلم تقنطْ من رحمتِهِ، ولم تيأسٍ من مغفرتهِ، فواظبتَ على صلاتكَ قيامًا وقعودًا، ولمْ تَمَلًّ من الحمدٍ والشُّكرِ والدُّعاءِ رُكوعًا وسُجودًا، وداومتَ على قراءةِ ما تَيسرَ من القرآنِ ترتيلاً وتجويدًا.
عشتَ مسكونًا بالبحثِ والتنقيبِ بين سُطورِ السُّورِ وآي
الذكر باحثًا عن أسرارِها وفصاحتِها وبلاغتِها، ومهووسُا بالكشفِ عن تراثٍ درعةَ
الخير، فصرتَ ملازمًا للحيوني في رِحلتِه، والتامكروتِي في سِفاريتِه، والمهدي
الجراري في تربيتِهِ، والناصري في أدعيته، فلا يمرُّ يومٌ دونَ أن تُردِّدَ:
يـا مَـنْ إِلـَى رَحْمـتِـهِ الْمفَرُّ وَمَـنْ إِلَـيْـهِ يَـلْجَـأُ المُضْطَرُّ |
وَيَـا مُغِـيـثَ كُـلِّ مَـنْ دَعَاهُ
وَيَـا قَـرِيـبَ الْعَـفْوِ
يَا مَوْلاَهُ |
بِـكَ اسْـتَغَثْنَا يَا مُغِيثَ الضُّعَفـَا فَحَسْـبُـنَا يَـا رَبِّ أَنْتَ وَكَفَى |
فَـارْحَمْنَا يَا مَـنْ
لاَ يَزَالُ عَالِمـــــــــاً بِضُعْـفِـنَا وَلاَ يَـزَالُ رَاحِـماً |
والآنَ يا أحبائِي، بعدَ رحيلِ ثالثِ الأثافِي، أستسمِحكُمْ
في السؤالِ: ما قيمةُ الحياةِ بعدَ رحيلِ الأخوةِ المفقودةِ؟ ما طعمُ الرقادِ بعد
غيابِ الأنيسِ في مجالسِ المساءِ المعهودةِ؟ ما تِرياقُ همومِ السُّهادِ بعدَ
الفراقِ؟ معذرةً يا أحبائِي: لمْ يعدْ لِي صوتٌ، بعدمَا سَقينِي أخِي برحيلهِ
فاتحةَ الرّعدِ. عقلِي المصدوعُ عاجزٌ عنْ فهمِ كيفيةِ احتضانِ قبرٍ لِقلبٍ يَنبضُ
بالحياةِ، عبدُ الرحمانِ جَدلتْه عاصفةُ المرضِ حبلَا من الرَّدَى، فطاشَ لفقدِه
العقلُ والفؤادُ، وفُجعتْ لموتِه البلادُ.
ما أمَرَّ
الفقدَ يا أحبائِي ... عينايَ من الدموعِ جفَّتْ .... حنجرتِي منَ الصمتِ
القاتلِ كلَّتْ .... فأيُّ لغةٍ تَرثيكَ يَا ثالثَ الأثافِي..؟ أيُّ
كلماتٍ تُؤَبِّنكَ؟ أيُّ قولٍ يُعزينَا فيكَ؟
ولقدْ قصدتُ الدارَ بعدَ
رحيلِكُمْ وَوقفتُ فِيهَا وِقْفـــــــــةَ
الحَيـــْــــرانِ |
وَسألتــُــــــــهَا لَكــــــنْ
بِغيـــرِ تكلِّــــــــمٍ فَتكلمتُ لكنْ بغيــــــرِ
لســــــــــــانِ |
وَا لَهْفَتِـــي وَا وَحْدَتِي
وَا حَيْرَتــِــي وَا وَحْشَتِي وَا حَرَّ
قلبـِي العانِي |
بالأمسِ،
كنتُ - أنا المفجوعُ بصمتكَ الأبدِي - جالسًا بالبيتِ وحيدًا، ألتحفُ صمتِي، أتأبطُ
حزنِي وذهولِي، أحاولُ إقناعَ نفسِي برحيلكَ فلا يُصدقنِي قلبِي، أتأبطُ فقدانَ
لقائكَ، أترك ذاكرتِي تَستعيدُ ذكرياتِي، أستعيدُ ستينَ عامًا قضينَاها معًا لحظةً
لحظةً، لتكونَ النهايةُ وداعًا. وداعٌ يعانقُ الولادةَ، وأنا أعانقُ ذكرياتِي
وأمشِي، أمشي قليلًا، أتوقف طويلًا، ألتفت ورائٍي علَّ ظلكَ يظلني من جديدٍ....
مسكينٌ أنتَ يَا أنَا، لمْ تُصَدِّقْ بعدُ أنَّ النجومَ ضوؤُها لا يدومُ، مصيرُهَا
الأفولُ، لتضيءَ دياجيرَ القُبور.
لن أنسَى ما بيننَا يا ابنَ أمِّي وأبِي،
سأزوركَ هناكَ، وأجلسُ قربكَ هناكَ: أتحدثُ إليكَ هناكَ... أدعو لكَ سلامًا سلامًا...
أما
القبورُ فإنهنَّ أوانسٌ
بجوارِ قبركَ والديارُ قبورُ
سلامًا
عليك يَا ابن أمِّي سلامًا، سلامًا عليكَ يومَ كنتَ ويومَ رحلتَ ويومَ تبعثُ
كمَا كنتَ، نقيًّا طاهرًا محبًّا ومحبوبًا حاملًا كتابكَ بيمينكَ سلامًا سلامًا...
سلامًا عليكَ شاهدًا ومشهودًا، سلامًا
عليكَ وَحدكَ الناطقَ فِي موتِكَ ونحنُ الصَّامتون، تُنَادِينَا، تَصرُخُ فينَا، تَرفعُ
صمتَكَ الناطقَ في وجوهِنَا" فلَا نَسمعُكَ، فترحلُ حاملًا سرَّكَ
الدفينَ. آهٍ ...يا أنَا... يا قليلَ الزادِ يا أنَا .... كمْ هوَ موحشٌ
دَرْبُ الذهابِ بلَا إيابٍ.
هِيَ المَقاديرُ
لَا تُبْقِي عَلَى أَحَدٍ
وَكُلُّ
ذِي نَفْسٍ فيهَا لآمَادِ
تُرْمَى الخطواتُ وراءَكَ خطوةً خطوةً، تَراكمتِ
الخُطَى، صارتْ ركامًا يَحجُبُ الرؤيةَ. تَشكَّلَ بَيْنِي وبينَكَ سورٌ لهُ بابٌ وحيدٌ
باطنُه يقينٌ وظاهرُهُ سرابٌ، "زبدٌ رمادٌ وحشةٌ كفَنٌ غِيابٌ" أخوانِ
نحنُ فرَّقَ بينهُمَا الترابُ. أينَ حلمُنَا الطفولِي؟ ضاعَ الحلمُ فِي قرارةِ
الغيابِ، فلمْ يبقَ وقتٌ للجوابِ... ظلمةُ التابوتِ اشتعلتْ ...فوداعًا يا منْ لا
أطيقُ معهُ وداعًا....
عليكَ سَلامُ ربكَ في جِنانٍ مُخالِطُــــــــــــــها
نعيـــــــــــــمٌ لا يزولُ |
|